البحث عن كتاب بين مسكويه وأركون


*سعيد الكندي

طالما وضعت كتاب «نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي» للدكتور محمد أركون على خارطة القراءة في مدد زمنية ليست بالقصيرة، وفي كل مرة أكون بين اقحام وإحجام من التوغل في العالم الأركوني، وذلك لأني كنت وما زلت أتخوف كثيراً من دخول عالمه الذي يضعني في حالة دوامة لا تنتهي من الأخذ والرد في غياهب العقل المغيب أساساً، فكلما هممت ان أقرأ كتاباً لأركون لابد أن أحيط نفسي بسياج بالكاد ينفذ إليه أحد، سواء على الصعيد النفسي غير الحسي أو الجسدي، وأدخل نفسي في هالة أقرب منها الى الكهنوت والترهبن، وأمارس عزلة لا تنتهي إلا بانتهاء قراءة الكتاب المعدة له هذه المهمة، وأعترف أنني عانيت كثيراً عندما أردت أن أقرأ الكتاب الذي نال عليه أركون شرف درجة الدكتوراه، فقد ظل الكتاب بحوزتي ردحا من الزمن مذ أن اشتريته، وذلك لما تتطلبه قراءة أركون من تفهم وتمعن شديدين يلزمانك أن تكون في حالة أقرب الى الاعتكاف في كهف بعيد لا تطالعك فيه اعين الناس، وتكون رهين أمر زممت اليه ركائبك، ولما أن انهيت قراءة الكتاب اعترضني كتاب «تهذيب الاخلاق وتطهير الاعراق.. لمسكويه» فقد شاقني كثيراً حب الاطلاع والمعرفة لما قدمه أركون عن مسكويه وكتابه عن الجوانب الاخلاقية، ولكونه من كتب التراث العربي التي يعتد بها والكفيلة بالاقتناء، فكان لا بد من شد المئزر للبحث عن الضالة المنشودة، والدرة المكنونة.

أركون في كتابه «الأنسنة…» توصل إلى الاكتشاف الأساسي في عمله هذا، وهو تباين وجود مذهب فكري انساني في العصر الكلاسيكي وتحديدا في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، في ظل البويهين، فقد ظهرت العقلانية الفلسفية المستلهمة من الإغريق واتخذت على المستوى اللغوي والأسلوبي صيغة «أدب الفلسفة، وفلسفة الأدب». لكن هذه الفلسفة ضمرت فيما بعد كما يقول أركون وماتت إلى درجة أننا نسيناها تماماً، أو بمعنى آخر كما لو أنها لم توجد قط! ثم دخلنا في عصور الانغلاق الطويلة التي فصلتنا تماماً عنها وجعلتها طي النسيان التراثي. وكتاب «الأنسنة..» يكشف النقاب عن لحظة منسية سبق أن ضربت في أرض الإسلام بمجيء السلاجقة في القرن الحادي عشر، وهو هنا يستبطن سؤالاً: كيف السبيل إلى بعث الأنسنة من جديد في العالم العربي والإسلامي؟ أو كيف يمكن أن نصل ما انقطع ونستلهمه مجدداً لكي نبني عليه نهضتنا المقبلة؟. هذا كلام مختصر ما يتضمنه الكتاب، وعلى المطلع أن يرجع الى هذا المؤلف الضخم في محتواه الفكري من حيث الكيف والكم، ليجد كيف وضع أركون يده على جرح ما زال ينزف الى هذه اللحظة الحرجة من عمر العالم العربي والإسلامي، الذي تنقض جدرانه ويتداعى بنيانه.
نعم لقد دفعني أركون وكتابه الى قراءة كتاب آخر، والذي وضع أركون من أجله دراسته وهو كتاب «تهذيب الاخلاق، ومعرفة الأعراق» لمسكويه، وقد كانت رحلة البحث عن هذا الكتاب الذي ظل يدرس في جامعة الأزهر عدد سنين، ولما كانت أياماً أقضيها في قاهرة المعز مع تزامن معرض الكاتب الدولي في مدينة نصر شتاء (2010م)، رأيت وأنا أدخل ردهة المعرض في قسم الكتاب العربي منه لوحة كبيرة معلقة في المعرض كتب عليها اسم كتاب مسكويه الذي هو قيد البحث، مما حرك دوافع النفس في اقتنائه، لكونه كتاباً يتحدث عن الاخلاق، والتي تعد من أعمدة المتطلبات التي تدرسها الفلسفة الحكمة كسلوك إنساني.
ولا ريب أنني قد وجدت الكتاب الذي ابحث عنه في دواخل النفس، وبعد أن وصلت الى ركن المكتبة التي تبيع الكتاب، كانت كمية منه معروضة على رف الواجهة الامامية، ففوجئت أن الكتاب لم يكن بتلك الجودة من حيث الطبع ونوعية الورق والتجليد، ولما أن الكتاب كان يدرس في جامعة الأزهر فيما مضى فقد آليت على نفسي أن أسعى الى حيث جامعة «الازهر الشريف» فتجولت في المكتبات المتاخمة والمقابلة للأزهر، وبعد بحث عن اسم الكتاب الذي استغلق على البعض وجدته في مكتبة قصية بعض الشيء، وقد استغرق البحث عن الكتاب مدة يسيرة سألني أثناءها صاحب المكتبة الذي يبدو أنه تجاوز السبعين عاماً، من أكون؟ ومن أي بلد أنا؟ فأجبته عن تساؤلاته، فما كان منه إلا أن قال لقد زرت عمان من قبل، هي بلدة جميلة وأهلها أناس طيبون، بعد ذلك جاء صبي بالكتاب، وأظنه قد بحث عنه في أمكنة لم يسأل عنها أحد من زمن بعيد، فكانت نسياً منسياً، كما هي أخلاقنا التي باتت بعيدة عن واقع حياتنا المعاشة، فدفعه الي وتعلوه ابتسامة قائلا: إنه كتاب رائع جداً.
لقد استطاع أركون في كتابه دراسته المؤلف الضخم جداً أن يجمع السيرة الذاتية لمسكويه من المعطيات الخاصة له من خلال المراجع التي تتحدث عنه وقيمة تلك المصادر، حيث حاول ان يستخلص سيرته من خلال أعماله بصفتها مصدرًا رئيسياً لها، كما يعترف بصعوبة جمع السيرة معللا ذلك بنقص الكثير من المراجع التي سيعتمد عليها في بحثه، ويبدو أن شكوى أركون تظل عالقة بصورة مستمرة، كونها حالة تتشابه في كثير من الدراسات التي ينبغي الرجوع اليها في عدد كبير من المصادر، والتي يمكنها أن ترفد أو تسهم في الوصول الى النتائج المرضية لها، كما أن مشكلة البحث عن المنهج لا تقل غرابة في نظره عن مشكلة المصادر والأصول.
لقد كانت متعة أيما متعة أن يفتح لك الكتاب أفقاً آخر من آفاق المعرفة، فما كان كتاب «الأخلاق لمسكويه» أن يغني عن كتب «إفلاطون» اليوناني قديما، أو كتب «كانت» الالماني حديثاً، فحسب وصف محققه وشارح غريب ألفاظه «ابن الخطيب» أنه «أنفس ما قاله فلاسفة العالم في الاخلاق، وزاد عليه ما ارتآه من فيض علمه ومزيد فهمه، مستدلا على ما يقول من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. كما أن التعريف بـ«مسكويه» وتقديمه الى القراء العرب يعتبر بحد ذاته رصيدا معرفياً يسلط الضوء على عالم وضع العديد من المؤلفات في الفلسفة وعلم الاخلاق والسياسة واللغة والأدب والأدوية وغيرها من المؤلفات، والكتاب الذي عرضنا له في هذه العجالة يعد من الكتب التي لم تنل الانتشار الواسع رغم أن المحقق ذكر أن الكتاب وكما ذكر اركون في دراسته ان نظارة المعارف قد قررته لمدرسة المعلمين الناصرية دار العلوم آنذاك وقد أصابت في ذلك، ولكن بعد ذلك تم اهماله من قبل وزارة التربية والتعليم، وأوصى المحقق بأن ينبري القائمون على الأمر أن يحفلوا به، ويخدمون أمتهم به قبل أن تنسى أخلاقنا حتى لا تغدو أثرا بعد عين.
____
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *