عزالدين المناصرة: هناك شعراء يلجأون للحكومات والأحزاب لتجميع جمهور صناعي يستمع لهم بالقوّة

حوار (استعادي) مع الشاعر عزالدين المناصرة

هناك شعراء يلجأون للحكومات والأحزاب لتجميع جمهور صناعي يستمع لهم بالقوّة

حاوره : يحيى القيسي

 

 محاورة الشاعر العربي (الخليلي) عز الدين المناصرة تظل دوما ذات نكهة خاصة، فإضافة إلى ثقافته الواسعة، وإبداعاته المتنوعة، وجمعه ما بين الأكاديمية والشعر، يمكن بوضوح تلمس روحه الجامحة غير القابلة للتدجين، فهو صاحب آراء ومواقف جدلية، وجريئة، ويعتبره بعضهم من جيل الثوريين التطهريين الذين يكادون ينقرضون. وهنا في حواري معه يمكن الإحساس بذلك التوهج الذي يسكنه كشاعر كنعاني عروبي ما يزال يؤمن بثوابت الأمة في زمن الانهيارات المتسارعة، ولست هنا في مجال التعريف بجهده، وما أصدره من كتب في الشعر والنقد، والأدب المقارن والتشكيل والسينما، فهذا أمر قد صار معروفاً للقارىء، ولكن الهدف من هذا اللقاء أساساً الاحتفاء بمجموعة من كتبه الجديدة التي أصدرها أو أعاد إصدارها مؤخرا، ثم إنَّ قارئ الحوار يتعرف هنا علي هذه الكتب، وآراء المناصرة المتعددة في الشعر والسياسة والنقد، والفكر وعالم الأكاديمية المتبدل، ولا سيما والرجل يدخل عامه الستين مبللاً بالشعر وبالأمل، وبروح الطفولة كما يقول.

يمتلك المناصرة الكثير من الآراء والخبرات في حقل الإبداع الثقافي، وثمّة الكثير مما يمكن أن يقوله عن تجربته الطويلة المتميزة، أو عن تجارب غيره من الأدباء، ولكن المقام هنا لا يتسع للكثير من البوح والتواصل مع شاعر مثل المناصرة، فالأمر يحتاج إلي الكثير من الصفحات، وربما تكفي الإشارات هنا عن الولوج في العبارات:

أصدرت إلي اليوم وأنت تفتتح عامك الستين عشرة دواوين شعرية فما المعني الكامن خلف إعادة طباعة بعض دواوينك القديمة ..هل الأمر متعلق بنفادها من المكتبات أم يدل علي توقفك عن الكتابة الشعرية لسبب أو لآخر وأنّ مشروعك قد اكتمل ؟

لم يكن المقياس النقدي يوماً يحاسب الشاعر على الكثرة أو القلّة، فهذا مقياس تقليدي قديم. المقياس الحقيقي هو النوعية والخصوصية، فهناك شعراء عاديون متوسطو الحال أصدر بعضهم عشرين ديواناً ولم يعترف القراء أو النقاد بأهميتهم. خُذ مثلاً: (خليل حاوي) الذي أصدر خمسة دواوين فقط، لكنّه حفر مكانه اللائق في الذاكرة العربية. خذ مثلاً: (بدر شاكر السياب) الذي أصدر كمّاً شعرياً متوسطاً أو فوق المتوسط. خُذ مثلاً شاعراً جيداً، أصدر عشرين ديواناً، لكنّه بدأ مثلاً بتكرار نفسه، بحيث يمكن اختصار تجربته في بضعة دواوين، أمّا الباقي فهو تكرار وإسهالٌ شعري لا قيمة له، رغم شهرة هذا الشاعر. هناك ظاهرة أعتبرها سلبية، وهي أن بعض الشعراء (يُقرّر مسبقاً) أن يصدر مجموعة شعرية كل عام. هنا يقع التكرار والإسهال. هناك شعراء حفروا مواقعهم في الشعر الحديث بمجموعة شعرية واحدة متميزة. وهناك من لم يستطع أن يجد له موقعاً حقيقياً برغم إصداره خمسة عشر ديواناً مثلاً.

أعتقد أن مجموع ما أَنتَجتُه يقع في منطقة معقولة جداً من حيث الكمّ، أما من حيث النوع، فالمسألة متروكة للقرّاء، والنقاد. صحيح أنّني لم أصدر مجموعة شعرية جديدة، لكن آخر قصيدة منشورة لي، تم نشرها في مجلة العربي ، آذار (مارس) 2005. إذن: ما زلتُ أخربش. طبعاً السبب في عدم الإصدار هو انشغالي في الأعوام الأخيرة بإنجاز مجموعة أبحاثي العلمية من أجل الترقية لرتبة (أستاذ) وقد انتهي الأمر، وحصلتُ علي الدرجة بتاريخ 25/10/2005. لهذا سيكون نصيب الشعر في المستقبل القريب أفضل، كما أتوقع. أمّا إعادة الطباعة لبعض دواويني فهي مسألة طبيعية، فقد نفدت الدواوين الفردية من الأسواق منذ سنوات بعيدة. أمّا مشروعي الشعري الذي رسّخ (موقعي) في الشعر الحديث، فهو في طريقه إلى الاكتمال بسبب العمر الزمني فقط، ومع هذا فأنا أعتقد أنّني أعيش مرحلة انتقالية لا أعرف ملامحها.

بالمناسبة كيف استطعت التوفيق بين كتابة القصيدة والإخلاص لها وبين البحث العلمي للحصول على (درجة بروفسور) ألم يكن الأمر هذا علي حساب الشعر..ودعني أتذكر هنا على سبيل المثال تجربة أدونيس وتوفيقه بين عالمه الأكاديمي وشعره؟

مهنة الأكاديمي تشبه مهنة الصحافي. وقد مارستُ مهنة الصحافة في الفترة (1970 ـ 1982)، ثم انتقلت إلي مهنة التدريس الجامعي منذ عام 1983. فالشاعر أي شاعر يجب أن تكون له مهنة يعيش من ورائها، وألاّ يكون عالةً علي الآخرين، وفق (نكتة التفرغ) الشهيرة. لقد عملتُ ومازلتُ أعمل في عمل حقيقي. أصحو في السادسة صباحاً، وأغرق في إلقاء المحاضرات، وتصحيح أوراق الامتحانات، وأعود في الرابعة عصراً إلي منزلي. أغتصبُ القراءة والكتابة اغتصاباً، فهناك خمس ساعات يومية أُخصصها لذلك، حتى لو كنت متعباً. يعرف أصدقائي المقرّبون أنني إداريٌّ منظّم في عملي، لكنَّ الشائع عني أنني شاعر فوضوي غير صحيح، فأنا أستطيع الفصل بدقّة بين (الشاعر) و(الأكاديمي)، أو بين الشاعر ومهنته. ومع الزمن تعوّدتُ على ذلك. أسأل نفسي في نهاية اليوم، ماذا أنجزت. أمّا، لماذا: أدونيس وأنا، قد نجحنا في مسألة التوفيق بين (الشاعر) و(الناقد)، فأعتقد بالنسبة لي أن القدرة علي تنسيق العلاقة بين (العقل النقدي)، و(القلب الشعري)، والفصل بينهما أحياناً هي السبب الأساس، لكن هناك سبباً آخر هو أنني جئتُ إلي العالم الأكاديمي كمهنة متأخراً، أي بعد أن ترسختُ في خريطة الشعر العربي الحديث. وأنا لم أستخدم لقب (دكتور)، ولن أستخدم لقب (بروفيسور) حتى في كتاباتي النقدية، رغم أن الناس في بلادنا تثقُ أكثر بهذه الألقاب. هذه التضحية البسيطة، جاءت لحساب الشعر. قصيدة ممتازةٌ واحدة، أفضل من أنْ أكون وزيراً، أو عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رحمها الله. والسؤال الأهم هو: لماذا نتساءل دائماً عن جفاف الشعر عند الشاعر الأكاديمي، ولا نتساءل عن جفاف الشعر وترهّله عند الشاعر الصحافي ـ رئيس التحرير!!.

ولكنك عملت وما تزال في التعليم الجامعي والحقل الأكاديمي منذ عام 1983 في جامعات (جزائرية وفلسطينية وأردنية) برأيك أين تكمن مشكلة الجامعات وعدم قدرتها على نشر الثقافة ورعايتها ؟

هناك رقابة تطبيق مقاييس الاعتماد العامة والخاصة في الأردن التي وضعها مجلس التعليم العالي، ويتم تطبيق هذه المقاييس على (الجامعات الخاصّة)، لكنها لا تطبق علي (الجامعات الحكومية). لهذا تجد مثلاً أن بعض هذه الجامعات الخاصة تتفوق من حيث مستوي التعليم في (بعض الأقسام) على الكثير من الجامعات الحكومية إذ ترهّلت هذه الجامعات في بعض فروع المعرفة لهذا السبب ولغيره. وبالنسبة لنا في (جامعة فيلادلفيا) مثلا فإننا نهتمّ بربط الجامعة بالمحيط الثقافي، والسبب هو وجود بعض المثقفين الأكاديميين في الجامعة، لكنّ (مستوى الطلبة) ينخفض تدريجياً من حيث درجة الثقافة. لقد سألتُ ذات يوم في مساق (تذوق النصّ الأدبي) عن الشاعر (أدونيس) بصفته من الشعراء الروّاد، فكتب طالب: إنه الشاعر (أبو أنيس) الذي… ثم كرّر اسم (أبو أنيس). وطالبٌ آخر قال: إنَّ القاص والروائي الأردني إلياس فركوح، (شاعر مهجري!). طبعاً: الأساتذة نوعان: نوع مثقف، ونوع يعتقد أنه بحصوله علي الدكتوراه، قد ختم العلوم والمعارف كلها. بصراحة: لقد أصبحتْ (جامعات أكل خبز، وشهادات)، أي أنها لم تعد جامعات تنتج مثقفين ومبدعين. إنها أمكنةٌ للتعليم فقط. أما بالنسبة لي فتتلخّص متعتي في (الحوار اليومي) مع الطلبة، أمّا كراهيّتي فهي للمفاهيم التقليدية للامتحانات، فهي لم تعد مقياساً ناجحاً لتقويم الطلبة. أمّا أن تكون أكاديمياً و(شاعراً وناقداً) في جامعة، فهو يَخلق التحاسد الوظيفي، علي عكس جامعات أوروبا التي تحتفي بالأكاديمي المبدع.

دعنا نتساءل عن الزيادة المتناسلة لدكاترة الأدب العربي وطلابه في الأردن تحديدا فيما يتناقص عدد القراء والكتاب بشكل واضح ثم كيف تنظر إلى حمى الاشتغال على الحواسيب التي تجتاح الشباب وتلهيهم غالبا؟

هذا صحيح، هناك ظاهرة أسميها (عبدة الحاسوب) في مقابل ظاهرة (عَبَدَة الشهادات)، وهذا راجعٌ إلي سوء التخطيط للتعليم الجامعي. تكمن الإشكالية في منهجية (الدهشة)، تجاه التقدم العلمي العالمي، والاكتفاء بتلقي نفايات المعرفة العالمية. نحن نصنع (صنماً من تمر) ليلاً ونعبده، ثم نأكله في الصباح، أو نَبول عليه. إنه اللهاث وراء الصراعات، وعدم التعمق في المعرفة. لهذا تحوّلنا إلي مجرّد مستهلكين. ويقف وراء ذلك، فكرة حرق المراحل بعيداً عن النموّ الطبيعي التدريجي، كذلك فكرة التجريب الدائم سيء التخطيط. أنا شخصياً أقف مع حقّ الفقراء في الحصول علي التعليم، ولكنني مع التعليم النوعي، وليس مع الشهادات. لهذا عندما نراقب حملة الدكتوراه في الأدب العربي في الجامعات الحكومية، نجد أنّ المشكلة ليست في حق الإنسان في التعلُّم، ولكن تقع المشكلة في نوعية هذا التعليم. فالأطروحات بائسة جداً، والمشرفون علي هذه الأطروحات، بحاجة لمن يشرف عليهم. أمّا المجلات العلمية (المحكّمة)، فهي مراكز لتعذيب الباحثين المتفوقين، بسبب التحاسد الوظيفي. أمّا القوانين والتعليمات الجامعية، فيتمّ اختراقها دائماً، بوسائل شخصية عديدة. لقد ازدادت الجامعات عندنا من الناحية الكميّة، وأصبح مدخولها المالي ممتازاً، ولكن علي حساب نوعية التعليم. وإصلاح التعليم، بحاجة إلي ثورة حقيقية بعيدة عن هيمنة رأس المال، وهيمنة ثقافة الاستهلاك لنفايات المعرفة الأمريكية في مجال تكنولوجيا المعلومات، وبعيدة عن هيمنة (إعادة إنتاج) المعرفة التقليدية في مجال العلوم الإنسانية. أنا شخصياً أحمل درجة الدكتوراه منذ عام 1981 من جامعة صوفيا في النقد الحديث والأدب المقارن، ولا أحمل دكتوراه في الأدب العربي، إذْ اكتفيتُ بدراسة الأدب العربي في جامعة القاهرة في الستينات في المراحل الجامعية الأولي.

المجلد الجديد من كتابك النقد الثقافي المقارن يشكل مرجعا هاما للباحثين والمتخصصين، برأيك لماذا يبدو مجال الأدب المقارن ثانويا في جامعاتنا و عند مثقفينا أيضا؟

المنهجية العلمية، ومعرفة اللغات الأجنبية، ومعرفة الثقافات الأجنبية، هي الأساس في تكوين الناقد المقارن، يضاف لها ـ المعرفة العميقة بالأدب القومي العربي. هذه الشروط تتوافر جزئياً في أساتذة الأدب المقارن في أقسام اللغات الأجنبية، وأقسام اللغة العربية. ففي أقسام اللغة العربية، قد لا يتوافر الأستاذ الذي يحقق هذه الشروط. أمّا أقسام اللغات الأجنبية، فقد حصرتْ هذه الشروط في معرفة اللغة فقط، مع غياب المنهجية، وغياب المعرفة بالأدب القومي، وأحياناً غياب المعرفة بالثقافات الأجنبية الأخري، بعيداً عن مركزية الإنجليزية والفرنسية.

أنا شخصياً أومن بالتعددية، لهذا أحاول تعميق معرفتي بالآداب والثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة، مع معرفتي بلغتين (الإنجليزية والبلغارية)، إضافة لمعرفتي بالأدب العربي واللغة العربية. كذلك أعرف المصطلحات الأدبية الفرنسية. وسبق لي أن تعلمت مادة (العبرانية القديمة) في الستينات، لكنّ معرفتي باللغات معرفة عصامية. أمّا – المنهجية، فأعتقد بتواضع حقيقي، أنني أتقنها. مع هذا كله مازلتُ أخربش وأتعلم. هناك طبعاً مشكلة هيمنة الإنجليزية والفرنسية، لأنها توقعنا في مشكلة الخضوع للمركزية. وهناك مشكلة غياب الاهتمام بثقافات العالم الأخري. فهل يمكن أن نحذف (ثقافات بقية العالم)، ونكتفي بالخضوع للفرنسية والإنجليزية. ما يزال مساق الأدب المقارن في الجامعات الأردنية، مساقاً اختيارياً، رغم صعود مفهوم العالمية، ومفهوم العولمة في العشرين سنة الأخيرة، أما الأسباب فهي بيروقراطية.

ولكنك في المجلّد الجديد الذي جاء في (746 صفحة) لم تستخدم مصطلح الأدب المقارن إلاّ في إطاره التاريخي، حيث طرحت اسماً جديداً هو (علم التناصّ المقارن)، فما علاقته بالنقد الثقافي المقارن ؟

أعتقد أنني شرحت ذلك في كتابي، ولكن بسرعة أقول: مصطلح الأدب المقارن مصطلح ملتبس منذ نشوئه في فرنسا في القرن التاسع عشر وحتي الآن، لكن سطوة شيوعه هي التي جعلته راسخاً، وقد جئتُ لخلخلة هذا المصطلح، فاقترحت علي الجامعات العربية، إقرار (علم التناصّ المقارن) بديلاً له، لكنّ – التناصّ، آلية للتحليل، لهذا يمكن أن يكون آلية لتحليل النص الأدبي، والنصّ الثقافي معاً، أي بتكامل التحليل الجمالي والتحليل النسقي الثقافي، لكنّي قلت: إن تحليل الأنساق جزئي، لا يكفي لكي تكتمل عملية النقد، فالسياق مهم أيضاً. وهناك مشتركات واختلافات بين النص الأدبي، والنص الثقافي، لكنَّ التجسير بينهما ضروري بعد عزلة النقد الأدبي، وتحوله إلي خطاطات شكلية، أو تعليقات انطباعية، ولكني توجهت نحو التفكيك كمنهج في الفلسفة، وهو أيضا منهج في قراءة النصوص، وما يغويني فيه هو: قراءة الاختلاف والمسكوت عنه في النصوص، لأن النصوص خادعة بطبيعتها. أما الجدل فيفتح نافذةً علي التباين والتناقض والمفارقة.

قرأنا منذ فترة عن (تجمع الكتّاب الفلسطينيين في المنفي)، وأشيع في فلسطين أنك تقف وراء هذا التجمع الثقافي مع الروائي رشاد أبو شاور. ما الهدف من هذا الإطار، وهل يشكل احتجاجا بصورة ما علي سياسة (السلطة الفلسطينية) النقابية والثقافية أم هو مجرد عملية ترتيب لأوضاع مثقفي المنفى؟

أولاً: لا علاقة لي من قريب أو بعيد بهذا التجمع، لا من الناحية العضوية، ولا من الناحية العملية. فأنا سمعتُ به وقرأت عنه في الصحف، ثمّ شرح لي الصديق رشاد أبو شاور فكرة التجمع لاحقاً، لكنني بقيتُ خارج هذا التجمع، ولا علاقة لي به. ربّما اختلط الأمر علي بعض القرّاء، حيث سبق لي أن أصدرتُ عدة بيانات مشتركة مع رشاد، تتعلق بمواقف محدّدة من سياسة (الفساد الثقافي) في السلطة الفلسطينية، ومعني هذا ببساطة أنني أتفق مع الصديق أبو شاور حول بعض القضايا وأختلف معه حول قضايا أخري، وهو يعرف ذلك، وهذا أمر طبيعي. وبصراحة: كنتُ ضدّ الطريقة التي أعلن فيها هذا التجمع، لأنني أيضاً كنت ضدّ الطريقة التي أعلن بها اتحاد كتاب فلسطين، وهي نفس الطريقة، أي وضع الآخرين أمام سياسة الأمر الواقع الدكتاتورية. وقد نسيتُ الموضوع برمّته.

وباختصار شديد: لم أعد عضواً في أي تجمع أو رابطة أو اتحاد، لا في فلسطين، ولا في الأردن، ولا في أيّ اتحاد في الوطن العربي، فأنا شاعر ومثقف مستقل استقلالاً فعلياً، لي مشروعي الشخصي الذي قد يلتقي مع هذه الفكرة أو تلك أو يتعارض معها. ولم أعد مقتنعاً بهذه الاتحادات والروابط والتجمعات النقابية، رغم أنني أعطيتها الكثير في السابق. ثم إنني مؤمن بضرورة إفساح المجال، بعد أن وصلت للستين ـ للجيل الجديد. وهذا لا يعني أنني سأنقطع عن العمل العام لقضيتي الأساسية ـ فلسطين، بل سأستمر كعادتي في مواصلة النضال من أجلها حتي الرمق الأخير من عمري، دون حسابات الربح والخسارة.

يصفك البعض بـ(المثقف التطهّري)، كصفة سلبية،فلماذا تبدو بعيدا عن مواقع اتخاذ القرار، وتنأي بنفسك وخبراتك عن الدخول في الأطر الرسمية هنا في الأردن أو في فلسطين ؟

الدنيا خيارات واختبارات صعبة وسهلة. لقد اخترت الطرق الوعرة، لأنها الأكثر صدقاً، وهي الباقية علي المدي الاستراتيجي. لستُ متطهراً تماماً، بل أنا قارئ جيّد للواقع. ماذا يريد شاعر أو مثقف، سوي تحقيق الهدف الشعري والثقافي. أمّا أن يصبح وزيراً، فهو أمر عادي، عندما نتخلّي عن قناعاتنا الثقافية. فالمسألة واضحة: إمّا أن تكون مثقفاً حقيقياً عضوياً، وإمّا أن تصبح وزيراً، وهما لا يجتمعان، وعندما يجتمعان يكون أحدهما قد خان الآخر. قصّة السلطة في فلسطين، قصة مأساوية: شعبٌ عظيم، بقيادات تافهة، هذا ما يقوله التاريخ. لهذا ربطتُ نفسي بالحساسيّات الشعبية في ظل الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولا علاقة لي بالسلطة الفلسطينية الحالية في فلسطين لأسباب تتعلق بمعتقداتي الفكرية. أنا لا أستطيع أن أعترف بشرعية دولة إسرائيل حتي أموت، حتي لو اعترف بها الفلسطينيون والعرب من المحيط إلي الخليج، ولكنّني أترك خيارات الآخرين للاختبار، ولا أدخل في مهاترات لا قيمة لها. ومن حَقّي أن أنتقد بعض المثقفين العرب حين يلجأون لنكتة (معرفة إسرائيل من الداخل!!) لتبرير أطروحاتهم اليمينيّة. وأحتقر المثقفين الذين فقدوا ذاكرتهم، وانقلبوا علي أنفسهم، مقابل امتيازات عابرة في العصر الأمريكي الإسرائيلي. أنا لا أفهم أنَّ صحفاً قومية ويسارية في السياسة، تكون يمينيَّة في الثقافة. فالتكيّف مع الواقع، لا يعني مثل هذا الاندلاق المهين للمثقفين (البرتقاليين الليبراليين الجدد) نحو التأسرُل والتأمرُك. مثلاً: يزعم بعض هؤلاء المثقفين العرب الذين يزورون إسرائيل أو يروّجون لثقافة السلام معها، أو يشقّون ثقافة الشعب الفلسطيني بالترويج لأسماء محددة ومحو أسماء مهمة، يزعمون أنهم: (يتضامنون مع قضية فلسطين!!)، وهذه نكتةٌ سوداء سمجة، ولهذا أقول: لا نريد تضامنكم مع الشعب الفلسطيني، بهذه الطريقة المهينة لذكاء الشعب الفلسطيني!!. وهناك مثقفون يشتمون (تيار المقاومة الإسلامية) والوطنية والقومية، ويخلطون عامدين بين المقاومة والإرهاب، ويريدون منّا أن نقف معهم!!، مستغلّين بعض اختلافاتنا مع التيار الإسلامي!!. أعتقد أنني لا أختلف مع التيار الإسلامي حول مسألتين: المقاومة، ومكافحة الفساد والدكتاتورية في الوطن العربي، وأختلف معه في مسائل جوهرية أخري، مثل: احتكار الدين!!. وهذا لا يمنع أن ننتقد (اليسار القومي الليبرالي)، حين يتم اختراقه علناً تحت ذريعة التكيّف. أمّا ـ فلسطين، فهي ـ حالة خاصة جداً في العالم كله، لها خصوصياتها، لا يصلح لها سوي نظام تعددي ديمقراطي حقيقي، ولا ديمقراطية بوجود الاحتلال. هذا منطق الأشياء. وظيفة المثقف كما قال إدوارد سعيد، هي: (أن يقول الحقيقة كاملةً للسلطة). ببساطة: هناك مثقفون يقولون إنهم مع السلام والعدل، وأنا أقول ما يقولون، لكنني أضيف: لا يوجد حتي الآن سلام حقيقي، أما العدل فهو مفقود تماماً… في الواقع نفسه. والفارق بيني وبينهم أنهم يرون أن السلام قد تحقق أو في طريقه للاكتمال، أما أنا فأري أنه ما زال مجرد فكرة وثرثرة إعلامية… لهذا أحلم بفلسطين الكاملة، فأنا لا أثق بطائر الوقواق. أما بالنسبة للشعر فأنا لم أتكئ علي فلسطين ـ القضية كما اتكأ غيري، بل ابتعدتُ عن (شعرية ـ سنقاوم) نحو (شعرية الجذور)، وقد صدرتْ مؤخراً عدّة كتب عني تؤكّد أنني مختلفٌ في اللغة، ومختلفٌ في الغنائية عن السائد في الشعر الفلسطيني الحديث، هذا ما يقوله الآخرون، ولستُ أنا.

خاطبتَ امرأ القيس عام 1976 في ديوانك: (بالأخضر كفّناه) قائلاً: (أري سُمّاً شهيّاً، قدّموهُ لقتلنا، هو في طعامكْ)… (وأري الخليل حبيبتي نهباً لتجّار الممالك). هل كنت تخاطب قناعك المفضّل امرأ القيس، أم الرئيس ياسر عرفات حينها؟

كنت أخاطب الاثنين معاً. وكرّرت التحذيرات الشعرية في قصيدة (امرأ القيس يصل فجأة إلي قانا الجليل)، وفي قصيدة (حصار قرطاج) عام 1983، والمفارقة هي أن الرئيس عرفات كان قد وجّه لي دعوة لإنشاد هذه القصيدة أمام المجلس الوطني الفلسطيني، بتوقيعه. ثمّ منعني من إلقاء القصيدة بعد أن سرّب له بعضَ الوشاة أن القصيدة تشمل نقداً ذاتياً له شخصاً، ولم يكن ذلك النقد سوي ذلك التحذير الشهير: (لماذا إذا هدأتْ نجمةُ الحرب، تُعطي الجوائزُ للهاربينْ): (يا امرأ القيْسِ، احذرْ قميصكَ، حاذرْ خيوط مؤامرة العنكبوتْ/، وانفذْ بجلدكَ، رُد الهدايا لأصحابها، لا تكن خائفاً، لا تكن كوْمةً من سكوتْ، لئلاّ تموت، لئلاّ نموتْ).

وبالمناسبة فإنني أعتقد بأن عرفات مات مسموماً من قبل إسرائيل بوساطة الطبقة الفاسدة التي أنشأها بنفسه. وأنا إذ اردت شهادة مني في هذا الرجل أقول: هو شخصية وطنية لها كل مواصفات القيادة التاريخية. كان فلسطينياً حقيقياً في حلمه بتأسيس دولة فلسطينية مستقلة، لكنّ أخطاءه كثيرة وقاتلة، أهمها: ضرب أية محاولة لتأسيس مؤسسة، فلم يكن يؤمن بالمؤسسة، بل بنفسه، حيث أنشأ طبقة فاسدة، نفّذت له ما كان يريده، لكنّها لم تنصحه نصائح مفيدة، لأنها فاسدة الطبيعة والطبع، والمسألة الثانية، هي توقيعُه اتفاقات أوسلو الشهيرة، وهي خطيئة استراتيجية، لكنّه كان بطلاً في مفاوضات كامب ديفد حيث أدرك حدود الخطوط الحمراء. وأنا لا أستطيع الفصل بين ياسر عرفات، والطبقة السياسية الفاسدة التي أنشأها بنفسه.

هناك من أعلن (موت الشعر) العربي الحديث، وهناك من يري أنه يجدّد نفسه ببطء. كيف تري حال الشعر حالياً وإلي أين يسير؟ هل المسألة تتعلّق بقلّة الشعراء الجدد، أم بخلاف حول جوهر الشعر نفسه؟

الإشكالية الرئيسية في الجدل النقدي منذ الخمسينات وحتي الآن تدور حول (تأليه الشكل): شعر حُرّ (تفعيلة)، أم عمودي، أم قصيدة نثر، لهذا تغطّي الشعراء الضعاف وهم كثر، تحت (شعارات الشكل)، وتمَّ حرف الجدل عن مساره الحقيقي، حيث حذفت الأسئلة الحقيقية لصالح ثنائية الشكل والمحتوي. مثلاً: بدلاً من مناقشة المستوي النوعي للشاعر، تمّت مناقشة إلي أي شكل ينتمي، ممّا ساهم في تساوي القوي والضعيف تحت يافطة الشكل الشعري. أكتب وأنشر الشعر منذ عام 1962، لهذا كنت أقرأ دائماً عن مقولة – موت الشعر في المفاصل التاريخية، وهي تقال أحياناً بدون وجه حق. الإشكالية هي أن الرواية صعدت علي حساب الشعر، لكنّ الرواية لم تحقق تراكماً نوعياً يصل إلي درجة التراكم الكمّي والنوعي للشعر. فالترويج الإعلامي للرواية في الفترة الحالية، يصاحب بعض المتغيرات الثقافية القادمة من الغرب. أنا شخصياً أقرأ الرواية المترجمة وأفضلها علي الرواية العربية. أقرأ الرواية مرة واحدة، ثم أرميها إلي الأبد، ولا أعود لها إلاّ لأسباب بحثيّة. أما الشعر فهو الطفل الأبدي الذي نحب مشاكسته دائماً. الشعرية في الأنواع الأدبية غير الشعرية لا يمكن أن تصل إلي مستوي (شاعرية الشعر). والملاحظة الثالثة هي تقارب الشعر مع الأجناس الأدبية والفنية، وهذا التقارب طبيعي، لكنّه لا يمكن أن يلغي هويّات الأنواع، فالرواية لا يمكن أن تصبح قصيدة، وقصيدة النثر لا يمكن أن تصبح قصة قصيرة، وإذا حدث ذلك، فهي تتحول إلي نوع آخر.

هذا الحراك للشعر باتجاه محاولات حلّ مشاكله، لا يعني موت الشعر، لأن الشعر انغمس مؤخراً في فهم ماهيته، بعيداً عن ثنائية الشكل والمحتوي، وهو في الطريق إلي حلّها نصيّاً بمساندة نظرية من النقاد. أما إذا كان المقصود هو غياب الجمهور عن ندوات الشعر المختلطة: (الشعر الحرّ التفعيلي) و(قصيدة النثر)، فهذا لا يعود إلي الشعر، بل إلي الشاعر. لقد تغيّرت طرق قراءة الشعر أمام الجمهور، وبالتالي: عندما نذهب لقراءة الشعر، لا بُدّ أن نتعرّف إلي نوعيّة الجمهور: هل هو جمهور نخبوي، أم جماهير شعبوية صناعية، حرّكتها الحكومات والأحزاب؟ لقد سبق لي أن قرأتُ شعراً أمام خمسة آلاف شخص، ولكن في السنوات الأخيرة، أقرأ شعري عادةً أمام مائة شخص جاؤوا باختيارهم، وأحياناً يصل العدد إلي سبعين شخصاً فقط. لهذا أحدّد اختياراتي للقصائد.

مؤخراً قرأتُ لأول مرّة قصيدة نثر أمام جمهور نوعي قليل، وفوجئت بأنني نجحتُ في لفت اهتماماتهم. باختصار: الشعر الحديث أمامه عدّة اختبارات يستطيع تجاوزها إذا ظلَّ ممسكاً بجوهر ماهيته، وإذا استطاع بثّ الإيصال في متن القصيدة. أما القارئ فهو متغير حسب الأزمان وذوقها الثقافي. هناك مئات الشعراء الجدد حالياً، لكنّهم يتشابهون ويكررون أنفسهم، فالمطلوب ظهور قلّة نوعية من الشعراء.

أخيرا دعني أسألك بكل صراحة بعد صدور عشرة دواوين لك من الشعر، وثلاثة عشر كتاباً نقدياً، هل أنت راضٍ عمّا أنجزته إلي اليوم؟

الحقيقة أن الجسد قد بدأ يتعب في آلة العمر، لكنّ الروح ما تزال طفوليّة. لستُ راضياً إطلاقاً، ولكن الزمان لا يعود إلي الوراء لإصلاح أخطائي. لهذا سأقاوم في الفسحة المتبقية من الزمن، ما أستطيع إلي ذلك سبيلاً، كل أساليب التزوير والتدجين في النقد، وكلّ أساليب التخريب للشعر: هناك شعراء يستأجرون نقاداً ليكتبوا عن شعرهم، وهناك شعراء يلجأون للحكومات والأحزاب لتجميع جمهور صناعي للاستماع لهم بالقوّة. وهناك شعراء يغازلون ثقافة التأمرُك والتأسرُل، و(المضحك) أنهم ما زالوا يغازلون ما تبقي من ثقافة المقاومة!!. أنا شخصياً، شاعرٌ يحرث في حقله وحيداً، مستخدماً لغته الخاصة وبذاره الخاص.

 نشر الحوار في القدس العربي بتاريخ2006/01/04

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *