*ترجمة: مازن معروف
في المشهد الشعري الآيسلندي، يُعرَف كل من ستيفان هورذر غريمسُن (1919 – 2002)، هانس سيغفُوْسُن (1922 – 1997)، سيغفوس داذاسُن (1928 – 1997)، إينَز برايي (1921 – 2005) ويون أوسكر (1921 – 1998) بـ«شعراء الذرّة» (ATOM POETS). والشعر الآيسلندي الحديث، في كل مراحل تطوُّره سواء في الستينيات أم في السبعينيات أم في الثمانينيات أم في ما يشهده حالياً من تجارب كتابية لافتة، هو مدين لهؤلاء الخمسة في تطوُّره وانعتاقه من قيود القافية والوزن وخروجه عن موجة الرومانطيقية الجديدة التي برزت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وانفتاحه على موضوعة التفاصيل، واليومي، والنفسي.
شعراء الذرّة، تأثروا بدورهم بالشاعر الأكبر سناً سْتِيْن سْتِيْنَرّ (1908 – 1958)، الذي عانى صعوبات حياتية جمة، صرَّفَها في تكسير القالب الشعري الملتزم بالتفعيلة والقافية كمقدَّسَين آنذاك. سْتِيْن سْتِيْنَرّ يعتبر المحرض الشعري، وإن بصورة غير مباشرة، على ولادة شعراء الذرّة، ويوضع إلى جانبه الشاعر يون أور فور.
بدأ «شعراء الذرة» مسيرتهم الشعرية في الأربعينات والخمسينات غير أنهم لم يختاروا بأنفسهم اسم مجموعتهم الأدبية. ففي عام 1948 نشر الشاعر والروائي الآيسلندي هالدور لاكسنس (1902 – 1998) الحائز على جائزة نوبل للآداب (1955) روايته «محطة الذرّة»، والتي تتضمن بين شخصياتها شاعراً يطلق عليه لاكسنس لقب «شاعر الذرّة»، ويصفه بأنه «شاعر سيِّئ لا يحمل عواطف مرهفة». التقط الشعراء الخمسة التسمية تلك التي كان من شأنها أن تغطي كل فئة محتملة من الشعراء الذين يكتبون الشعر بطريقة غير تقليدية، ووهبوها لتشكيلهم الشعري، في خطوة تحمل مضامين احتجاجية، وتنادي بفتح الشعر على مسارات جديدة في ذلك الوقت. كانت مهمة هؤلاء الشعراء أكثر تعقيداً لاهتمامهم بمدِّ قنوات مع القارئ. ومع تأثرهم بالسورياليين وتعرّفهم قصائد السوريالية الفرنسية من خلال ترجمات أحد أفراد المجموعة إينر برايي، تمكَّن هؤلاء الشعراء من النأي عن مفاتيح القصيدة الآيسلندية التقليدية، ليطلقوا يد العبارة بعيداً عن الالتزام الغنائي، ويفتحوا مناخ القصيدة والصورة على مدى يستقرئ سمات إنسانية خارج جغرافيا الجزيرة الآيسلندية. غير أن «شعراء الذرّة» لم يضعوا لهم بياناً شعرياً، ولم يشكّلوا يوماً مجموعة شعرية منظمة.
ستيفان هورذر غريمسُن
زوجان من الستائر
عندما تسدل الفتاة
ستائر الدانتيل
خلف نافذتها الوحيدة
يسدل القمر الستائر
على الحائط المقابل.
لكن الستائر تغادر
ولا تقول
إن ضوء القمر كان هنا مبتهجاً.
آه أيها الصّبا …
عصفور
هكذا إذن
ها أنت هنا
يا جوّاب الصحارى،
دعني أرحِّب بك.
أجل، رغم أني أدرك جيداً
أنك
لست بحاجة أبداً إلينا
نحن الذين
نعقد آمالاً كبيرة
على ما عندك من ترفٍ وفرح.
دعني أرحِّب بك..
من فتاةِ المساء الأحمر.
فلتغرِّدْ ولتغرِّدْ
في هذه اللحظة
قلبي ليس يحتمل أغنية
إلا لك.
للصوت والقيود
سواء أكنتُ مسافراً عبر بحار
تفصل بلاداً
أو بين قارة معزولة وأخرى
لا أشعر أنني بعيد من هنا.
لكنني من هنا، أشعر أنني بعيد
عن ذلك المكان
الذي اختارته هيلدُر كي تنام.
هانس سيغفُوْسُن
لا شيء في نشرة الأخبار
كل شيء مفقود
لا شيء في نشرة الأخبار
مرايا فارغة تحدِّق في بعضها
مسحوبة كل واحدة من داخل الأخرى
باب خلف باب خلف باب
وصولاً لطوابير لا تنتهي
قاعات فارغة من المرايا
والشمس تشرق
لكنها لا تبيِّن شيئاً
والأشجار تنبتُ أوراقاً
لكنها أوراق لا تقود المخيلة إلى شيء
الأمر الوحيد الذي يلفت انتباهك
أن لك ظلّ
(ما يعني أنك موجود حتى وإن لم تعرف أين بالتحديد)
ملاك
لا أحد يتقدم في العمر
إن سافر بسرعة الضوء.
هذا ما يقوله إينشتاين.
أما أنا فأقول:
لم يطرأ عليكِ أي تعديل زمني
منذ التقينا آخر مرة
قبل خمسين عاماً.
أما أنا فمصاب بقصور في التنفُّس
بشيب وعُمْرٍ أرضي
وأنت تشعّين
بإجلال جنّة
يا للرّب الرؤوف
الذي احتفظ بك في الأبدّية
من أجل هذه اللحظة الزائلة
(هذا ما يسمى حياة فانية)
ليبعثك إليَّ
كما لو أنك بُشرى بأمر ما
قبل رحيلي؟
بوح
زعتر!
كأنما الصخرة تنزف…
لكنه عشب طيب الرائحة
من فصيلة النباتات المزهرة
التي تفتح شفتيها أثناء الكلام
بأكثر أحزانها الدفينة.
سيغفوس داذاسُن
لحن موسيقى بوب
حلم كشعاع قمر
شعاع قمر كحلم
كشعاع قمر
حلم أبصرته أخيراً الليلة الفائتة
كبحر، كقمر، كيقظة
كعينين عميقاً في بحر
كأنتِ تنسينني
كأنتِ تستدعينني هذه الليلة
كشراعٍ عبر بحر رمادي ووحيد
كأنتٍ تأتينني
كأنتِ تأتينني أخيراً الليلة الفائتة
كيقظة في شعاع قمر
كقمر في يقظة وبحر رحبٍ ووحيد
أيدٍ وكلمات III
خذ مسدَّساً بيدك
خذ مسدَّساً في كل يد
مدّ ذراعيك إلى الأمام
وأطلق النار
كما يحدث الأمر عادة.
أطلق النار دون سبق إصرار
دون استدراك
أن يكون أحد في مجال إطلاق النار.
شهود هذه الجريمة
كانوا – بعد أن أُنجِزَ كل شيء وقيل –
غائبين أو غائبي الذهن.
في أسوأ الأحوال
سيحتسب قاضٍ ما المسدَّسين
جريمةَ القتل
والشهود العيان على الجريمة
عناصرَ في عمل فني.
أيدٍ وكلمات IX
متعتي: أن لا أعرف حين تأخذ يدي
إن كنتَ حقاً تأخذها،
أو أن أيدينا مجرد أيادٍ فقط.
أن لا أعرف، ونحن نتبادل الكلام، إن كنا حقاً نتحدث
معاً،
أو أن كلماتنا مجرد كلمات فقط.
ومتعتي الأكبر ستكون حين يأتي وقت تصبح فيه أيدينا وكلماتنا
على قيد الحياة والكمال وليست مُجَرَّد أيدٍ ومُجَرَّد كلمات.
إينر برايي
أغنية حب
أحب المرأة عارية
وأن تكون هناك بلابل في عينيها
وأن تكون استيقظت للتوّ
ومعطّرة بالزنبق
وجلدُها مدهون بشمس الصباح البيضاء
امرأة يافعة حبلى
بأزهار مبرعمة حمراء
على كتل العشب الزهرية
اشتهاؤها
لجامعي الرحيق العطاشى،
لا يعرف الراحة.
امرأة مزهوة بانتصارها
تعرض للعالم
حقلها الخصب المزروع بالربيع
حيث كل عجيبة تنمو في مسام التربة المظلمة:
تنمو
قصيدة الموجة
طفل صغير
يلعب على الشاطئ
يضحك
موجة بيضاء
تفتن عقل الطفل.
بعد حياة طويلة
من المرح، الضيق أيضاً
على البحر،
موجة سوداء
تقذف الجثة
وتضحك.
لازمة
حين تكون الأرض نائمة
مغلفة بعباءتها البيضاء
ينقّل الدفء المرح نفسه
وفي عروقه
حلم بقدوم الربيع
لا أسمع تذمُّرها
لكني أشعر أن في دمي
اشتباهاً صامتْاً
بإبر خضراء ترزح تحت الثلج.
يون أوسكر
أبي والبحر
ابنتي تجمع الأصداف عن الشاطئ
وكتلاً صغيرة من أعشاب البحر عليها نقاط بيضاء
أجزاء صغيرة من الزجاج التي طلاها البحر
أصداف رائعة متناهية الصغر
ورملاً للكتابة.
وأنا أقف على حافة المحيط.
وأرى ابنتي على الشاطئ
وأنا على الأوتوستراد
وأنا على الأوتوستراد أرى البحر
والشاطئ والعالم لي
وأرى ابنتي على الشاطئ
أعزف الأورغن من أجل أبي
وأبي يغني بإحساس:
«أحب المحيط الهائج».
وأرى أبي يجذِّف في عرض البحر
أرى أبي يصارع المحيط
من مركبه المكسور في هدير العاصفة
والموت يغنّي في كل عارضة
ولا من يغنّي: أحب المحيط الهائج.
والساعة تدقّ.
أراقب ابنتي على الشاطئ
وأذهب نحوها كي أخلع جوربيها
كي أركض معها باتجاه الموج
وأعلمها أن تفهم الموج
ألّا تخافه، لكنها تخافه
«لأنه يأتي ويذهب، ويأتي ويذهب»، تقول.
والساعة تدقّ.
__________
*مجلة (الدوحة)