(ثقافات)
الكثير من الأسف*
(قصة قصيرة)
عدي مدانات
كانا قد قطعا شوطاً طويلاً في الكلام العام، ونفذ رصيدهما منه، فخلدا إلى ذلك الصمت المخاتل، بانتظار بادرة ما تعيدهما إلى الحديث، لكن باتجاه أكثر خصوصية هذه المرة. كان نبت الشعر الذي يغلب عليه البياض في وجه أبي خالد وغضون جبينه، يعكسان أسى دفيناً لم يُفصح عنه حتى الآن، غبر أن ما من مراقب يتحلّى بقدر قليل من الخبرة، إلاّ ويدرك أن لحظة الحديث عمّا يعاني منه ستأتي، فلم يبدر منه ما يمكن أن يُشعر ضيفه أبا همام أن الجلسة بلغت غايتها. وأبو همام الرجل حليق اللحية حسن الهندام، لم يأخذ الصمت على أنه كذلك، إذ إنه ظلّ على جلسته التي تؤكد أنه باقٍ إلى جولة أخرى من حديث يعرف أنه سيتناول لا محالة تلك التفاصيل الخاصة التي مكانها خلوة كهذه، فهو على الرغم من التباين الواضح بينهما في المظهر الخارجي، يشابهه في أن ما ينطوي بصدره على قدر كبير مما يشكو منه هو الآخر، بمقادير قد تزيد في جانب وتنقص في آخر، ولكنها تشكل في كل ّ الأحوال معضلة حبيسة تجنَّب الإفصاح عنها في لقاءات سابقة.
فاجأه أبو خالد بالقول: ” هل تشرب المزيد من القهوة؟ أنا أعرف أنك تحبها”، ثم نهض قبل أن يحصل على موافقته الصريحة واتجه إلى المطبخ. رفع رأسه في هذه الأثناء وحدّق في سقف الغرفة ولم يُطل، ثم خفض رأسه وجعل يتأمل أصابع كفيه ولم يطل كذلك، فمال برأسه صوب النافذة ونظر على مستوى أفقي، ولم يظهر على مدى رؤيته ما يمكن مشاهدته، فاكتفى وانتقل بنظره صوب المنضدة التي تتوسط مقعديهما وتوقّف هناك. كان ثمة قلم وقصاصة ورق على طرف المنضدة، لم ينتبه لوجودهما إلا حين رُفعت الصينية وخلا المكان، فقرّب القصاصة منه، ثم أبعدها، فقد كانت الكتابة المدونة عليها مجرّد أرقام، لا يقترن بها ما يمنحها حياة خاصة بها. عاد وقربها من نظره ولاحظ أن الأرقام كتبت بالتسلسل، الواحد منها أسفل الآخر وأنها جمعت معا برقم واحد. أبعدها من جديد وطفق يتأمل موجودات الغرفة، المقاعد والمناضد وستارة النافذة ومكتبة مكتظة بالكتب مركونة في الفسحة بين الباب والجدار الأيمن. لا شيء منها يزيد على كونه مما يلبي الحاجة، وهو أمر يمكن الركون إلى جدواه إذا أُخذ في الحسبان ما يرزح أبو خالد تحت ثقله من أعباء مالية.
همّ بالنهوض والسير باتجاه المكتبة، وإذ بأبي خالد يعود بالقهوة، فعدل وقال يشير بسبابته إلى الورقة:
ــ أتحصي ما تتوقع الحصول عليه من نشر مقالاتك؟
تجهّم وقال:
ــ أحصي ثمن الأشياء المطلوبة مني. لم تُنشر لي مقالات منذ أشهر.
فتح أبو همام عينيه على وسعيهما وحدّق بأبي خالد لبرهة ثم قال:
ــ أتعني أنك أرسلت مقالات ولم تُنشر!
ابتسم ابتسامة واهنة وقال:
ــ هذا ما حدث للأسف.
خفض أبو همام رأسه وبدا مستغرقا في التفكير، ربما بغرابة الأمر أو بأمر آخر عنّ على باله، ثم رفع رأسه وقال:
ــ كنت أظنك مقلاّ وحسب.
بحث أبو خالد عن لفافة تبغ في علبته ولم يجد، فضغط على أطرافها بشدة، فيما ظل أبو همام يراقب انفعاله بصمت، ثم باعد بين ساقيه، وانحنى صوب القصاصة وقد اكتسبت بنظره الآن أهمية خاصة. عقّب:
ــ المبلغ كبير، ألا تستطيع إرجاء شيء منها؟
بلغ تجهم أبي خالد مداه وهو يسكب القهوة حتى أنها اندلقت على حواف الفنجانين ومحيطهما، وفيما استلّ محارم ورقية لتجفيف السائل أجاب:
ــ فعلت ما بوسعي، فليس من ضمنها ما يمكن إرجاؤه، كدفع المطلوب لإعادة خط الهاتف، نافذتي إلى العالم، إصلاح السيارة المتوقفة عن الحركة منذ أشهر، شراء بطارية جديدة ، اللحوم بأنواعها التي يمكن حذفها من قائمة الطعام، لكنني لا أستطيع اختصار رسوم ولوازم الدراسة، ولا دفع المطلوب مني لصاحب البقالة.
وجه نظره إلى عيني صديقه مباشرة وأضاف:
ــ قبل سنة انهالت عليّ عروض الكتابة ودرّت عليّ الكثير من المال، فاشتريت تلك السيارة المستعملة على أنها في أفضل حال، غير أنها ما إن صارت بحوزتي حتى ظهرت للأسف في أسوأ حال، وهي الآن معطّلة.
لم يظهر على أبي همام أنه تفاجأ بما سمع، فقد ظلّ على صمته وسحنته التي تحمل الكثير من الأسف، ثمّ انحنى بجذعه انحناءة قرّبت رأسه من ركبتيه وقال وهو على هذه الحال:
ـــ ما علاقة عطل السيارة بالكتابة؟
” كلّه من بعضه” قال أبو خالد، ثمّ أضاف:
ــ داهمني الخلل أنا الآخر، فقد اشتدّ عليّ وجع الرأس الذي يتضاعف مع الضوضاء والنور حتى الخافت منهما، فلم أكتب لأشهر، ويبدو أن طاقتي الفكرية التي توقفت عن العمل تعطّلت كما تعطلت بطارية السيارة، فخسرت للأسف الجهات التي كانت تطلب مقالاتي. كتبت معتذرا ومرفقا عذري بمقالات، غير أن عذري لم يُقبل، أو أن هناك من…
لم ينه قوله، فقد انشغل في البحث بين أعقاب السجائر عن واحدة فيها بقية، ولما فشل، قال:
ــ عرفت أن خليل الدلّل ــ أنت تعرفه ــ حلّ محلي.
رفع أبو همام رأسه منزعجا وقال:
ــ بؤس الحال!
نطق أبو خالد بصوت نائس:
ــ بماذا تصف رجلا يعجز عن تلبية أبسط احتياجات أسرته لأنه لا يجيد عملا سوى الكتابة! الجواب لدى أفراد أسرتي، إذ أنا بنظرهم ، وإن لم يصرحوا بذلك، عديم الفائدة، فما نفع رجل يجلس طوال النهار في منزله يقرأ ويكتب، فيما الآخرون يخرجون للعمل ويأتون بالمال، فالكتابة مهنة العاطلين عن العمل، العجزة، والأدهى من ذلك أن الرسالة بلغتني واستقرت في يقيني حتى صرت أرى رأيهم، ولم أعد على يقين من أنني اخترت الصواب، وليس بوسعي أن أتغير الآن، كما ليس بوسعي أن أُتاجر بقلمي، فهذا ما أنا عليه. إنه لأمر مؤسف.
وضع يديه على ركبتيه وضغط حتى برزت عروق وجهه، ثمّ نهض وقال:
ــ تقلصات في القولون.
غاب للحظة وعاد بكوب ماء وحبتيّ دواء، فابتلع الحبتين وتجرع الماء وتابع:
ــ لو أنني قمت بفعل مجلجل يتداول الناس أمره، حتى لو كان لا يؤشر لشيء ذي قيمة، لصرت ضيفا على فضائيات عدة، ولصار لكلامي الدارج على لساني دون جهد يذكر قيمة عالية أتقاضى مقابله مالا كثيراً، ولصار أبنائي يفاخرون بي ويرددون ما أقول، ولكنني للأسف رجل بسيط، مصاب بداء الشقيقة والعزوف عن الضوضاء، ولا يبقى لي إلا العزلة.
أسرع أبو همام إلى القول:
ــ ولكنك تبالغ بعض الشيء، فالعزلة لا تقدم لك عونا.
“أي عون تقصد؟” سأل، ثم أضاف دون أن ينتظر الإجابة:
ــ أنت الآخر لا تبدو سعيدا. كلانا في مركب واحد.
ساد صمت جعل كلآ منهما يرتدُّ إلى داخل نفسه، وربما يدرك أن الكلام بلغ نهايته، وهذا ما حصل، فقد نهض أبو همام وارتدّ خطوات إلى الخلف باتجاه الباب، وقد كشفت ملامحه عن مزيد من الغمّ، غير أنه عاد وجلس وقال:
ــ أنت محق، فحياتي كانت مراوغة محضة، وقد التبس عليّ دائما ما أريد، أو أنني أسأت التصرف إذ جمعت أكثر من بطيخة بيد واحدة، بعكسك أنت، والنتيجة أنني أهدرت للأسف معظم حياتي في عراك لم يجد نفعا، ولو أنني سردت عليك بعضا مما أشكو منه لوجدنا أن كل ما حدث ويحدث لنا لم يكن للأسف خيارنا الكامل. والآن كما تعرف كان لي عمل يؤمن لي دخلا ميسورا ، وصداقات لم تكن كلها حميمة، ولكنها تكفي لإيهامي بأن حياتي على ما يرام، وفي مغامرة غير محسوبة النتائج أحلت نفسي إلى التقاعد وأغلقت مكتبي، لأنني اخترت الكتابة، فعلى ماذا حصلت؟ راتب تقاعدي لا يلبي حاجاتي وكتابة لا تجد من يقرأها، وخسارة الأصدقاء الحميمين والعابرين، والأشد قسوة ما حدث في الأشهر القليلة الماضية وأنت لا تعرف عنه، لأنك للأسف ـ وأنت الصديق الوحيد ـ لا تسأل، سأقول لك باختصار وربما يفيدني رأيك.
انفرج الباب الداخلي في هذه اللحظة فرجة صغيرة، وأطلّ منها رأس، وامتدت يد تشير إلى أبي خالد بأنه مدعو إلى الداخل، فنهض وربّت في طريقه على كتف أبي همام الذي توقف عن الكلام آسفا. وفيما تُرك وحيدا والكلام حبيس في فمه، نهض وسار صوب النافذة وأطلّ من فتحتها على فسحة الأرض المخضرة سحيقة الانحدار، وقد كسيت بالخضرة وامتشقت قامات أزاهير ” شقائق النعمان” بحمرتها القانية، فاتكأ على الحافة واستقر هناك برهة وجيزة كافية لأن تحدث التبديل الذي شرح صدره وجعله يغيّب ذلك الطوفان من الكلام الذي كان بصدد تصريفه.
عاد أبو خالد بتلك الهيئة التي كان عليها، مستعدا لمتابعة ما كان أبو همام بصدد قوله، فوجده يعلن عن رغبته في الانصراف، فتساءل:
ــ أأنت في عجلة من أمرك؟ كنت ستحدثني عن أمر لا أعرفه.
خفض رأسه وأجاب:
ــ ربما، لا أعرف.
عبّر عن أسفه لعزمه على المغادرة وقال:
ــ كنتَ بصدد الحديث.
جلس ولكن نفسه لم تطاوعه، فنهض من جديد وقال:
ــ النهار جميل، أليس كذلك؟
” ما الجميل فيه؟” تساءل أبو خالد.
” ولكن رؤية حقل من الزهور تبدّل كلّ شيء حتى المؤسف منه” قال أبو همام، ثمّ أتبع كلامه بالتوجه نحو باب الخروج وأضاف:
ــ ينبغي أن أخرج، إنها مجرد حاجة ملحة، كحاجة العطِش لجرعة ماء بارد، حاجته للتنفس الطَلِق، لإنزال حمل ثقيل يثقل ظهره. سنرحّل الحديث عما يؤسف لوقت آخر، فلدي ولديك الكثير منه، وأنا في هذه اللحظة أحتاج لرؤية أزاهير الربيع وأعرف أنك لن ترافقني.