(ثقافات)
“باب التيه” للروائي الأردني يحيى القيسي
حسن بن عثمان*
عاش الكاتب والصحفي الأردني يحيى القيسي فترة التسعينات في تونس وبجامعاتها درس. تركت هذه الحقبة التونسية في شبابه بصماتها العميقة في شخصيته وتكوينه، تجلّى ذلك كلّه في روايته الأولى «باب الحيرة» التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2006.
وكما هو بيّن فإن العنوان كعتبة أولى للرواية يحيلنا مباشرة على خاصية من خاصيات مدينة تونس وهي أبوابها العتيقة التي شكّلت وما تزال تشكل معلماً صميماً من معالمها التاريخية الراسخة. وكأنّ يحيى القيسي بهذا العنوان شاء منذ البداية إضافة باب إلى أبواب مدينة تونس سمّاه: «باب التيه»، لكأنه تاه بين أبواب مدينة تونس وتفريعاتها فرغب تخليد ذلك في رواية شديدة الحميمية وكثيرة البوح. وكأنّه رغب خصوصا في الانتساب إلى تونس وإلى أبوابها المتعددة.
مع رواية «باب التيه» نحن في صلب البلاد التونسية وخصوصياتها المعمارية والمجتمعية، وتحديداً عاصمتها التي شكلت فضاء لحركة شخوص الرواية وتنقلاتها وهواجسها وتفكيرها وتفاعلاتها.
تبدأ الرواية، إذا تجاوزنا دعاءها الافتتاحي، بهذه الفقرة التي ترسم تقريباً خريطة تحرّك السارد الرئيسي في سرده :
“كنت أسير من شارع «الحبيب بورقيبة» باتجاه «المدينة العتيقة» متجاوزاً زحمة المشاة، وأبواق السيارات، ورنين المترو، وصليل عجلاته على القضبان الحديد، ورفرفة العصافير على الأشجار الكثيفة، التي تتوسّط الشارع، وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات، وأدخل في ضيق «السوق العربي» المظلّل بالسقوف، حيث تتمازج دقات النحّاسين، ومناداة باعة الجلود، ورائحة الدبّاغين، وتزويقات الخزّافين، وإغواءات تجار الأقمشة المهرة، الذي تبلبلت ألسنتهم باللغات، يجتذبون بها الأجانب المذهولين بفنون الشرق، تدوّخهم رائحة البخور، صعوداً باتجاه «مقام سيدي بن عروس» و«جامع الزيتونة»، تتضوّع قربهما روائح الأكل الشهي من مطعم الزاوية، حيث الكسكسي بالحوت، أو باللحم المرشوش بالزبيب، والمغموس بهريسة الفلفل الحرّيفة!”.
تتلو هذه الفقرة الأولى التي جاء عنوانها الفرعي «كل صباح» فقرة ثانية يتوسّع فيها الكاتب في رسم طوبغرافية فضاء الرواية ومسارات حركة السرد فيها خلال مدينة تونس العتيقة، «كم من المرات كنت أدخل زنقة تفضي إلى سوق جديد، أكتشفه للمرّة الأولى: للسرّاجين والبلغجية والدباغين والغرابلية والشماعين والشواشية وخيّاطي البرانس واللفّات، قبل أن أدلف إلى نهج العطّارين حيث «دار الكتب الوطنية»، وما تزخر به من المخطوطات الضاربة في القدم، وذات مرة لم يكن مناص غير الولوج في «نهج سيدي عبد الله»، من كثرة ما سمعت عنه من الحكايات والتشويق»…
هذه الأماكن تشكّل دعامات الرواية، ومن أجوائها تنهض الحكاية ويتنامى القصّ. يتخذُ الراوي من «دار الكتب الوطنية» مركز قيادة لسرده، إذا صح التعبير، وفيها يعثر على كتاب عبارة عن مخطوط يقول عنه الراوي “كان شيئاً ماحقاً لم أقرأ مثله من قبل قط، يموج بشتّى المعارف، والحكم، والنصائح، والفنون، والإشارات، واللّمع، والمقامات، والهرطقات، والحيل، والسحر، والشعوذة، والطلاسم، وكأنه قد حوى علوم الأوّلين والآخرين من الإنس والجان!!”.
هذا المخطوط قدمته لبطل الرواية المسمّى «قيس حوران» صديقته هاديا التي تزامله في الدراسة وفي البحث العلمي كما ترافقه في تجواله وتسكعاته الواقعية والذهنية والوهمية والبوحية، وهي خليلته في البيت أيضاً. في قراءته لهذا المخطوط ينغمس بطل الرواية، الذي يتماهى تماماً مع الكاتب لتمحي الفوارق والتمايزات بين الكاتب والراوي والسارد، في هلوسةٍ وبوحٍ وتداعٍ وارتساماتٍ وذكرياتٍ بين الأردن وتونس وبعض البلدان العربية والإسلامية الأخرى، في شكل من أشكال تصفية الحساب مع الذات بكلّ مكوناتها، خصوصا مع وعيها الشقيّ الذي شهد الهزائم المزلزلة للتجربة العربية الحديثة في محطاتها الكبرى، وتحديداً منذ هزيمة 67 إلى سقوط بغداد واحتلال العراق، علما أن الكاتب الأردني يحيى القيسي من مواليد 1963، قبل أربع سنوات من أحداث 67 الشهيرة، حسب تقديرات الروائي.
شاب مشرقي بذهنية بدويّة وانتماء أردني أقام ودرس في بلد له خصوصية جغرافية وثقافية ومجتمعية لوقوعه في صلب حوض البحر الأبيض المتوسط، وهو بلد كثير القرب من شمال أوروبا. هذا الشاب الذي يدرس في جامعات تونس نجده في رواية «باب التيه» يخبرنا عن صدمة ثقافية وسلوكية، أهم من صدمة الحداثة، لأنها صدمة نابعة من المجال الذهني والثقافي ذاته في تقلباته وانقطاعاته. صدمة ندرك من خلال سردياتها الروائية كم هي مؤلمة وكم هي ثرية وكم مخصبة، ونتعرف عبرها على ما يجمع المشرق العربي بمغربه، وعلى ما يفصل بينهما من مسافة في التحديث الذهني والسلوكي والمجتمعي.
الراوي، أو السارد، أو الكاتب، لا فرق في هذا النص، له صديقتان تونسيتان. سعيدة من جنوب تونس ذات أصول هلالية، وهاديا من شمالها وذات أصول أندلسية، تتناوبان في الحضور ومزيد بلبلة ذهن السارد، وتعملان متضامنتان عبر حضور إحداهما وغياب الأخرى، أو العكس، كأنهما طبيبتان نفسيتان على وضع السارد على سرير الاعتراف والبوح ومراجعة حياته والنظر في مرآة وجوده، ليخبرنا على ذات متأزمة لها معاناة مريرة تتجاوزها لتشمل محيطها العائلي والقبلي والديني والعرقي، بل وجودها الإنساني بأوسع معنى يهمّ إنساناً في هذه اللحظة من العصر الذي تضطرب فيه مراجعه الأخلاقية والدينية والقيمية.
ختاما، يجدر تسجيل مزية نادرة لرواية «باب التيه» ليحيى القيسي قلّما نعثر عليها في الروايات العربية تتمثل في طريقة استعماله للحوار، فضلا عن إخلاصه للغة الحوار والعودة به إلى منابعه ولهجاته ومقتضياته، وهي مزية تجعلنا من الممكن التعرّف على اللغة التونسية المنطوقة وسرّ إعجاب المشارقة بها أو استغرابهم منها، تلك اللغة الخليط بين عربية فصحى وعربية مشرقية لمسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية وكلمات فرنسية، اجتهد الكاتب في تفسيرها وتبريرها، بكثير من التوفيق والتعاطف في أغلب الأحيان.
*روائي وصحفي تونسي
- تم نشر هذا المقال عام 2008 ونعيد نشره هنا تعميما للفائدة وتوثيقا له.