في ظلّ الاحتلال النورماندي: كيف أثرت الفرنسية في نمو اللغة الإنكليزية؟

في ظلّ الاحتلال النورماندي: كيف أثرت الفرنسية في نمو اللغة الإنكليزية؟

مولود بن زادي

 

اللغات مثل البشر تماما، فهي تحيا وتموت، وتنتسب إلى عائلات. فاللغويون يصنِّفون ألسنة البشر ضمن مجموعات ذات خلفيات متشابهة وخصائص منبثقة من أصول مشتركة، تدعى الأسر أو العائلات اللغوية. واللغة الإنكليزية ليست استثناء عن ذلك، فهي تنتمي إلى عائلة اللغات الهندو أوروبية المنتشرة في معظم أنحاء أوروبا، وفي كثير من مناطق جنوب وجنوب غرب آسيا.
لكننا إذا أمعنّا النظر في هذه اللغة وجدناها مؤلفة من مفردات لا صلة لها بالأصول الجرمانية، كهذه الكلمات المشتقة من مفردات يونانية، التي ـ وفق تقارير ـ يفوق عددها 150.000 أو ما يعادل نسبة 6%. وتحتوي الإنكليزية أيضا على نسبة 30% من المفردات ذات أصل لاتيني، بالدرجة الأولى من بقايا الاحتلال الروماني للجزر البريطانية من عام 43 بعد الميلاد إلى القرن الخامس للميلاد. والمدهش أكثر احتواء الإنكليزية على نسبة مماثلة – 30% من مفردات من أصل فرنسي. الأثر الفرنسي لم يقتصر على المفردات، إذ نلمسه أيضا في القواعد والنحو والنطق. فما مدى تأثير الفرنسية في اللغة الأنكلوساكسونية؟ وقبل ذلك، كيف تأتّى للفرنسية التسرّب إلى الجزر البريطانية والتأثير في لسانها؟

الفتح النورماندي

يعود التأثير الفرنسي إلى الغزو النورماندي لإنكلترا بقيادة وليم دوق نورماندي، وانتصاره الحاسم في معركة هاستينغز (14 أكتوبر/تشرين الأول 1066). النورمانديون هم أصلا من نسل الفايكنج لكنهم اعتمدوا الفرنسية لغتهم.
قبل الفتح النورماندي، كانت اللغة الأم المستخدمة في إنكلترا اللغة الأنكلوساكسونية إلى جانب اللاتينية التي انتشرت في الجزر البريطانية أثناء الحكم الروماني (43- 410 م). وتُعرف الأنكلوساكسونية أيضا باسم الإنكليزية القديمة، سلف اللغة الإنكليزية الوسطى والإنكليزية الحديثة. وكان للفتح النورماندي بالغ الأثر في الأنكلوساكسونية التي تحوّلت أثناء الاحتلال من الإنكليزية القديمة إلى الإنكليزية الوسطى، وساهم بشكل كبير في إثراء قاموس اللغة الإنكليزية وتبسيط قواعدها.
وفي العهد النورماندي، فقدت اللغة الإنكليزية ما يصل إلى 85% من الكلمات الأنكلوساكسونية، وفقدت مكانتها، حيث تحولت إلى عامية بسيطة، لغة الفلاحين وغير المتعلمين والبسطاء في المجتمع. وبينما تراجعت اللغة الإنكليزية المنطوقة وكادت اللغة الإنكليزية المكتوبة تختفي من الوجود، راحت الفرنسية تكتسب مزيدا من القوة والشعبية بسرعة، حتى بين عامة الناس. وإذا بها لغة الحُكام، ولغة المحاكم، ولغة التعليم، ولغة الطبقات العليا بامتياز. وأكثر من ذلك كله، صارت الفرنسية اللغة الرسمية في إنكلترا وظلت كذلك لأكثر من 300 عام.

تأثير في المفردات

يتجلّى التأثير الفرنسي في اللغة الإنكليزية بشكل أكبر في مفرداتها. ففي ظل الاحتلال النورماندي، دخلت الإنكليزية كلمات وتعابير جديدة. واليوم، تؤكد التقارير أنَّ ما لا يقل عن 30% من مفردات اللغة الإنكليزية الحديثة مشتق من الفرنسية. وتشير التقديرات إلى أن الناطقين باللغة الإنكليزية يكتسبون بشكل طبيعي ما لا يقل عن 1500 كلمة فرنسية، دون الحاجة إلى تعلم اللغة الفرنسية.
تجدر الإشارة إلى أنّ الملك وليم قام بجلب النبلاء الفرنسيين إلى إنكلترا، مشكِّلا أرستقراطية من الناطقين بالفرنسية. هؤلاء هم من أدخلوا كلمات اللحوم مثل «beef» بمعنى لحم البقر، و«veal» بمعنى لحم العجل، و«mutton» بمعنى لحم الضأن، و«bacon» بمعنى لحم الخنزير المقدد، و«venison» بمعنى لحم الغزال، وهي كلها أطباق الطبقة الأرستقراطية. في غضون ذلك، احتفظ عامة الأنكلوساكسونيين، الذين كانوا يرعون الحيوانات الأليفة، بالمفردات الإنكليزية الأصلية المنبثقة عن الأصول الجرمانية لتلك الحيوانات، فبدلا من الألفاظ الأرستقراطية، كانوا يستخدمون «ox» بمعنى الثور، و«cow» بمعنى البقر، و»sheep» بمعنى الأغنام، و«swine» بمعنى الخنازير، و»deer» بمعنى الغزلان.
ومع استمرار الاحتلال النورماندي، لم تعد الفرنسية مقتصرة على القسم الأرستقراطي في المجتمع. إذ راحت الكلمات المستعارة تشقُّ طريقها إلى المعجم الإنكليزي تباعا وبدأت الفرنسية في التأثير في اللسان العامي، واكتسبت تدريجياً المزيد من الشعبية، جاذبة اهتمام عامة الجماهير.
ساهم النورمان في إثراء اللغة الإنكليزية بمصطلحات في مجالات متعددة. فمن المصطلحات السياسية التي ساهموا في إدخالها إلى اللغة الأنكلوساكسونية «cabinet» بمعنى مجلس الوزراء، و«minister» بمعنى وزير، و»government» بمعنى حكومة، و«parliament» التي تعني برلمان. وتضمَّنَت المصطلحات العسكرية «military» بمعنى عسكري، «army» وتعني جيش، «navy» وتعني بحرية، «commander» قائد.
وفضلا عن كل ذلك، شقت مصطلحات قانونية فرنسية طريقها إلى اللغة الإنكليزية لأنّ النورمانديين هم من كانوا يتولون إدارة المحاكم. من جملة هذه المصطلحات نذكر كلمة «tribunal» و»court» بمعنى محكمة، و»jury» بمعنى هيئة محلفين، و»verdict» بمعنى حُكْم. وعلى الرغم من أن اللاتينية كانت آنذاك لغة الكنيسة، إلا أن النورمانديين أدخلوا بعض المصطلحات الدينية التي أصبحت جزء لا يتجزأ من اللغة الإنكليزية الحديثة. أمثلة عن ذلك: «religion» بمعنى دين، و«virgin» عذراء، و«confession» بمعنى اعتراف.

تطوير النحو والقواعد

استمر التأثير الفرنسي في اللغة الإنكليزية بعد العهد النورماندي، ما أدى إلى استعارة المزيد من الكلمات الفرنسية. دخلت كلمة «rendezvous» التي تعني موعد اللغة الإنكليزية في أواخر القرن السادس عشر، و«critique» بمعنى نقد في منتصف القرن السابع عشر، و«terrorism» بمعنى إرهاب في أواخر القرن الثامن عشر خلال الثورة الفرنسية المعروفة. فضلا عن التوسع المعجمي، كان من أبرز نتائج الاحتكاك باللغة الفرنسية تطوير قواعد اللغة الإنكليزية. يتجلّى التأثير النورماندي على وجه الخصوص في استعارة عدد كبير من البادئات واللواحق الفرنسية. فالنورمان هم من أدخلوا بادئات مثل conـ de- dis- ex- pre- en- pro- trans؛ ولواحق مثل:ee -ance -ant -ation -ment -ism -ity -able -al -ous -fy -ize. وتمّت أحيانا إضافة بادئة فرنسية إلى كلمة أصلية إنكليزية لتشكيل كلمة جديدة على منوال: re + born = reborn
وفضلا عن ذلك كله، سمح الاحتكاك باللغة الجارة بإدخال أنماط نحوية فرنسية غير معهودة في الأنكلوساكسونية كهذه العبارات المكونة من أسماء متبوعة بصفات مع أن الصفة تسبق الاسم عادة في الإنكليزية. أمثلة: «court martial» بمعنى محكمة عسكرية، «attorney general» بمعنى مدعي عام.

تأثير في النطق

تُعرف الفرنسية في أنحاء الدنيا على أنها لغة رومانسية ساحرة. وقد انعكس ذلك في اللغة الإنكليزية، حيث أضفت عليها سحرا ورونقا بنطقها. من الأسماء الفرنسية الجميلة «belle» بمعنى الحسناء، والتي شقت طريقها إلى هذه اللغة في القرن السابع عشر. اللافت للانتباه في الكلمات الفرنسية التي دخلت اللغة الإنكليزية احتفاظ بعضها بالنطق الفرنسي الأصلي. فالكلمة الفرنسية «corps» على سبيل المثال، ما زالت تُنطق في اللغة الإنكليزية مثلما تنطق في الفرنسية تماما بصيغة / kɔː / حيث تبقى (ps) في نهاية الكلمة صامتة.
كلمات مثل «ballet» بمعنى باليه، «bouquet» بمعنى باقة أزهار يبقى فيها حرف (t) في آخرها صامتا فتُنطق / eɪ / بدلاً من / Ət / أو / t /، عكس ما هو معهود في قواعد النطق الإنكليزية، ما قد يفاجئ دارسي اللغة الإنكليزية الذين لم يتعودوا على هذا النوع من النطق.

تعابير اصطلاحية جديدة

لم يقتصر التأثير الفرنسي في اللغة الإنكليزية على المفردات والقواعد والنطق. إذ أنه امتد ليشمل التعابير الاصطلاحية الفرنسية التي صارت مع مرّ الزمن جزءاً لا يتجزأ من الإنكليزية المكتوبة والمنطوقة معا. من هذه التعابير التي احتفظت بشكلها الفرنسي الأصلي نذكر: «au contreire» بمعنى عكس ذلك، و«force majeure» بمعنى قوة قهرية، و«vis à vis» بمعنى مقابل، و«bon appétit» بمعنى شهية طيبة، و«bon voyage» بمعنى رحلة ممتعة.

اللغة الإنكليزية لغة عالمية

تأثرت اللغة الإنكليزية بمجموعة متنوعة من الثقافات واللغات، بما في ذلك اللاتينية والهولندية واليونانية. ومع ذلك، ليس ثمة لغة في الدنيا أثّرت في اللغة الإنكليزية بقدر تأثير الفرنسية. فقد امتد تأثيرها ليشمل كل سكان إنكلترا، بما في ذلك عامة الناس الناطقين باللغة الأنكلوساكسونية، الذين آل بهم الأمر إلى استخدام المفردات الفرنسية، وحتى إنشاء كلمات جديدة اعتمادا على اللواحق والجذور الفرنسية. لم تكتف الفرنسية بإثراء المعجم الإنكليزي بآلاف المفردات، ما يصل وفق بعض التقديرات إلى 10 آلاف كلمة، فقد ساهمت أيضا في تغيير قواعد هذه اللغة. إذ قبل الفتح، كان للغة الإنكليزية قواعد نحوية معقدة، وبعد عقود قليلة من الغزو النورماندي، أصبحت القواعد الإنكليزية أكثر بساطة. وكان التأثير الفرنسي في الإنكليزية كبيرا إلى درجة أنه غيّر هذه اللغة من لغة نقية بنسبة كبيرة إلى لغة مختلطة تماما.
واليوم، بوجود ما يناهز 1.5 مليار شخص في العالم يتحدثون الإنكليزية لغة أولى أو ثانية، الإنكليزية هي لغة العالم الأولى والأخيرة. وبحكم انتشارها الواسع وتقبُّل شعوب العالم إياها لغة مشتركة للتواصل، الإنكليزية بلا ريب اللغة الوحيدة القادرة على توحيد كل البشر في كل أنحاء الدنيا بغض النظر عن جنسياتهم وأعراقهم وخلفياتهم الثقافية.

كاتب جزائري

* عن القدس العربي

شاهد أيضاً

سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في أبوظبي للكتاب

(ثقافات) سوسن دهنيم وأحمد زايد يوقعان كتابيهما في جناح مؤسسة العويس بمعرض أبوظبي للكتاب   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *