” تلك الأزمنة ” ملحمة محمود شقير في ثمانين عاماً “

(ثقافات)

” تلك الأزمنة ” ملحمة محمود شقير في ثمانين عاماً “

محمود شاهين

 

كتاب ” تلك الأزمنة” هو الجزء الثاني من سيرة حياة أديبنا الكبيرمحمود شقير التي بدأها بكتابه ” تلك الأمكنة”*

الكتاب ملحمة أدبية متكاملة تسرد وقائع حياة محمود شقير في ثمانين عاماً ونيف . وقد قرأته بلهفة خلال استلقائي في السرير قبل النوم ، (وهي عادتي في القراءة ولو قدر لسريري أن يشكو، لشكا من استخدامي له للقراءة والكتابة أكثر مما أستخدمه للنوم)! فقد لجأ محمود إلى تقنية فنية لكتابه مستخدما لازمة تتكرر في بداية كل فصل وأحياناً في بداية فقرة :

” أغذ الخطى نحو الثمانين” “أنتظر الثمانين بفضول” ” وأنا على مشارف الثمانين ” وهكذا ، ما حول النص إلى سمفونية مسلية في انتظار الثمانين ، رغم أن بعض النصوص مكتوبة بعد زمن السرد ، الذي رجعه محمود إلى عام 2018 ، وأحيانا نلمس أنه تجاوز زمن السرد ليعود إليه .

يهدي محمود كتابه إلى حفيده مهدي، وإلى حفيداته ريتا وليال وملاك وبلقيس. ويتطرق فيه إلى طفولته وعلاقته بأمه وأبيه وإخوته وأخواته وجده وخاله الكبير، ثم إلى المدرسة والدراسة والتعليم وبدايات الكتابة والانتماء السياسي والنضال والسجون والإبعاد والتشرد من بلد إلى بلد ، والتعرف إلى مئات الشخصيات الأدبية والسياسية وغيرها..ويتطرق إلى تفاصيل كثيرة بعلاقته بهذه الشخصيات وبعض جوانب حيوات مثقفين وأدباء وسياسيين وأفكارهم ومواقفهم.

وثمة صفحات عن أنشطة محمود المختلفة في الصحافة والمؤسسات الثقافية واجتهاداته في الكتابة ومن تأثر بهم من الأدباء ” ما جعل زمانه أكثرامتلاء وسيرته أكثر ثراء ” حسب قوله .

ليس هناك محطة غير مهمة في كتاب سيرة محمود ، وبالتأكيد ليس في الإمكان في عجالة كهذه التوقف عند كثير من المحطات ..

في نفس محمود جرح غائر ينزف باستمرار هو مرض ابنته أمينة الذي كان يعود إليه في صفحات كثيرة ويكتب ملحقاً عن بعض يومياته في بداياته. وهو أكثر الفصول إيلاما لما يثيره من حزن وألم . فقد أصيبت أمينة بمرض مزمن ” ضمور العضلات ” وهي في ريعان شبابها العشرين ، وهو “مرض يتسبب بضعف بنية الجسد وعدم القدرة على تحريك الأطراف”

كانوا “ينقلونها على كرسي متحرك في البيت وخارجه. وتفاقمت حالتها إلى أن أصبحت عاجزة عن الحركة ، ولم تعد قادرة على مغادرة السرير، ولم يعد لها صوت بسبب الأنبوب الذي يخترق صدرها ويذهب إلى رئتيها ليضخ فيهما الأكسجين ” وأنبوب أخر لسحب السوائل المتجمدة من رئتيها.. جرس منبهها يرن باستمرار ليهرعوا لمساعدتها . العبء الأكبر يقع على أمها رغم أن الجميع يساعدونها.. تهب الأم “لكي تعدل وضع رأسها على الوسادة ، أو لتعيد موضعة ساقها على السرير، أو لتسحب السوائل المتجمعة في رئتيها ” تنهض الأم من نومها مرتين أو ثلاث وأكثر أحيانا لتلبي لأمينة طلباتها. يشعر محمود بالإمتنان للأم التي تخدم أمينة بكل ” تجرد ووفاء ” ويعلق قائلا:

” إنها تمارس أمومتها باكتمال لا مزيد عليه ، ولهذا أشعر نحوها بالتقدير والعرفان ، لدورها الذي يهون أمامه كل شيء وأي شيء” ( ص 108)

في مقابل وضع أمينه المحزن والمؤلم هناك وضع مفرح هو وضع الحفيد مهدي الذي له مكانة خاصة عند محمود ، يلاعبه ويحادثه كثيرا ، ويدخل معه في قصص خيالية ، وتمثيليات مبهجة.

يتحدث محمودعن أسرته وأسرة أمه .. يتحدث عن أبيه وقسوته مع عمته وأمه. وعن عدم تعصبه رغم تدينه ، وأمه كذلك ، فلم يعترض أي من أبويه على انتمائه لحزب شيوعي بل ولم يجادلاه في الأمر قط . ويتحدث عن علاقته بأمه ويتطرق إلى سبعة أخوة لها أنا أحدهم ! فأنا خال محمود الأصغر، وحين كنا نزورهم ممتطين ظهر بغل في عيد الأضحى أنا وأخي محمد الذي يكبرني، محملين بعيدية العيد وهي جزء من لحم الأضحية ، كان محمود وأخواته ينادونني ” خالي الصغير ” وفيما بعد حين أصبحت كاتباً وصحفياً كان الكتاب يسألونني من هو خال الآخر منّا ؟ فكانوا دائما يظنون العكس!

يتحدث محمود عن جده الذي عيّره بأخواله ، فتطرق إلى خاله الأكبر الذي التحق بالجهاد المقدس عام 1948. وإلى زيارته للبرية لبيت جده لأمه ( أبي )

يتحدث عن نساء البلدة وهن ” يعفرن شعورهن بالتراب حزنا على عزيز اختطفه الموت .” رأيتهن وهن يشققن ثيابهن عن صدورهن فتظهر أثداؤهن كما لو أنهن يتحدين الموت بهذه الأثداء التي تمنح الحياة للأطفال.. رأيتهن وهن يلطمن خدودهن ويجرحن الخدود بأظفارهن” ( ص 17)

يتحدث محمود عن التخلف الثقافي وعن النزعات الأسرية والعشائرية والقبلية التي تنخر المجتمع الفلسطيني.

وفي الجانب السياسي يتحدث محمود عن” ثورات الشعوب العربية التي اندلعت من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والخبزوالعدالة الاجتماعية ، ثم اختطفت من قبل قوى أصولية متطرفة، وتدخلت في مساراتها أجهزة استخبارات اقليمية ودولية ، وانحرفت بها عن أهدافها المشروعة ، وبالطبع فإن هذا الإنحراف لا يبرر الولاء الأعمى لأي من الأنظمة المستبدة الحاكمة ، والصفح عن ممارساتها القمعية، وبذلك يصبح من غير الإنصاف اتهام الربيع العربي بأنه مشبوه من لحظة انطلاقه الأولى ، وتصبح المعادلة التالية غير منصفة حينما يقال: اقبلوا نظام الحكم الجائر المستبد كيلا يأتيكم نظام أفظع منه جورا واستبداداً” (ص44)

والحق إن رأي محمود هذا هو رأي معظم المثقفين العرب على اختلاف انتماءاتهم .

محمود الهادئ المتواضع الدمث يحرص على علاقات محبة وصداقة مع الآخرين حتى لو اختلفوا معه سياسياً، لكن بعضهم ممن يختلفون معه قد يقاطعونه فيضطر إلى مقاطعتهم وتجاهلهم ، وتطرق إلى أكثر من صديق اختلف معه غير أن أحدهم خاصمه فهو ” يريد محمود نسخة كربونية منه ، ولأنه ليس كذلك ، يخاصمه ويخرجه من دائرة أصدقائه ” ( ص 44) بتصرف.

وعن المناسبات الاجتماعية يقول محمود :

” أعترف أنني في هذا الجانب الخاص بالعلاقات الاجتماعية ما زلت قروياً متزمتاً إلى حد ما ،أجامل من يجاملني وأستاء ممن أجامله ولا يرد على مجاملتي بالمثل ،وأظل أتحين الفرص حتى تأتيه مناسبة تستدعي التواصل معه ، فلا أذهب إليه ، لكي أشعره بأن وقته ليس أثمن من وقتي حين لم يجد وقتاً للقدوم إلى بيتي في مناسبة ما “(ص43)

يعلق محمود على ذلك بالقول ” هكذا تجعلنا البيئة المحدودة الضيقة ضيقي الأفق في بعض الأحيان، وبالطبع فإنني لا أشعر برضى عن النفس من جراء ذلك ، وثمة محاولات حثيثة أبذلها من خلال الثقافة التي تهذب السلوك ، لعلي أتجاوز كل سلوك مقيت “(ص43)

” ورغم ذلك أنا لا أحقد ولا أقابل الحقد بحقد مثله، ولا بتشهير مضاد ” ( ص43)

يتحدث محمود عن سجنه عامي 69 و74 من القرن الماضي ومن ثم ابعاده عام 75. وعن رسائل تبادلها مع سجناء وقرأ كتبهم وتحدث عن بعضها ..

وعن علاقته بالنساء يتطرق محمود إلى حب فاشل لطالبة خلال دراسته في مدرسة الرشيدية في القدس، لم تعره الطالبة أي اهتمام . يقول:

” امتدت مطاردتي لها ثلاثة أشهر أو أربعة من دون أن تعيرني أي انتباه، ربما لأنها كانت صغيرة على الحب ، أوربما لأنني لست الفتى الذي تتمناه ” ( ص22)

يتحدث محمود عن قلقه من الأمراض وخاصة الزهايمر، وترقب الموت منذ أن تجاوز الستين .. وتطرق إلى ما يعاني منه اليوم ” تشنج في أصابع اليدين ، تعب ودموع في العينين ، انزلاقان غضروفيان في العمود الفقري ، حرص على شرف الكلمة ووفاء ، حياة بسيطة متقشفة بلا ادعاء”

لم يتحدث محمود عن كرمه لتواضعه وتفانيه في محبة من يحبونه. لقد كان محمود وأخوه الدكتور محمد أنبل وأكرم من وقفوا معي في محنتي بالتشرد من دمشق ، وترك بيتي بكل ما يحتويه من لوحات ومنحوتات وتحف ومكتبة ومخطوطات بما لا يقدر بثمن . لقد أرسل لي محمود وبمساعدة أخيه محمد أكثر من ألفي دينار، رغم ظروفهما الصعبة، في ظل الإحتلال، ما زلت أعتبرها ديناً علي ، رغم أنهما لا يعتبرانها كذلك .

لن أفي هذا الكتاب الملحمي حقه مهما كتبت عنه ، فكيف وأنا لم أكتب إلا أقل القليل . لكن سأتطرق إلى ما أضحكني في الكتاب رغم الحزن ألذي خلفته آلام أمينة وأوجاع محمود عليها . فمحمود في سني دراسته كان مغرما بمشاهدة الأفلام وأحب ممثلين وراسل بعضهم ” راسلت شادية وفاتن حمامة وأحمد رمزي، وعبد الحليم حافظ ، ولم يجبني على رسائلي سوى أحمد رمزي. طرت من الفرح حينما وصلتني رسالة منه “

الموقف الطريف الثاني كان مع الحفيد مهدي حين ابتاعوا له ديكاً هيأت له جدته مسكنا على سطح البيت ، غير أن الحفيد أعاده إلى ساحة البيت ليتبرز في الساحة. لم تطق الجدة الأمر فذبحت الديك وطبخته في غياب مهدي. وحين بحث عنه ولم يجده أخبرته جدته أن ” القطة ذات اللون الأصفرأكلته” ” صدق كلامها وراح يبحث عن القطة ليعاقبها غير أنه لم يعثر عليها. .

ألحق محمود مؤلفه بثلاثة ملاحق عن يوميات مرض أمينة وقصة تتحدث عن عسف المخابرات ، وتهاني الأصدقاء له بعيد ميلاده الثمانين .

أصدر محمود أكثر من سبعين كتابا في الأدب والسيرة ومسلسلات تلفزيوية وغيرها، بحيث يمكن القول إن أعماله قاربت المائة .

في الختام . نتمنى لأديبنا الكبير محمود شقيردوام الصحة وطول العمر.

***

الكتاب*صادر عن نوفل ، هاشيت أنطوان – بيروت 2022

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *