الإعدام… قصّة من الأدب الكوبي

                    الإعدام…

                (قصة من الأدب الكوبي)

           كالفرت كاسي

           ترجمة : إفلين الأطرش

 

 

 

 

” هل ستبدأ المحاكمة ثانية ؟ ” سأل ك، معربا عن شكوكه. ” واضح “، أجاب الفنان.

                                                           فرانز كافكا ( المحاكمة)

    رنّ جرس هاتف ماير قبل ساعة من اعتقاله، كان ماير يحلق ذقنه في الحمام. كانت بشرته حساسة، وبخاصة حول العنق، وكان يدميها بشكل متغيّر في كلّ مرّة يحلق ذقنه فيها.

  جفّف نصف وجهه الحليق بعناية، ولاحظ أن المعجون على النصف الآخر قد جفّ قليلا. اجتاز الممر، وتوقّف متردّدا عندما تأكّد أنه قد ترك صنبور الماء مفتوحا. تردّد بضع لحظات. كان الهاتف على منضدة منخفضة مستريحا على وسادة لتخفيف رنينه.

  ـــ آلو.

 لم يجبه أحد.

ـــ آلو. قال ماير ثانية.

 لم تكن هناك أية إجابة.

ـــ آلو.. آلو.. قال من جديد.

  لكنه لم يتلقّ إجابة هذه المرّة أيضا. انتظر بضع لحظات وكان مستعداً لإعادة السماعة، ولكن، قبل أن يتمكّن من  فعل ذلك ، سمعهم يضعون السماعة من الجانب الآخر.

  رجع إلى الحمام بانزعاج شديد. نظر إلى الساعة المعلّقة على الحائط في الممر. إنها الساعة السادسة. فتح صنبور الماء ثانية ورطّب وجهه بالفرشاة وتابع حلاقته. اتّبع أسلوبا معيّنا لإكمال حلاقته وذلك بضغطه الأداة ضغطا صحيحا كي يتلافى نخديش بشرته. ركّز ماير على ذقنه حيث تنمو لحيته بشكل ملحوظ. ولذلك كان عليه أن يمسك أداة الحلاقة بشكل مائل، ولحسن حظه كانت بشرته في تلك المنطقة أكثر خشونة مما ساعده في الضغط بقوة أكبر، وعندما مسح الصابون وجد أنه قام بعمل جيد وإن ذقنه نظيفة وناعمة.

   رنّ الهاتف مرة ثانية. وضع ماير أداة الحلاقة على حافة الحوض. أغلق الصنبور ووصل إلى الهاتف قبل أن يرنّ للمرة الرابعة، وأجاب باختصار:

  ـــ آلو.

 لم يتلقّ أي ردّ.

   كان هناك صمت تام على الجانب الآخر. أغلقوا السماعة بعد لحظة وبلطف كما في المرّة السابقة. قرّر ماير ألاّ تبعُد به الظنون كثيرا. لم تكن تلك المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. كان الهاتف يتحوّل إلى شيء مزعج بغيض عندما ينشُد بعض السلام والهدوء. وفي مرات مثل هذه، وبخاصة بعد منتصف الليل، قام بتغطية الهاتف بالوسائد مرتّبا إياها لإخفاء صوت رنينه.

   فكّر بأن يغلق السماعة، ولكنه لم يفعل.

    توجّه إلى المرآة واثقا بأن صاحب هذه المزحة سوف يتعب منها عاجلا أم آجلا، وحينها سيكون قادراً على قضاء هذا المساء كما خَطّط له، سيتفحّص ساعة يده التي كانت حركتها بطيئة, وسينظّف ويلمّع غطاء ولاّعته الذي تغيّر لونه بسبب رخص ثمنه، بعد ذلك سيجهّز طعام العشاء ويتناوله. لم يكن يتوقّع أحدا أيضا، وسيمضي بقية المساء هادئا، يقرأ، أوـ وهذا أفضل ـ سيجلس كما كان يفعل، يدخّن في الغرفة الصغيرة بنوافذها المفتوحة وأضوائها المطفأة كي لا يراه جيرانه، تاركا عقله يتجوّل بحريّة  في الظلمة. ولكي يرتّب هذا الآمر وتكون أوقات راحته ممكنة قام بتغطية زجاج النوافذ بورق سميك ليمنع دخول الضوء من الشارع. كان يدخّن ببطء ممضيا الساعات في العتمة حتى يُنهي حصّته اليومية من اللفائف.

   ابتدأ يحلق ما تحت ذقنه، الجزء الذي يتطلّب عناية أكثر. استطاع أن يسمع رنين الهاتف اللحوح ثانية من خلال الوسادة الموضوعة فوقه. قرّر ماير تجاهله حتى ينهي حلاقته. حرى موس الحلاقة مُدمى فوق رقبته ورأى أن جلده قد اصطبغ بلون أحمر خفيف، أولا في مكان ثم في آخر. رمى أداة الحلاقة في الحوض، جفّف رقبته ووجهه وبواسطة المرآة استطاع أن يرى أن جروحه كبيرة، فقرّر أن يتوقّف عن الحلاقة. أغاظه وأهاجه هذا التغيّر في برنامجه المسائي.

  توجّه إلى الغرفة الأخرى وحملق في الطاولة التي تحمل جهاز الهاتف المغطّى بالوسادة. مُفاجئا، دفع الوسادة جانبا والتقط السماعة وأصغى دون أن يتكلم. لم يتكلم أحد على الجانب الثاني أيضا. حاول ماير أن يكتشف أي صوت. لكنه لم يتلقّ إلاّ الصمت المطبق. وقف ماير لفترة طويلة والسماعة على أذنه محاولا أن يخترق الصمت.

 جال بصره في الغرفة كلّها من جهة إلى جهة،  فكر أنه خَبِر فرقا في الأشياء حوله ولكنه لم يحدّده.

 مرّت دقائق عديدة ولكن الهاتف اللحوح لم يكسر الصمت.

   باذلا جهدا كبيرا كي لا ينزعج، وضع ماير السماعة على الوسادة وابتعد. حملق ثانية في الهاتف وخطا بطيئا في الغرفة ليواجه الشارع. لم يستطع تمالك نفسه من الابتسام حين تأكد من أنه يمشي على أطراف أصابعه، وحين اجتاز باب المدخل أشعل لفافة وذهب إلى النافذة لينظر إلى الشارع. إنه الغسق.. فكر في قصر النهار في الخريف. وبعد أن نفث عدة مرات من لفافته تبيّن أنها بغير طعم  فرماها، ثمّ ذهب إلى غرفة نومه. لاحظ ساعته وولاعته اللتين وضعهما على السرير عندما دخل . عكس المعدن بوهنٍ آخر ضوء ضعيف للمساء. عاد إلى الغرفة حيث الهاتف. وحينما وصل الباب خطا بخفّة كي لا يُسمع صوت وقع خطاه.

  سار على أطراف أصابعه حين وصل الهاتف، ركع على الأرض، ووضع أذنه على السماعة دون أن يلتقطها. كل ما سمعه كان الصمت المطبق. من الواضح أنهم لم يتصلوا مرة ثانية لأن نغمة الاتصال لم ترجع. نهض، ولكنه فكر بأنه سمع صوتا في السماعة وبسرعة جثا على ركبتيه من جديد. ولكن الصمت كان كالسابق، لم يتغيّر شيء.

   بعد برهة قصيرة، بدأت عضلاته تؤلمه فتمدّد على الأرض واضعا رأسه على الوسادة، وبعناية فائقة أبعد السماعة عنه كي لا يُسمع تنفسه. وتنبّه هنا إلى إمكانية سماعهم المباشر لضجيج الشارع، لأبواق السيارات، ولأصوات الناس عبر السماعة. وكي يحرمهم من هذه المتعة البسيطة، أخرج منديله من جيبه، مُتحاشيا القيام  بأية حركة مفاجئة يمكن أن تنمّ عن وجوده بجانب الهاتف. بعد ذلك وضع المنديل فوق السماعة بعناية فائقة طاوياً إياه عدّة طيّات. أصغى بقلق ليعرف فيما إذا كان هذا الحدث قد أحدث تأثيرا  ما في الجانب الآخر. لكن لم يحدث أي تغيّر حسّي.

   انتهى الغسق، فانتشرت الظلمة في الغرفة. كان ماير يشعر بفائدة الظلمة في نهاية كل يوم. عندما تصبح الأشياء ضبابية ببطء، يمارس نوعا من الانتصار اليومي. كان يفضّل الشتاء بساعاته الرماديّة القصيرة والمنتشرة ، على أيام الصيف. ولكن ماير ولأول مرة منذ سنوات كثيرة، افتقد هذا الشعور بالوفاق، وجثم ثقل وحشي على صدره حين تمدّد على بلاط الغرفة وأرخى ثقل جسده كلّه على ذراع واحدة، فيما كانت عضلات فخذيه تتثنّى ضاغطة المنديل على السماعة.

  أراد أن يشعل الضوء ولكنه لم يجرؤ. تأكّد بأنه إذا تحرك، فإن خشخشة القماش ستشي بحركاته وبأن الهاتف الصامت سيدخل ثانية عالمه الخاص الذي فقده، ربما إلى الأبد، إلى الأبد، فكر بذلك حين كان يضغط المنديل بقسوة على السماعة كآخر خط دفاعي له.

  انساب عرقه بحريّة من صدره المضغوط إلى بطنه، لافاً حول خصره، غائصا في ظهره، فشعر بالعرق ينساب من فخذيه حتى ركبتيه.

   جالت عيناه في الظلمة، هوجم ثانية وللحظة بهذه الفكرة غير الواضحة، ( ولم يكن يعتقد بعد بأن هذا العمل كان جديّا)، بأن كلّ شيء كان مختلفا، مواضيعه، كتب مكتبته، قطع أثاثه البشعة القيمة قد وقعت في تغيّر بيّن، مبتعدة عن طمأنتها السابقة له. كان كلّ شيء يهدّده بطريقة غامضة، ولكنها شرسة.

  شعر بأنه إذا تمكّن أن يبقى أطول مدّة في هذا الوضع غير المريح فإنه كائنا من يكون على الجهة الأخرى سوف يتعب، وبأن كلّ شيء سيعود إلى طبيعته. أفاق بفعل ثلاث دقّات قصيرة وحازمة على الباب، وسمعهم تقريبا في ذلك الوقت يُغلقون الخطّ على الجانب الآخر من الهاتف.

 نهض، كان يعرج ويقفز على ساق واحدة ، واضعا ثقله على الساق التي كان نائما عليها، (والتي كانت تؤلمه بطريقة مزعجة). توجّه الى الباب الأمامي خلال الممر، وعندما فتحه واجهه ثلاثة رجال شرطة بكامل سلاحهم، تذكّر فيما بعد أن أحدهم كان طويلا جدا وأشقر, ووجهه أشبه بوجه فتاة مراهقة جميل.

ـــ السيد ماير؟

 ـــ نعم.

ـــ يجب أن تأتي معنا.

  لم يقل ماير أي شيء. رفع يده وضغط المفتاح فأضاء النور.

ـــ هل تسمح لنا بالدخول؟

   لاحظ ماير هذه النغمة المؤدّبة في لهجة أكبرهم.

ـــ يجب أن نفتّش المكان قبل أن نذهب.

 ـــ تفضّلوا ـ ادخلوا ـ سمع ماير صوته هادئا. ـ هل تسمحون لي بتبديل ثيابي؟

ـــ هذا ليس ضروريا. قال رجل الشرطة  الطويل الأشقر بنفس اللهجة المؤدّبة التي استعملها زميله.

    أرخى بلطف قدمه الخَدِرة وانتظر بهدوء حتى يُنهي رجلا الشرطة تفتيشهما المختصر، بينما كان الثالث يحرس الباب. شعر فجأة أنه غرق في تعب عظيم. خفّ خدر قدمه، وتلاشى حين عاد دمه يجري فيها بحرّية من جديد.

   نظر باتجاه النافذة. كانت معتمة تقريبا. لقد خَبر المتعة المعتادة التي يجلبها الظلام وتملّكه إغراء بأن يطفئ الضوء فيما هما يفتشان. لكنه فكّر بأن مثل هذا العمل سوف يُقاطع بخطأ من أحدهم، ولذلك انتظر.

    عندما انتهى التفتيش، وصل أحد الشرطيين حاملا سترة ماير وأوراقا مختلفة.

ـــ هل هذه الوثائق لك؟

ــــ نعم.

 ـــإذن دعنا نذهب.

 أطفأ أصغرهم الضوء. حملق ماير بسرعة في أرجاء الشقة. كلّ شيء يؤكد أُلفته وسلامه في الشفق المميت.

                                       ******

     كان مركز الشرطة نظيفا نظافة تامة، قد يكون أُعدّ ليكون فندقا أو مشفى. وكما في الفنادق الكبيرة الآن ولاحقا، مرّ رجل صغير بلباسه الداكن وصندوق نفاياته اللامع ــ لم يرَ ماير من قبل صندوقا بمثل هذا اللمعان، فمن المؤكّد أنه صُنع من نحاس ملمّع ــ ومعه فرشاة صغيرة، من المرجّح أنها صُنعت خصّيصا لتحشو في الصندوق ( الذي يُفتح عند ملامسته البلاط) كلّ ما من شأنه أن يُنقص من نظافة المكان، أعقاب لفائف التبغ، قطع الورق والغبار. كانت رائحة المكان تفوح بالتعقيم والتطهير.

 توقفوا في مكتب صغير لتسجيل المعلومات الشخصية، رأى ماير ممرين طويلين بأبواب مغلقة في كلّ جانب، مضاءين بضوء السماء نهارا وبأضواء حائطية بسيطة مثبتة على الجدران ليلا. كان كلّ من الممرين يقود إلى ممرين آخرين. كان يجتاز الممرات، مجموعات من الناس، وغالبا من الرجال، المستعجلين ولكن بانتظام وانضباط، وكانت الأبواب تُغلق وراءهم، ليدخلوا، كما تخيّل ماير إلى مكاتب أخرى. كانوا يتوقفون متباعدين أحيانا ليتحدّثوا بهدوء. كانت الممرات الطويلة ذات السقوف العالية تردّد صدى مضخّما للأبواب التي كانت تُفتح أو تغلق أحيانا، لوقع الخطوات على الأرض اللامعة الصقيلة، للتداخل الواضح في الأصوات، لرنين الهواتف البعيدة ولأصوات الآلات الكاتبة المُخمدة. ( ليس ذلك مضجرا على الإطلاق…فكر ماير).

   ولّدت فيه الغمغمة الكبيرة المنتشرة كأنها صوت بين حشد، إحساسا قويا بموت الحقيقة وبأنه وسط عالم غير حقيقي.

  ـــ  اقرأ الإفادة ووقّع هنا.

  ـــ أين؟

  ــ هنا.  وأشار الرجل بإصبعه الصغير على السطر المطلوب.

   وقّع ماير بسرعة في المكان المطلوب.

 ـــ ولكنك لم تقرأ الإفادة.. قال الضابط محملقا فيه.

 لم يُجب ماير.

 ولبرهة حملق فيه رجال الشرطة الثلاثة الذين اعتقلوه وكذلك الضابط .

  ــ هل تعني بأنك تقبلها؟

   ولأن ماير لم يُجب مباشرة، وضع المسؤول الورقة في ملف من ورق مقوّى وفتح خزانة معدنية  عل يمينه، وضع الملف بداخلها، وأقفل الخزانة واستدار باتجاهه. قال بحزم وبعد تردّد لسجّان ينتظر قرب الباب : خذ السجين بعيدا.

  قاده السجان الأكبر سنّا من بقية رجال الشرطة، والذي حُوّل إلى العمل الداخلي ربما لكبر سنّه، من باب المكتب عبر الممر، وكان من الواضح أن السير مجهود يُتعب السجان. أمسك ماير أولا بذراع واحدة، وبعد ذلك حين أصبح تنفسه أكثر ثقلا، ازداد ضغط يده على ذراع ماير. كان السجين يشعر باتّكاء جسد السجان عليه أكثر وأكثر وبتنفسه اللاهث مع كلّ خطوة عبر الممر الطويل.

 ـــ هل تحبّ التوقّف لدقيقة؟ سأله ماير.

ــ نعم، من فضلك.. أجابه السجان.

 ــ يمكنك الاتكاء علي. عرض عليه ماير عندما ابتدءا السير من جديد. أراح الرجل يده على كتف ماير، وشعر ماير بأن الرجل يريح جسده كلّه عليه. وعندما أصبح وضع الرجل غير مريح جدا، ضغطه ماير بذراعه وأسنده بحزم. تقدّما بشكل أسهل بهذا الوضع.

  بعد الممر الأول اجتازا ساحة أمامية مغلقة بنوافذ زجاجية مقوّاة، ومضاءة بضوء وسطي فقط. ثم اجتازا نوعا من القاعات المغلقة التي تقود إلى ممر أكثر برودة بأبواب معدنية، وكوى صغيرة للتجسّس محاطة بقضبان.

  فتح السجان بابا في نهاية الممر والذي كان مفصولا عن البقية، وكان ماير لا يزال يسنده.

ــ هذه هي.. قال السجان. هذه الزنزانات تفتح على الساحة. سآتي لأخرجك مرة في اليوم لتستنشق بعض الهواء.

 ــ شكرا لك.. قال ماير محاولا الابتسام.

 كان الرجل يجاهد لاسترجاع أنفاسه، ولم يُجب. أغلق الباب، وأحكم الرتاج وذهب.

 تفحّص ماير الزنزانة. من المحتمل أنها لم تكن مختلفة بشكل كبير عن الزنزانات الأخرى، ربما أكثر نظافة. كانت رائحة الجدران والبلاط تفوح برائحة المطهرات كما كانت الممرات في المبنى كلّه.

 جلس ماير على سرير ذي زنبركات معدنية، مثبت ببراغٍ كبيرة في الجدار من جانب واحد، ومغطّى بمرتبة وملاءة. كانت الزنزانة مضاءة بضوء شاحب، من المحتمل أنه آتٍ من الساحة التي ذكرها السجان.

 خلع ماير قميصه وغطّى كوة التجسس المحاطة بقضبان بأفضل طريقة استطاعها، فأعتم الزنزانة ثم اندسّ في سريره وسرعان ما أغرق في النوم.

                                     ******

لم تمطر ولو مرة واحدة خلال إقامة ماير كلّها في الزنزانة بجانب الساحة الصغيرة. ذات يوم خلال شهره الثاني ــــ سمع السجان الكهل يخبره بأن تنفسه قد تحسّن كثيرا، وشكر له مقترحاته الطبيّة رغم أنه لم يكن متأكدا تماما من ذلك الأمر بسبب العدد الكبير من العلاجات التي أخذها. سبّب هذا لماير سعادة عظيمة. أخبر السجان بدوره أنه هو نفسه أيضا يشعر بصحة جيدة.

  لم يقل ذلك لإسعاده أو لشكره بطريقة أو بأخرى على الانتظام في تسلّم وجباته، فقد تحسّنت صحته حقّا بشكل بائن وعزا ذلك بشكل رئيسي لحقيقة أن نومه أصبح أكثر راحة. كان إذا ما صحا في منتصف الليل، يتذوّق الصمت المخيّم على المبنى الكبير لثوانٍ قليلة ويعود ليستغرق في النوم من جديد.

  أُشبعت رغباته في الصباح الذي غادر فيه زنزانته محاطا بضابط السجن ومساعده يتبعهم قسيس. حالما تقدّم الموكب الصغير باتجاه الساحة المركزية الواسعة على طول ممرات غير مغطّاة لم يرها ماير قبلا، شعر بقطرات مطر قليلة جميلة ترطّب جبهته ويديه. ثم أصبحت القطرات أكثر غزارة وتحوّلت إلى مطر منعش جميل، الأمر الذي أفرحه بشكل غامر. نظر إلى يديه الموثقتين، وكما كان دائما، حرّكت سكينته القطرات القليلة. عندما وصلوا الساحة الرئيسية الواسعة، كانت الأرض بليلةً وامِضة. توقّف الموكب.

  فكّر ماير بـ ــ إيفا ــ دون أن يعرف سببا لذلك. تزاحُم أفكاره جعله يردّد بشكل عقلاني واعٍ عدّة مرات:

” أفاح نارديني رائحته…” احتشدت الرؤى برقّتها في مخيّلته بينما كان ينتظر. فكّر مبتسما أنه إذا ما بقي هناك مدة أطول تحت المطر يفكر بإيفا، فإن ذلك سيجعل من إقامة الطقوس شيئا مقبولا وأيضا سيعيق عمل القسيس إلى حدٍّ ما. لكن كل شيء سار كما هو مخطط له.

وقبل ثوان من دوران البرغي الرئيسي للطوق الحديدي بسرعة عظيمة وضغط مخيف، ليبعثر فقرة عنقه الثانية وحبله الشوكي، بحركة متزامنة لقطعة معدنية أسندت قصبته الهوائية، شعر ماير أكثر من أية مرة سابقة، أنه هو المخلوق الصغير غير الآمن، قد تحرّر من أي خطر آت من رحم الظلم الهائل والمجدب، وأنه محميّ تماما وللأبد، وقال لنفسه ـــ للأبد ــ من كل ظلم ممكن آتٍ.

                                                                       كالفرت كاسي/ كاتب كوبي

                             **********************

       توضيح :

   تسعة وتسعون عاما على ولادة الكاتب الكوبي ” كالفرت كاسي” في بلتيمورـ الولايات المتحدة، لأبوين كوبيين قبيل العودة إلى كوبا التي درس فيها، وغادرها وهو في الثالثة والعشرين من العمر ليمضي أحد عشر عاما يكتب بالإنكليزية وينشر بعض أعماله  قبل عودته إليها، ليعمل محررا لمجلة ” منذ الثورة” قبل قراره التفرّغ للكتابة. وهذه القصة من مجموعة نشرت للكاتب العام1963

  وأربعون عاما على إنهائي ترجمة هذه المجموعة، والتي أدين بفضل  إقدامي عليها  لتشجيع كلّ من زوجي الراحل الأديب ” عدي مدانات” وأخيه السينمائي ” عدنان”، بعد قراءتي للمجموعة التي استهوتني قصصها المؤرِّخة لفترة عصيبة  من بدايات الثورة الكوبية أيام حكم باتيستا ، قبيل انتصارها. وخلوّ هذه القصص في معظمها من شعارات مرفوعة، بل جنوح أكبر لتسجيل أنماط الحياة وسلوكيات الناس العاديين البسطاء، وغوص أشد في تتبع مكنونات النفس البشرية والتركيز على إنسانيتها، كما إن هذا الجنس الأدبي الهام والمميّز من تلك البقعة الكونية، لم يكن قد وصل أوساط ثقافاتنا العربية.

   خمسة وثلاثون عاما  صدرت طبعتها الأولى، لكنها بقيت تحمل ذات التعريف “مختارات من القصة الكوبية ( الحديثة)” في طبعاتها اللاحقة حتى بعد تغيّر اسمها إلى ” رتابة مميتة” ــ إحدى قصص المجموعةــ بتغيّر اسم دار النشر. و مما لا شك  فيه أن هذا إجحاف بحقّ   هذا الجنس الأدبي ، فقد كانت  حديثة نسبيا لدى صدورها،  ومن المؤكد أن  الكتّاب والأدباء الكوبيين سجّلوا  لحقبات زمنية تلت، للأسف لم نسعَ وراءها.

 توقفت عند إعادة نقل الفصل الأول من هذه القصة عن نسختها الأولى إلى الجهاز، فقد كانت الأدوات والطرائق المتبعة  تلك الأيام، مغايرة تماما لعالم رقمي يسير بسرعة كبيرة هذه الأيام، وكدت أكتفي به، إذ إنه قصة مكتملة كما جميع  فصولها، التي تقع في عشرين صفحة.. لكنني لست كاتبتها، أو من عنونتها بـ ” الإعدام” أو من استهلتها باقتباس من “المحاكمة” لفرانز كافكا،  لذلك سمحت لنفسي نقل الفصلين الأولين المتتالين المتعلقين بالاعتقال وبالمحاكمة الصورية  وحكمها المعدّ مسبقا، والفصل السادس ـ الأخير ـ المتعلق ب “الإعدام” فأحفظ للكاتب حقه في مسايرتي لعالم  سريع الإيقاع ، قبل تسجيل اعتذاري..,

 مع كامل الاحترام والتقدير.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *