-
بعد إلغاء عروض فيلم «سيّدة الجنة» في بريطانيا: هل يعش المهاجرون المسلمون أزمة حرية التعبير؟
-
مولود بن زادي
من القضايا التي أثارت اهتمام وسائل الإعلام البريطانية مؤخرا قرار شركة «سيني ورلد» العملاقة، إلغاء جميع عروض فيلم «سيدة الجنة» عن ابنة النبي محمد (ص) في كامل أرجاء المملكة المتحدة، بعدما قام ناشطون مسلمون باعتصامات أمام فروعها. وإن كان هذا الإجراء الأول من نوعه في سجل هذه المؤسسة منذ تأسيسها عام 1995، إلا أنه لا يعدّ حدثا جديدا معزولا. إنه حلقة جديدة في مسلسل جدلية المقدس وحرية الرأي والتعبير الطويل المتواصل منذ الأزل في أنحاء العالم، تدور أحداثه هذه المرة في أحد أبرز مراكز الحضارة والديمقراطية والحرية والتسامح في العالم: بريطانيا المعروفة منذ العهد الأنكلوساكسوني بتعدد أعراقها، وتنوع ثقافاتها، وتعايش مواطنيها. فما تأثيرات قرار الإلغاء؟ وهل الفيلم جزء من حملة معادية للإسلام؟ وما أفضل السبل للتعامل مع مثل هذه الأحداث المتزايدة؟
ضغوطات متعددة الأشكال
قرار الإلغاء لم يكن مصادفة، إذ جاء بعد موجة من الاحتجاجات والمظاهرات خارج بنايات الشركة في برمنغهام وبولتون وبرادفورد وشيفيلد، وهي مدن إنكليزية متنوعة عرقيا، تشمل أعدادا معتبرة من المسلمين. وهو ما أكدته الشركة، إذ أوضح مسؤولوها في بيان: «نظرًا للحوادث الأخيرة المتعلقة بعروض فيلم «سيدة الجنة» فقد اتخذنا قرارا بإلغاء العروض المقبلة للفيلم في كل أنحاء البلاد ضمانا لسلامة موظفينا وعملائنا». إضافة إلى الاعتصام خارج قاعات العرض، استخدم الناشطون المسلمون الوسائل التكنولوجية لجمع الدعم. فقد أطلق هؤلاء عريضة إلكترونية حصلت على توقيع أكثر من 120 ألف شخص مطالبين بسحب الفيلم من دور السينما في المملكة المتحدة. جدير بالذكر أنّ للعرائض أهمية كبيرة في بريطانيا تصل إلى حد إثارة اهتمام الرأي العام وفتح مناقشات في البرلمان البريطاني. إذ أنّ لجنة العرائض في البرلمان البريطاني تتفقد بانتظام جميع العرائض المنشورة على موقعي الحكومة والبرلمان، وتتمتع بسلطة تخوّلها حق الضغط على الحكومة والبرلمان وحملهما على النظر في القضايا المطروحة واتخاذ الإجراءات المناسبة. عند حصول العريضة المنشورة على نسبة 10 آلاف توقيع، تتلقى ردا من الحكومة البريطانية، وبمجرد حصولها على نسبة 100 ألف توقيع، كحد أدنى، تُعرض للمناقشة أمام أعضاء البرلمان.
تُحرّكها تنظيمات متشددة
من الطرق غير الحضارية الخطيرة التي يلجأ إليه الناشطون المتشددون في سبيل فرض آرائهم وتحقيق أغراضهم، لاسيما في بلداننا الإسلامية، أسلوب التهديد، وهو ما تجسَّد في الضغوطات الأخيرة المؤدية إلى إيقاف الفيلم البريطاني. فقد ذكرت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية أن المنتج التنفيذي مالك شليبك تلقى تهديدات بالقتل. وفي أحداث مماثلة شهدتها باكستان في عام 2020 بعد تصوير فيلم «سيرك الحياة» الحائز جائزة، أكد المخرج الباكستاني سرمد خوسات أنه وعائلته وفريقه تعرضوا للمضايقة والتهديد. وقد تم تعليق إطلاق فيلم «سيرك الحياة» بعد أن اتهمه متشددون إسلاميون بـالتجديف الديني. اللافت للانتباه وقوف تنظيمات متشددة وشخصيات متطرفة وراء الفتاوي التي عادة ما تلهب مشاعر المواطنين وتفجّر احتجاجات وتفضي إلى الاضطرابات والفوضى، مهددة أمن واستقرار المجتمع برمته. ففي باكستان، أعلن حزب «تحريك لبيك باكستان» (TLP) أنّ محتوى فيلم «سيرك الحياة» «تجديفي» داعيا إلى مسيرات حاشدة في كل أنحاء البلاد احتجاجا على الإصدار المرتقب لهذا الفيلم، ما أدى إلى إيقافه.
انتشار خطاب المظلومية
اللافت للانتباه في عالمنا الإسلامي، الاعتقاد أنّ كل ما ينشر عن الإسلام في البلاد الغربية يندرج ضمن خطط مدروسة وحملات إعلامية مغرضة مقصودة موجهة لضرب الإسلام. وهذه في حد ذاتها حملات مضللة خطيرة، قائمة على حساسية مفرطة وشعور بالمظلومية لا مبرر له. من آثار هذه الردود المبالغ فيها إلهاب مشاعر الجماهير وزعزعة الثقة بين المجتمعات والأمم، وتعميق الهوة بين الشرق والغرب. فما قد يخفى عن الجماهير المتحمسة في عالمنا الإسلامي هو أن الأفلام المنتجة ـ مثلها مثل المؤلفات الأدبية – محاولات فردية لا تعبّر إلا عن رأي منتجيها، والذين بطبيعة الحال قد تختلف نظراتهم وتصوراتهم لديننا وثقافتنا. ولعل خير دليل على أن السينما لا تستهدف ديانتنا بالذات أنّ ما صدر من أفلام مُتَّهمة بالإساءة إلى المسيحية أضعاف مضاعفة ما اعتُبِر مسيئا للإسلام! والأمر بذلك لا يقتصر على ديانة دون أخرى، مثلما يتصور كثيرون في الشرق. فمن أشهر الأفلام المثيرة للجدل في العالم الغربي «الشياطين» (1971) الذي تضمن مشاهد جنسية صريحة وعنف شديد، فضلا عن «إساءة» إلى الكنيسة باتهامها بالفساد والعنف. واليوم، بعد مرور خمسين سنة على صدوره، يبقى هذا الفيلم التاريخي الملحمي محظورا في أكثر من بلد!
اللافت للانتباه في مثل هذه الأحداث تدخُّل تنظيمات متشددة بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحكُّمها في الجماهير وتأثيرها في قرارات الإيقاف، وهو ما تجسده تجربة فيلم «سيرك الحياة» التي لعب فيها حزب (تي أل بي) المتشدد دورا حاسما.
ومن الأفلام المثيرة للجدل قصة مونتي بايثون بعنوان «حياة بريان» عن مواطن في العهد الروماني يعتقد المجتمع خطأ أنه المسيح ابن مريم. أثار الفيلم زوبعة من الانتقادات وموجة احتجاجات عند إطلاقه في المملكة المتحدة عام 1979. الاحتجاجات تعدت حدود بريطانيا حيث منعت عدة دول عرض هذا الفيلم كإيرلندا والنرويج. واليوم، بعد مرور أربعة عقود على إطلاقه، يعد الفيلم الأكثر تجديفا في التاريخ! ولولا تطوع مغني فرقة البيتلز جورج هاريسون لتمويل الإنتاج لما خرج هذا الفيلم إلى الوجود بعد انسحاب الشركة المنتجة (أيمي فيلمز) في آخر لحظة، وهو ما يؤكد بلا ريب عفوية الإنتاج السينمائي وعدم تحكم أي جهة كانت في مثل هذه الأفلام. إنتاج آخر أثار احتجاجات واسعة «الكاهن» (1994) وهو فيلم درامي بريطاني من إخراج أنطونيا بيرد، عن رجل دين كاثوليكي يدعى (لينوس روش) يصارع لقمع مثليته الجنسية. تلقى الفيلم انتقادات لاذعة من الكنيسة الكاثوليكية التي اتهمته بالتهجم على آرائها عن المثلية الجنسية، وقائمة الأفلام الغربية المتهمة بالإساءة إلى المسيحية طويلة.
تحصين الدين
لطالما تم إسكات منتقدي الدين بوسائل وصيغ مختلفة، كهذه الاعتصامات والاحتجاجات أمام قاعات السينما في بريطانيا. وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن كيفية حماية الأطفال من الشعوذة والأفكار المتخلفة والجهالة المدمرة للفرد والمجتمع، إذا ما تمّ تحصين الدين من النقد؟ في مقال بعنوان (الإيمان والغباء: عندما تصبح المعتقدات الدينية خطيرة) يقول عالم الفيزياء والمعلق العلمي مدير مبادرة الأصول في جامعة ولاية أريزونا الأمريكية، «إن الحفاظ على الدين محصنا من النقد، أمر غير مبرر وخطير. فإن لم نكن على استعداد لفضح اللاعقلانية الدينية كلما ظهرت، نكون بصدد تشجيع السياسة العامة غير العقلانية وتشجيع أطفالنا على تعلم الجهل». الأمر أخطر عندما نأخذ في الحسبان ما يوجد من انقسام واختلاف ليس بين الأديان حسب، بل داخل الدين الواحد. من النتائج المحتملة لغياب النقد انتشار اللاعقلانية الدينية وبلوغها أعلى المستويات في الدولة. شبكة الأخبار الأمريكية (سي أن أن) تقرع ناقوس الخطر، إذ جاء في أحد منشوراتها: «تعرضت الوزيرة المسيحية الإنجيلية غلوريا كوبلاند، التي جلست في المجلس الاستشاري الإنجيلي لحملة ترامب، لانتقادات بسبب التعليقات الأخيرة حول تجنب التطعيم ضد الإنفلونزا. زعمت أن يسوع نفسه كان يحمي من الأنفلونزا واقترحت على الناس تجنب الفيروس بتكرار عبارة ‘لن أصاب بالأنفلونزا أبدا»! وتأخذ اللاعقلانية الدينية أحيانا أبعادا خطيرة إلى حد الاعتراض على التطور العلمي، ورفض العلاج الصحي والسعي لنشر هذه الأفكار الخطيرة بين أفراد المجتمع. شبكة «سي أن أن» تشير أيضا إلى رفض شهود يهوه قَبول عمليات نقل الدم التي يمكن أن تنقذ الأرواح، واعتراض أتباع الأميش عمليات زرع القلب وحتى جراحة القلب لأنهم ينظرون إلى القلب على أنه «روح الجسد».
دعوة الأديان إلى النقاش
إلغاء عروض فيلم «سيدة الجنة» يعيد إلى الواجهة جدلية حرية الرأي والتعبير وهو ما نلمسه في ردود الأفعال التي تلت القرار. فقد تعالت أصوات تُندد بمثل هذه التصرفات التي تنظر إليها الأمم الغربية على أنها محاولاتٌ لفرض الرأي الواحد وتدخُّلٌ في حريات الآخرين على أراضيها. قال منتج الفيلم مالك شليبك، «لا ينبغي لأحد أن يملي على الجمهور البريطاني ما يستطيع وما لا يستطيع مشاهدته أو مناقشته» واصفا القرار بالإجراء «غير المقبول» والمتظاهرين بـ «الجماعات الهامشية».
اللافت للانتباه في مثل هذه الأحداث تدخُّل تنظيمات متشددة بشكل مباشر أو غير مباشر، وتحكُّمها في الجماهير وتأثيرها في قرارات الإيقاف، وهو ما تجسده تجربة فيلم «سيرك الحياة» التي لعب فيها حزب (تي أل بي) المتشدد دورا حاسما.
واليوم مع تردد الاحتجاجات والضغوطات والتهديدات، كلما سعى أحد لتصوير أحد ديانات العالم تصويرا مختلفا مخالفا لما هو مألوف، نتساءل عما إذا كانت الحلول تكمن في الرضوخ لإرادة المحتجّين وحذف أعمال فنية من الوجود؟ أو ربما رفض الاستسلام ورفع التحدي، وهو ما يجسّده موقف بطل فرقة البيتلز جورج هاريسون الذي استمات في الدفاع عن فيلم (حياة براين) وهو القائل «افتح شركة إنتاج أفلام باسمك، وانتج أفلاما تعجبك، ولا تهتم إن كانت مثيرة للجدل». نجم البيتلز ذهب أبعد من ذلك ليدعو المسيحية إلى قبول النقاش في تصريح لصحيفة «الافنينغ ستاندرد» أثار جدلا كبيرا حيث قال، «إذا كانت المسيحية جيدة كما يقولون، يجب عليها أن تتقبل قليلا من النقاش». ومن هذا المنطلق، ندعو إلى تعميم «نظرية جورج هاريسون» لتشمل كل الأديان لحماية المجتمعات من اللاعقلانية الدينية وبناء عالم متحضر آمن متّحد لنا جميعا.
كاتب جزائري
- عن القدس العربي