(ثقافات)
“الأيك في المباهج والأحزان” لغز التشابك بين السيرة والتأمل والاعتراف
*منال رضوان
– الأيك في المباهج والأحزان، العنوان الذي اختاره الروائي عزت القمحاوي لنصوصه الأدبية المحملة بنقاط لافتة تستدعي الوقوف عندها لاستجلاء العديد من رؤى لا يمكننا بحال اعتبارها مغلفة بطابع الكتابة التقليدية داخل الأطر أو وفق القوالب المحددة سلفًا، مما يستوجب – أولًا – السعي الدؤوب نحو تفكيك الملغز المتشابك فيما بين أدب السيرة الذاتية (التراجم) وأدب التأملات وبين أدب الاعتراف؛ وذلك حتى يتسنى لنا تقديم قراءة موضوعية – قدر المستطاع- حول هذا العمل المختلف.
– حول تصنيف النص: –
بداية قد يثور التساؤل حول تصنيف ذلك الجنس الأدبي؛ خاصة بعد مقدمة حملت عنوان “مصافحة جديدة” تحدث الكاتب فيها عن مخاض الفكرة وميلاد النصوص الأولى والتي صدرت تزامنًا وبداية الألفية الحالية، واتخاذه القرار باستكمال التجربة، وإعادة إصدارها في هيئة جديدة بعد أن تضاعفت صفحاتها كنتاج طبيعي أفرزته السنوات ، كذا تحدث عن الطريق الممتد والذي يصل بين نصوص متنوعة ويسلك طرائق متداخلة لأجناس أدبية عدة، تلك التي يمكننا أن نعرج عليها بنزر يسير من حديث قبل الولوج إلى متن العمل واستعراض الأسلوب وأخيرًا بعض الملاحظات على تقنية الكتابة المتبعة في الجزأين.
– الأيك، هل يمكن اعتباره أدبًا يمثل السيرة الذاتية أو هو تأملات كنتاج لمعاينة خبرات حياتية وتسجيل تراكمي لأحداث ومشاهدات استغرق التقاطها واختزانها عشرات الأعوام؟
أم هو من قبيل أدب الاعتراف؟
إن محاولة البحث عن تصنيف هذا اللون من الأجناس الأدبية لا يعد رفاهية غير ملزمة يمكننا التغافل عنها، كما لا يعد من قبيل الاستعراض الثقافي، على العكس فالبحث تحديدًا في هذا النص وماهيته يعد من أهم معطيات الارتكاز على أرض صلبة تدعو إلى التأمل والتفكير ومن ثم التفاعل والتشابك معه مناقشة وعرضا وتحليلا، ورغم أن العلاقة بين الاعتراف والسيرة الذاتية غير منفكة، لكن ظلالًا دلالية قد وقرت في الوجدان جعلت من التراجم الذاتية ذلك اللون الأدبي المتصل بالإشادة وسرد النجاح والإنجاز، هي ذاتها الظلال التي رَسّخَتْ في الأذهان الارتباط اللصيق بين مفهومي الاعتراف والإقرار بالذنب وقص الخفايا والخبايا والأسرار على مسامع المتلقي، بينما في أدب التأملات يضع الكاتب ذاته مقام المفكر والروحاني والكاشف والمشير، كما أن العلم بمدى هذا التباين بين الأجناس الثلاثة لا تكمن أهميته فقط في الفرز والتصنيف، قدر ما يُبرز التأثير الحادث على مستوى المتلقي؛ فالقارىء الذي يبحث عن متعة المعرفة في بدايات شخصية السيرة منذ نعومة أظفارها، هو ذاته الذي قد يقف في مربع الصدمة نتيجة الاعتراف الصريح من الكاتب وكشف الكثير من سواتر النفس ودواخلها، وأخيرًا هو المدون حامل الصفحة البيضاء التي تسمح بوضع الأسئلة والأطروحات وعلامات التصويب من قبل كاتب النص.!
وهذا اللون الأخير – التأملات – هو ما اتخذناه كمنطلق للبحث حول التصنيف، فالكاتب لم يتعمد الاعتراف ببعض أسرار المراحل العمرية المختلفة، إلا لضمان إيصال رؤيته للقارىء، كما أن انتفاء شرط حضور الشخصية المحورية -المؤلف – الذي تدور في فلكه الأحداث والمواقف لا يضعنا أبدًا أمام أدب السيرة الذاتية؛ فالمقاطع التي تحدث القمحاوي فيها عن ذكرياته تجده قد أورد معها مبرراته التي دفعته لذلك وهي إما لتسجيل ملاحظاته أو التمهيد لسرد تأملاته،
وبناءً عليه فإن النصوص التأملية هي الفكرة الغالبة التي يتمحور العمل حولها.
– حول العمل: –
عقب الاستقرار على التصور الأقرب للنص الذي اشتمل على ثلاثة وعشرين فصلًا، بدأت بعنوان “وقع الأصابع” وانتهت ب “عودة إلى المهد” وهو فصل ما قبل النهاية، وهذا في حد ذاته يحمل بين طياته مفارقة شديدة العمق في دلالتها على دورة الحياة التي بدأت بمص الأطفال لأصابعهم وانتهت بالعودة إلى المهد والتحدث في الفصل الأول والفصل الأخير عن الطفولة في “نوستالجيا” جادة لسارد من المعروف عنه الولع الشديد بالتفاصيل وتفضيله الكتابة الواقعية، وتلك مفارقة أيضًا لعلها الأهم والأشد أثرًا لأن الكتابة عن الذكريات بدت حقيقية غير متكلفة، وبرغم أن العناوين اللافتة والخاطفة ليست من الأمور المستغربة على صحفي مخضرم عايش السبق ولامس حرارة الخبر في أتون النار، لكن ذكاء العناوين الجاذبة يكمن في الإشارة إلى دلالة الاطروحات محل التأمل والتي تماست مع العنوان الخاطف ووصلت به إلى أقصى غايات التحقق، ونجحت في تهيئة القارىء للفكرة بعنوان من كلمتين في أغلب فصول الكتاب، فعلى سبيل المثال “عمارة الريبة” ألا يعد ذلك العنوان توطئة دالة تهيىء القارىء نحو الإبحار في تاريخ العمارة وتأمل حالات من التحضر المعماري أو سوء التخطيط العمراني.؟!
وانتهج القمحاوي النهج ذاته في عناوينه الموحية الدالة على المضمون.
وفيما يلي سنتكلم عن فصلين بشىء من تحليل:
١- وقع الأصابع: دلالة حوار الجسد.
بدأ الفصل باستعراض عادة مص الأصابع عند الأطفال واعتقاد الأمهات بوجود الشهد الرباني المنساب بديلا عن حليب الصدر، وانتقل الكاتب في وثبات من جمل سريعة متلاحقة حيث تطرق إلى استخدام الأصابع في العزف والبناء والتدمير والشعوذة والإطاحة من قبل السلاطين بالرقاب، وهدهدة الأطفال وابتكار تشرشل لعلامة النصر، وقطع أحد أصابع اليد لتجنب التجنيد، والعديد من أمثلة سيمولوجية استخدمت الإيحائية في بعضها والتي شملتها حركات الأصابع من أقصى اللحظات حميمية إلى أقسى التصرفات نفورًا، كما أن ورود انثيالات لتراكيب لفظية تراثية عززت من الفكرة كما يتضح من الفقرة التالية:
(.. بينما يخرج المستدعى ل ” الفرز” والفحص الطبي في منطقة التجنيد بصحبة أخيه أو أبيه. ويبقى الرجال في الانتظار جالسين، بينما تلتف النساء حافيات حول الأم في ملابس الحداد…. وقد خلد العظيم سيد درويش الحالة بلحن أغنية ” يا عزيز عيني” كلمات الشيخ يونس القاضي التي يقول مطلعها:
بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي
ياعزيز عيني وأنا بدي أروح بلدي..)
وأخيرًا إن أقر بعض العلماء بعدم وجود الدليل على أن الخبرة الحسية تعد بمثابة معيار تجريبي يقرر صدق قوانين الطبيعة إلا أن حوار الأصابع هنا قد قدم طرحًا مغايرًا، إذ أنها لم تعد من قبيل الدلائل التجريبية التي لاحظناها في الماضي فقط دون توافر القناعة بتواتر دلالتها بشكل مطرد.
٢- مذاق العفة: الآلة الإعلامية بين تسويق الوهم وجاهزية الأحلام:
– الفصل الخامس بعنوان مذاق العفة، استكمل القمحاوي فيه تأملاته حول تأثير الروائح والأصوات والأطعمة وربطها بطرائق التفكير والأنماط السلوكية للأجساد سلبًا وإيجابًا، فتجده يقول ( …. في تسويق النمط ثمة إلحاح على بيع ” الفكرة” واستبعاد ” الذوق” وهذا لا يمكن أن ينطلي على من يمتلك لسانًا له ذاكرة أو عينًا تقدر حريتها، لكن من يتمتعون بهذه المزايا صاروا أقلية، مع الأسف) وتحدث الكاتب بكثير من توضيح عن مدى تأثير الآلة الإعلامية في التسويق للحلم أو بيع الهواء في زجاجات الوهم، والاتجاه المحموم نحو افتتاح محال للوجبات السريعة والخلط الحادث حول مفاهيم التفرد والتميز بعد أن رسخت أساليب الدعاية لمفهوم القولبة، وساهمت في قتل حالة الشغف نحو الأطباق الموضوعة صورتها سلفا على حوائط المطاعم الأمريكية،
ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي استخدم الكاتب فيها البناء على مفارقات غاية في التفرد ربما يحتاج بعضنا إلى أوقات طويلة في سبيل استنباطها كما يتضح في فكرة التميز فيقول:
(… لكن الدعاية الأمريكية تمكنت من قلب مفهوم التميز، بعد أن كان في الفرادة وامتلاك ما لا يمتلكه الآخرون، أصبح التميز في الالتحاق بالنمط. أنت متميز لأنك ترتدي علامة يرتديها ملايين البشر حول العالم، متميز لأنك تأكل ما تأكله هذه الملايين)
كما أن من الملاحظ أن الكاتب بينما اعتمد في الجزء الأول من كتابه على قدر كبير من المشاهدات وإيراد الأمثلة من مقاطع لأفلام عالمية أو روايات عربية وأجنبية لتوضيح الفكرة والإسهام في تكوين بعض الانطباعات، والتحدث حول أمور حسية بشيء من جرأة لكنها تظل جرأة محسوبة إلى حد ما خاصة وكما قال د. جابر عصفور في أحد مقالاته:
“إن ثقافتنا العربية الغالبة لا تزال تحول بيننا وبين شجاعة الاعتراف والبوح إلى اليوم…” ، بينما في الجزء الثاني من الأيك صارت الاستعانة بالشواهد أقل مع ترك مساحة أكبر للقارىء كي يستنبط ويحلل ويتفاعل، وبينما ظهر دور الصحفي جليًا في جمع أكبر عدد من المصادر في السابق، أصبح دور المحلل والمتأمل الهادىء أشد وضوحًا بعد مرور عقدين من الزمان، وربما يعزي ذلك إلى إدراك الكاتب أن كثرة المصادر التي أوردها في زمن لم يكن مؤشر البحث الإلكتروني متاحا بهذه الكيفية قد أعفاه وجنبه معاناة إيراد الكم الهائل من معلومات بات الحصول عليها أيسر عن ذي قبل وهذا في حد ذاته نقطة تحسب لتطور العمل دون الشعور بثمة تنافر فيما بين الجزأين.
وفي النهاية فكما يقدم هذا الكتاب العديد من التأملات، تجده قد يعري الأيدلوجيات السرابية التي تصر على توجيه الوعي الجمعي عن طريق الإيهام أو التحايل أو التزييف في موضوعية شديدة حاول عزت القمحاوي التمسك بها، وإن أفلتتها في مواضع قليلة قناعاته الفكرية شديدة الوضوح تجاه الكثير من أحوال المجتمعات العربية والغربية.
هوامش:
– أدب الاعتراف (مقاربات تحليلية من منظور سردي) د. إيهاب الجندي دار المعارف ط.أ. ٢٠١٧.
– نظريات معاصرة د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة ط.ث ٢٠٢١.
– الشخصية المحورية في الرواية العربية. د. خالد محمد عبد الغني الهيئة المصرية العامة للكتاب ط.أ. ٢٠١٨
– دائرة الإبداع اللغة والإبداع. شكري محمد عياد، الهيئة العامة للكتاب ٢٠٢٢.
– الاحتمال الفلسفي من التفسير الذاتي إلى الوعي الموضوعي. د. محمد دوير الهيئة المصرية العامة ط.أ. ٢٠٢١.
– شجاعة الاعتراف. مقال د. جابر عصفور استراحة البيان، البيان المغرب ٢٠٠١.
مرتبط