تاريخانية البترا المفقودة في رواية “النبطي المنشود” لصفاء الحطّاب

(ثقافات)

 

تاريخانية البترا المفقودة في رواية “النبطي المنشود” لصفاء الحطّاب

ليث سعيد الرواجفة- ناقد وباحث أردني

تعدّ التاريخانية إحدى أهم فلسفات إعادة النظر والحفر في الظواهر والقضايا التاريخية؛ بهدف رصد مدى قوتها أو ضعفها، صدقها أو كذبها، واقعيتها أو أسطوريتها، وذلك بعد وضع القضية التاريخية في سياقها الثقافي وتفكيك أنساقها الظاهرة والمضمرة. فالتاريخانية ليست مجرد استحضار موضوعي للتاريخ أو استلهام له؛ بل هي مساءلة علمية واعية لا تكتفي بسرد المعلومات التي قدّمها المؤرخ، ولا بما جاء في كتب التاريخ، وإنما تسعى إلى تفنيد هذه المعلومات وإزالة عنها سمة (الحقائق) المُسلّم بها حتى يتم اثباتها، فالتاريخاني يستقرأ ويفكك ما قدمه المؤرخ، ويعيد قراءة التراث بعيون أخرى.

إن غياب العلمية وهيمنة الموضوعية تعدّ إشكالية في السرد التاريخي (كتابة التاريخ)؛ لأن المؤرخون يوجهون خطاباتهم إلى قرّاء يتوقعون منهم السرد فقط، ولكن إثبات صحة سردهم تخضع –غالبًا- لأنماط تفسيرية أيدولوجية يمكن أن تُدرس ضمن الانعكاس النقدي للبحث التاريخي، وبذلك تكون إعادة الفحص النقدي للمنجز التاريخي مهمة التاريخانية الأساسية. وهو ما تمّ توظيفه في رواية (النبطي المنشود) عبر تسليط الضوء على الهوامش الغائبة المتعلقة بمدينة (البترا) عاصمة الأنباط العرب، تلك الهوامش كانت على شكل إنجازات علمية مسلوبة ولم يتم توثيقها ونسبتها إلى أصحابها، وهي مهمة تاريخانية سامية اضطلعت بها شخصيات الرواية الرئيسية (معمّر) و(سونيا).

أولاً- الغرائبية مدخلاً سرديًا للتاريخانية

بدأت الرواية في استهلالها بمشهدٍ غرائبي كان بطله (معمّر) الذي لجأ إلى أحد كهوف البترا الصخرية حين هبّت عاصفة شديدة منعنه من الخروج، يسرد الراوي العليم: “ومع شعوره بالدفء أكثر بدأ النوم يتسلل إليه. وما بين اليقظة والنوم رأى أميرة جميلة ينساب شعرها الأسود الطويل على ظهرها، وتزينه بإكليل من أزرار الزهر الأبيض، ترتدي رداءً نبطيًا رائعًا أبيض اللون، تقترب منه، وتقول له بلطف: معمّر، مرحبًا بك في عالمنا!” (الرواية: ص9). إن انتقال معمّر إلى التاريخ لم يكن عبر بوابة العلم وإنما عبر بوابة الغرائبية التي فتحت آفاقه على حياة المكان الميّت فقد “تجوّل معمّر والأميرة في الكهوف الكثيرة التي كان الأنباط يستخدمونها للبحث العلمي ومراقبة النجوم، بهدف التناغم مع الكون، ومعرفة حساب الوقت ومعرفة المواسم، واستخدام ما يتوصلون إليه من معرفة في تطبيقات علمية في حياتهم، جعلتهم منافسين لأعظم القوى في عصرهم” (الرواية: ص11). إن رؤية الشيء تختلف عن سماعه، أو قراءته، والذي رآه (معمّر) رفقة الأميرة يختلف عن أرشيفه المعرفي الذي سمعه وقرأه؛ فالبترا تاريخها مبتور، وحضارة الأنباط لم تأخذ حقها من البحث والدرس والتمحيص مثلما حدث للحضارات الأخرى وتحديدًا الحضارة الفرعونية، والمشاهد الغرائبية التي عاشها (معمّر) جعل تلك الواقعية السحرية حافزًا له بضرورة البحث وإثبات كل ما شاهده علميًا وواقعيًا بالأدلة والبراهين التي يؤمن بها العقل البشري، ذلك العقل الذي لا يعترف إلا بالتجربة والأدلة المادية الملموسة. فكانت الغرائبية بمثابة البوابة للتاريخانية التي سيضطلع بها (معمّر) رفقة (سونيا) في المتن الحكائي على امتداد حركة السرد الروائي.

ثانيًا- الوصف محفزًا للتاريخانية

إن الرواية بالرغم من صغر حجمها -94 صفحة- إلا أنها مكتنزة بالوصف؛ فهي رواية مكان بامتياز والحديث عن المكان يستدعي الوصف وجميع وظائفه (الوظيفة الجمالية، الوظيفة الإشارية، الوظيفة التعبيرية)، فقد اعتمدت بنية الرواية الفنية على تقنية الوصف، وربما لا نجد صفحة من صفحاتها تخلو من الوصف، والجدير بالذكر أن الوصف في هذه الرواية لم يكن لغايات جمالية (أدبية) أو لغايات إشارية (سردية) أو لغايات تعبيرية (نفسية)، وإنما كان لغايات تاريخانية؛ فالوصف اقتنص المواضع التي من شأنها تسليط الضوء على الهوامش الغائبة في الأنساق المضمرة لمدينة البترا، مثلاً يصف معمّر القطعة الأثرية المسروقة من المتحف: “إناء مزخرف بخطوط طولية وعرضية، وتشبه الوردة إلى حد كبير… أعتقد أن القطعة المسروقة هي بوصلة نبطية، كان التجار قديمًا يحملونها معهم لمعرفة الاتجاهات برًا وبحرًا، وكانوا يملؤونها بالماء، ويضعون فيها إبرة مغناطيسية حرة الحركة ليحدد لهم اتجاه رأس الإبرة في أي اتجاه هم..” (الرواية: ص23). ويصف الجداول بقوله: “انظري إلى هذه الجداول؛ إنها جداول زمنية تسجل حركة النجوم والأجرام السماوية، ويجري بناء عليها تحديد اتجاهات المباني بدقة.. إنها المنقلة الفلكية النبطية” (الرواية: ص58). وهناك وصف الراوي العليم: “تجوّل معمّر وسونيا في ميناء (لوكا كومي) النبطي على سواحل البحر الأحمر (شواطئ مدينة تبوك السعودية حاليًا)، ووجدا العظمة النبطية الملكية تشع من تفاصيل المكان كلها؛ المساكن الفارهة في المستوطنة السكنية التي صممت لتكون مدينة تجارية عالمية، فيها المعاصر الحجرية، والطرق المعبدة، وأبراج المراقبة، ومزارع العنب، وأحواض بناء السفن، ونقاط تخزين البضائع ونقلها وتحميلها وتنزيلها..” (الرواية: ص75). إن وصف القطعة الأثرية والجداول والمدينة المكتشفة وغيرها في الرواية قد ارتبط بتقديم معلومات غائبة وحقائق علمية مهمشة حول مدينة البترا، وكأن الوصف يحفز حضور التاريخانية في المبنى الموضوعاتي للرواية مثلما حضر في المبنى السردي؛ أي أن هذا الوصف يدفع القارئ للتفاعل مع النص الروائي والدخول في مغامرة البحث التاريخاني واستحضار الحقائق الغائبة التي ظهرت على شكل معلومات مرتبطة بالوصف أثناء عملية السرد.

ثالثًا- المفارقة المكانية شكلاً من أشكال التاريخانية

أسلفت القراءة الذكر بأن هذه الرواية هي رواية مكان، وقد امتازت النسقية المكانية فيها بأن حركتها السردية لم تكن وفق نسقية نمطية ثابتة تسير في اتجاه واحد، وإنما جمعت الأضداد عبر المفارقات المكانية التي من شأنها تبيان وضع المكان الآن وما كان عليه سابقًا؛ أي الجمع بين ثنائية (حياة) المكان و(موته). فمدينة البترا كانت تضج بالحياة في سرد الراوي العليم:  “يتجولان في المدينة، لكنها لم تكن مدينة أثرية بل مدينة في أوج ازدهارها، مدينة تنبض بالحياة والتطور؛ الماء يتدفق إلى البيوت الحجرية الفخمة من السدود الكبيرة والكثيرة، والبساتين الخضراء تعج بالفلاحين والمحاصيل، والمزاول الشمسية والمائية تقيس وقتًا ذهبيًا تعيشه المدينة الوردية بجمال ورخاء يطغى على كل شيء، والقوافل التجارية تمرّ في المكان بوتيرة ثابتة ومنظمة” (الرواية: ص10-11)، هذا الوضع شاهده (معمّر) في رحلته الغرائبية، ولكن بعد انتهاء العاصفة والعودة إلى الحياة الواقعية “انطلق معمّر يمشي في المدينة وهو في كامل يقظته، يتأمل معالمها ويراها كما لم يرها من قبل. ويتساءل في نفسه: ما هذا؟ أين اختفت كل تلك العظمة؟ هل يمكن أن يتحوّل كل ذلك الجمال الأخاذ والتطور المبهر إلى أطلال جميلة صامتة، تخفي عظمتها الحقيقية عنا وعن العالم؟ أتراني لو بحثت في تلك الكهوف التي زرتها مع الأميرة النبطية هل سأجد شيئًا ما أو قطعة من تلك الأدوات الرصدية التي كانت هنا من قبل؟” (الرواية: ص15)، ويقول: “كيف تحوّل هذا المكان من منارة سماوية ترتقي بساكنيها نحو النجوم إلى كهوف حجرية تشكل ملاذًا بدائيًا آمنًا لسكان المنطقة والعابرين بها” (الرواية: ص15). إن المفارقة المكانية التي عايشها (معمّر) في رحلته الغرائبية كانت محفزًا للتاريخانية ودفعته إلى الإيمان اليقيني والمطلق بأن البترا لا نعرف عنها شيئًا، ومكتنزة بأسرار غير مكتشفة والتي تستحق تكريس جهود الباحثين حولها، ورأى في نفسه الشرارة التي ستشعل جذوة الدراسات العلمية والأكاديمية، فيقول: “أدركت عظمة المدينة العلمية وحقيقتها كموقع بحثي متخصص، وأدركت واجباتي أيضًا تجاه مجدها الغائب” (الرواية: ص61). وتجدر الإشارة إلى أن المفارقة المكانية كان من شأنها في إطار التاريخانية إدخال المتلقي رفقة معمّر إلى تلك العوالم الخفية وطرح جملة أسئلة ربما يبحث عن إجاباتها في الكتب العلمية أو الزيارة الميدانية للمكان. فالرواية لم تكن مسكونة بهاجس تقديم الإجابات والشروحات العلمية بمقدار إثارة الأسئلة ولفت الأنظار صوب الهوامش الغائبة والعوالم المجهولة في مدينة البترا.

رابعًا- التراث المسلوب واجبًا للتاريخانية

حاولت الرواية جاهدة في أنساقها الظاهرة والمضمرة تقديم خطابات تحث على ضرورة إعادة المجد لأصحابه بعد أن قامت الأمم بمحو الأصل النبطي عن العلوم التي أخذتها، يسرد الراوي العليم: “في هذا الجو الكئيب رأى معمّر فجأة آلاف الجنود الرومان يهجمون على المدينة، ويقتحمون قاعات العلم المهيبة بهمجية باردة! يسرقون وينهبون… يمزّقون ويكسّرون، وأصوات الرعب والهزيمة تتعالى في المدينة..” (الرواية: ص13)، إن الرعب من الهزيمة ليس بسبب الاستحواذ على المكان وتخريبه فقط؛ وإنما بسبب سرقة العلوم ونهبها ونقلها إلى روما، فأكبر هزيمة يمكن أن يتعرّض لها الإنسان حين يفقد ذاته وتراثه وهويته، وحضارة العرب الأنباط هي تراث هوياتي متجذر في الثقافة الشرقية لا تقل قيمة عن الحضارات الفرعونية والبابلية والأشورية وغيرها.

لقد قدمّت رواية (النبطي المنشود) صورًا مختلفة لسلب التراث والهيمنة عليه، منها ما هو ضارب في عمق التاريخ كما في المشهد السابق، ومنها ما هو حداثي معاصر؛ فقد جاءت الحكاية الروائية على سرد حادثة اغلاق المتحف الكبير في مصر أمام الزوار، والسبب: “لقد سُرقت قطعة فخارية أثرية ثمينة جدًا من المتحف، وفي ظروف غامضة” (الرواية: ص19) والقطعة المسروقة هي “قطعة فخارية نبطية نادرة، عُثر عليها في صحراء سيناء” (الرواية: ص22). وتم العثور على القطعة حين قالت سونيا: “الشرطة الدولية قد رصدت الإعلان عن بيع قطعة فخارية في مزاد علني في روما بعد أيام، وتنطبق عليها مواصفات القطعة النبطية المسروقة تمامًا” (الرواية: ص25). فقضية التجارة بالآثار وسرقتها خطيرة جدًا؛ لأن من شأنها تزييف الحقائق التاريخية، وتغييب بوصلة العلماء عن البحث وسبر أغوار الغائب الخفي، ففي كل اكتشاف أثري تظهر صورة إنسان أو مكان أو حضارة بأكملها، وهو ما تعاني منه البترا والتي قد تكون وردية بسبب خجلها منا نحن أبناءها. يقول معمّر: “لقد ضاعت معظم الأصول العلمية النبطية الموثقة منذ القديم، والأسوأ من ذلك أنها ذهبت وتوزعت في المؤلفات العلمية اليونانية القديمة، فأصبحت عملية تحديدها وتأكيد نسبتها إلى أصحابها مهمة شاقة، لكن المطمئن قليلاً أنها ممكنة” (الرواية: 63-64).

        إن مثل هذه المشاهد حاملة لخطابات السلب والمحو التراثي وما ينجم عنه من محو هوياتي تستدعي حضور التاريخانية بهدف الإنصاف واستعادة الذات، وقد توسّع الخطاب في الرواية ليشمل الحضارات الشرقية بأكملها كما في سرد الراوي العليم: “متحف صغير متخصص بالفنون الشرقية، يقع بالقرب من كاتدرائية سانت ماريا ماجوري، وتعرض فيه قطع أثرية من الحضارات الشرقية التي تمتد من اليابان إلى البحر الأبيض المتوسط” (الرواية: ص30). الأجدى بهذه القطع الأثرية أن تكون في موطنها الأصل؛ ولكن تم سلبها ونقلها إلى أماكن أخرى ربما تقدّر قيمتها وتحفظها وتروج لها أفضل منا. فالنبطي المنشود هو التاريخاني الباحث عن الحقيقة دون ملل أو كلل، ذلك الذي لا يرتكن إلى المعلومات التاريخية على أنها مُسلمّات انتهى البحث فيها.

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

تعليق واحد

  1. قراءة عميقة تسحتحق الاحتفاء والتأمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *