*مولود بن زادي
يوافق الثامن عشر من هذا الشهر ميلاد الشاعر الفارسي عمر الخيام الذي رأى نور الحياة في 18 مايو/أيّار 1048 في نيسابور، شمال شرق إيران، في عائلة من صانعي الخيام. وإن ذاع صيته محليا، فقد ظل غير معروف في بقية العالم، ولم يكتسب شهرته العالمية في واقع الأمر إلاَّ في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر بعد ترجمة رباعياته إلى اللغة الإنكليزية. فمن يكون هذا الرجل يا ترى؟ وما سرّ نجاحه العالمي الباهر دون أقلام أخرى لا تعدُّ ولا تحصى عرفها الشرق في سجله الطويل اشتهر كثير منها بغزارة إنتاجه الأدبي، وتألّقه المحلي والإقليمي؟
عالم فلكي مميّز
لم تكن بلاد فارس في القرن الحادي عشر تفتقر إلى فلكيين، لكنَّ ما بلغه عمر الخيام من معرفة ونباغة، جعله يسمو إلى أعلى منزلة خاطفا أنظار العالم من حوله، حتى أنّ السلطان السلجوقي مالك شاه قام بدعوته شخصيا إلى أصفهان وتكليفه بمراجعة التقويم الفارسي وإصلاحه. ولتحقيق هذا المشروع الطموح، تمّ بناء مرصد جديد اجتهد فيه عمر الخيام رفقة فريق مكوّن من ثمانية فلكيين، لوضع تقويم شمسي فارسي يُعرف باسم التقويم الجلالي، نال إعجاب السلطان وموافقته، فصار بعد ذلك التقويم الفارسي الرسمي المعتمد في إيران. وقد تميّز التقويم الجلالي بدقة متناهية جعلته لا يقل شأنا عن التقويم الغريغوري، المعروف أيضا بالتقويم الميلادي والتقويم المسيحي الذي سبقه إلى الوجود بأكثر من 500 سنة. وما زال أثر عالم الفلك عمر الخيام حاضرا إلى يومنا هذا يجسده الاستمرار في استخدام التقويم الجلالي في بعض مناطق العالم كإيران وأفغانستان.
أثَّر في النهضة الأوروبية
إضافة إلى علم الفلك، عُرِف عمر الخيام ببراعته في حقل الرياضيات لاسيما الجبر. فهو من كان وراء أول معالجة كاملة لحل المعادلات التكعيبية، ويعود إليه الفضل في اختراع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جبرية من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط. وساهم أيضا في فكرة الشكل الرباعي ذي الجانبين المتطابقين المتعامدين مع القاعدة، وفضلا عن كل ذلك، استمات في الدفاع عن مبدأ اعتبار النسب «أرقاما مثالية»، مساهما بذلك في تصميم نظام يتعدى حدود الأرقام المستخدمة منذ العصور اليونانية القديمة، أي الأعداد الحقيقية الموجبة.
لم يؤثر عمر الخيام في أبناء جيله وحسب، بل أيضا في الأجيال التالية حيث ساهمت أعماله في إلهام عدد من علماء الرياضيات الإسلاميين. وانتقل أثره بعد ذلك إلى علماء الرياضيات في عصر النهضة في أوروبا أمثال عالم الرياضيات الإنكليزي جون واليس (1616 – 1703م) الذي ناقش فكرته المتمثلة في توسيع مفهوم الرقم ليشمل الأعداد غير العادية مثل الجذر التربيعي للعدد.
الشاعر المجدِّد
لم يسِر عمر الخيام على خطى السابقين في حقل الأدب، لا من حيث البنية ولا حتى المضمون. اختار الرجل سبيل التجديد منظما شعره في قالب مختلف يُدعى «الرباعيات»، أحد الألوان الشعرية الجديدة، فكان مؤسس النوع الرباعي في إيران والأدب الشرقي بلا منازع. تتألف الرباعية من أربعة أشطر، يكون فيها الشطر الأول والثاني والرابع متناسقا مشتركا في قافية واحدة، والشطر الثالث خاضعا لقافية مختلفة. ترك عمر الخيام إرثا زاخرا من الرباعيات، تجاوز عددها الألف. يقول في إحداها:
«أولى بهذا القلبِ أن يخفِقَ
وفي ضِرامِ الحُبِّ أن يُحرَقَ
ما أضيَعَ اليومَ الذي مَرَّ بي
من غيرِ أن أهوى وأن أعشقَ»
اللافت للانتباه في أشعار عمر الخيام – أو بالأحرى رباعياته ـ أنّها لا تعدّ مرآة يعبر من خلالها عما يختلج في صدره من عواطف وانفعالات وأهواء حسب، بل أيضا أقوال مأثورة وعبارات تطفح بأرقى المعاني وأجمل الأمثال والحكم والمواعظ، المثيرة للاهتمام. وهي إلى يومنا هذا حية في الذاكرة، تتناقلها الأجيال، وترددها في حياتها اليومية على منوال:
«عندما نحب، نعشق حتى عيوب المعشوق.. حينما نكره، نكره حتى كمال المكروه».
الفيلسوف الجريء
لم يكن عمر الخيام عالم فلك ورياضيات وشاعرا وحسب، بل أيضا فيلسوفا جريئا لا يتردد في الخوض في مواضيع مثيرة للجدل، متجاوزا كل الخطوط الحمر، وإن كان محاطا بقيود مجتمع محافظ. فالمثير للانتباه في كتاباته من حيث المضمون إقباله على ثيمات مختلفة لم تكن تثر اهتمام معاصريه، برزَ من خلالها فكرُه الفلسفي العقلاني المتحرر. فنحن اليوم عندما نجول في عالم أشعاره، نراه يتساءل عن معنى الإيمان وحياة الدنيا والآخرة، مشككا في منطق الله والجنة والنار، مؤمنا بحرية الفكر والحياة والمحبة، مدافعا عن حق الإنسان في الاستفادة من متاع الدنيا، وكيف لا والحياة لحظات قصيرة لا تعوّض، وهو القائل:
«عِشْ راضيًا واِهجُر دَواعِي الألَمْ، واِعدِل مع الظّالِمِ مَهما ظَلَمْ، نِهَايَةُ الدُّنيا فَناءٌ فَـعِشْ، فِيها طَليقًا واِعتَبِرها عَدَمْ».
بلغت قيمة إسهامات عمر الخيام الأدبية مبلغا جعلها تشدّ انتباه الكاتب والمترجم الإنكليزي إدوارد فيتزجيرالد، الذي اكتشفها بعد دراسته اللغة الفارسية وإبحاره في عالم الأدب الشرقي. انبهر بمضمون الرباعيات، فقام بترجمتها إلى اللغة الإنكليزية باسم «رباعيات عمر الخيام في عام 1859. ترجمة فيتزجيرالد فتحت لعمر الخيام أبواب العالمية على مصراعيها، ورفعته إلى منزلة لم يكن يحلم بها في حياته، لم تتجسّد إلاَّ بعد مرور قرون طويلة على وفاته.
فيتزجيرالد تصرّف في الأصل
يسارع كُتَّاب عصرنا إلى ترجمة مؤلفاتهم إلى أكبر قدر من اللغات الأجنبية في سبيل تحقيق العالمية. وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فالكتب الأكثر شهرة في الشرق عادة ما تصطدم بتجارب مخيبة للأمل، بعد ترجمتها حيث تلتقي بواقع مخالف للتطلعات وتعجز عن لفت اهتمام القراء في الدول الناطقة باللغة الإنكليزية. الأسباب كثيرة – قد نعود إليها في مقال مستقل – لنكتفي هنا بذكر أحدها لارتباطه برباعيات عمر الخيام، التي حققت نجاحا عالميا باهرا. السؤال الذي يطرح نفسه: لمَ نجحت أشعار عمر الخيام بالذات وفشلت مؤلفات شرقية، لا تُعدّ ولا تحصى، صادرة في عصور مختلفة، تُرجمت هي الأخرى إلى اللغة الإنكليزية؟ للرد على هذا السؤال لا بد من أن نذكر أنّ من شروط الترجمة الأمانة العلمية، ما يعني ضرورة مراعاة مضمون النص الأصلي ولغته؛ وذلك بنقل المعلومات وتفسيرها مثلما هي، دون تغيير أو تزييف أو انتحال أو أي تصرف كان، النتيجة؟ نصوص مترجمة مطابقة للأصل من حيث المعنى، وهو من الإيجابيات، لكنها عادة ما تبدو دنيئة المستوى، مملة، بل ركيكة أحيانا، بعد فقدانها جمالياتها في عمليات الترجمة. وقد يستعصي فهمها أو استحسانها في المجتمعات الأنكلوساكسونية بحكم الاختلافات الثقافية الشاسعة بين الشرق والغرب. فالسرّ في نجاح رباعيات الخيام بشكل كبير مقدار تصرف إدوارد فيتزجيرالد في النص عند ترجمته في عام 1859 إذ أنه أعاد صياغته وبناءه بلغته الإنكليزية بحرية، صانعا منه تحفة جديدة متحررا من الصيغة الأصلية. فبرز النص في قالب مختلف يستسيغه الناطقون باللغة الإنكليزية ويتفاعلون معه، حتى إنه يمكننا أن نتحدث بكل ثقة عن قصيدة جديدة مستقلة عن قصيدة عمر الخيام! وهو ما يؤكد أهمية فهم ثقافة المجتمعات المتلقية وصياغة النصوص المترجمة بطريقة توافق تفكير المجتمعات الغربية وذائقتها وتلبي حاجتها، في عالم معروف بغزارة إنتاجه الأدبي، ما يجعله في غنى عن مؤلفات أجنبية لا تروقه، وإن تصفحها بعضهم من باب حب الاستطلاع والتعرف على الثقافة لا غير.
أشهر شاعر في الشرق
كان السبيل إلى الشهرة العالمية طويلا وشاقا بالنسبة لعمر الخيام، استغرق قرونا طويلة ولم يتحقق إلاَّ في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر. جدير بالذكر أنّ النسخة المترجمة لم تلق نجاحا في بداية الأمر إذ لم تُبع منها نسخة واحدة في الأشهر الأولى. لكنها في وقت لاحق حققت نجاحا فاق كل التوقعات متجاوزة حدود إنكلترا والجزر البريطانية، كانت بكل استحقاق أحد الأعمال الأكثر إثارة للإعجاب في الأدب الفيكتوري، وقد أشاد بها العديد من الكتاب اللاحقين وحاول بعضهم تقليدها. وهكذا يعدّ عمر الخيام أعظم أديب ومفكر وفيلسوف أنجبه الشرق، له إسهامات أدبية وفكرية وعلمية رائدة تصب في خدمة البشرية. واليوم، بعد مرور ما يناهز أحد عشر قرنا على رحيله، يرقد في إحدى حدائق نيسابور، شمال شرق إيران الحالية جثمان الشاعر والعالم عمر الخيام، الذي يعدّ بلا منازع أشهر شاعر شرقي في العالم الناطق باللغة الإنكليزية.
٭ كاتب جزائري يقيم في لندن
- عن القدس العربي