التخييل الذاتي من العالم الحسي إلى العالم المثالي
في رواية (بعد الحياة بخطوة) للكاتب يحيى القيسي
قراءة أدبية من منظور نفسي
د. رشا الفوال – مصر
مقدمة:
إلى أين يقودنا الموت؟، وماذا ينتظرنا هناك؟
على افتراض أن(التخييل الذاتي)” ينزاح عن الواقع ويُعيد تشخيصه”(1)، فالطابع التخييلي، وسرد الما بين، يحدث عندما ينفلت من الانسان معنى الحياة بشكل من الأشكال، للدرجة التي تُحتم عليه اعادة خلقه_أى معنى الحياة_ من خلال كتابة(الأنا)، وكتابة الأنا مفهوم يشير إلى ضروب الكتابة السردية التي تتخذ ذات المؤلف مدادًا لها(2).
قراءة النص الروائي: بعد الحياة بخطوة، الصادر عام 2018م، عن دار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، للكاتب الأردني: يحيى القيسي وفق منهج التحليل النفسي أمرًا حتميًا أيضًا، للكشف عن الأزمات الانسانية التي لها عميق الأثر في الخلق الأدبي، فإذا كان” كارل يونج “ يتجه نحو أثر اجتماعية الانسان على نفسه، وما يترتب على ذلك من محاولة تفسير ابداعه تحت مظلة الرواسب المجتمعية، فالرواية محل القراءة هى المفتاح الأوحد لقراءة تاريخية وجود المبدع وملامح ذاتيته، والمبدع عندما يبدأ عمله الخلاق ينتقي أكثر المعاني تأثيرًا على نفسه وكأننا بإزاء مواجهة حقيقة الحدث التي تمثل ذات النص من خلال المحاور التالية:
أولًا: الترجمة الشخصية للذاكرة وتجليات الموت

لم يحدثنا الكاتب على لسان بطل الرواية عن الموت، إنما حدثنا عن تجلياته التي جاءت راصدة لصراع الذات_قبل الدخول في الغيبوبة_ تلك التي وجدت ضالتها في (الموت الرمزي)_أثناء الغيبوبة_ ربما لذلك لاحظنا أن أثر الموت والاتجاه إليه تم دون انفصال عن البدايات، تلك التي بدأها من الذاكرة بإيقاع سريع، في شكل جمل مكتملة دالة على حاله، وحال الجماعة السيكولوجية التي ينتمي إليها فـــ“حصة الرياضة عقاب أسبوعي/ تمنى أن يموت مدير المدرسة/ تمارض حتى لا يذهب إلى المدرسة/ مطرق رمان مع معلم الرياضة/ سؤال: أُرسم خارطة الأردن وبين حدودها “، وصولًا إلى اصابته بالجلطة، بعدها بدأ ايقاع السرد في البطء، لا غرابة في ذلك؛ لأن بطل الرواية دخل في غيبوبة، إلا أن روحه التي انفصلت تدريجيًا جعلته يدرك أن” الزمن في رحلة العروج لا سلطان له على أحد، وأن أول الترقي يكون بالتجلي عن ايقاعه البليد “، مع ملاحظة أن استعادة مفردات الحياة الماضية، والتاريخ الشخصي جعلنا نشعر بالتطابق التام بين المؤلف الأصلي القائم بدور الراوي العليم وبطل الرواية؛ ولأن” الشخصية الانسانية نتاج خبرات الذاكرة بشكل متداخل غير منظم “(3)، جاءت ذاكرة بطل الرواية ذات أبعاد(تاريخية/ حضارية)، دالة على موت الوطن من خلال التعبير عن عثراته، فيقول الراوي العليم عن البطل” أبوه في المعسكر تحت وطأة حالة الطوارىء/ أصوات قذائف وزعيق طائرات/ مات ابن جارهم من انفجار لغم قديم “؛ وكان استخدام الأفعال المضارعة” أول يوم له في المدرسة وهو يحاول الهرب/ شعر رأسه يتساقط من مرض الثعلبة/ أبوه يبكي/ أبوه الأرمل يُلح عليهم بالزواج) دالًا على حال الاحتضار التدريجي المستمر؛ ولأن” كل تجربة حياتية خافية جامعة “(4) كما يسميها” كارل يونج “ جاء الجسد كجانب مرئي لبطل الرواية عبر امتداد ذاكرته، فيقول الكاتب” أدرك حينها أن ذاك هو جسده “، هذا(الجسد الشبحي) اعتمد عليه الكاتب كأسلوب إشاري يعكس قلق البطل فنراه” حاول الاقتراب من أخته الكبرى ليقول لها: إنني بخير لاتقلقي، أنا هنا قربك بكامل عافيتي، فلم كل هذا الحزن؟ “ وحزنه، عندما يحدثنا عن كرامات جده“علي” وكيف أن” أهل القرية يطلقون على عائلته من بعده لقب الفقرا”، ومخاوفه، عندما بدأ يحس بأفكار من حوله وهى تغادر رؤوسهم صورًا وكلمات، إلا أن الموت في الرواية كان سببًا لاشتقاق حياة جديدة، لها مظاهرها التي تجلت في قول الراوي العليم على لسان البطل” الموضوع كله مواصلة الحياة نحو ما هو أجمل / فالموت ليس نهاية ولا فناء، بل مواصلة للحياة في مكان آخر”، ربما لذلك كانت الغلبة للفضول الذي يمثل ايقاع مواجهة الموت حسيًا، كأن البطل يحاول قدر المستطاع أن يصل إلى(التوازن النفسي) ولو على مستوى(التخييل)، فنراه عند الوصول إلى دار الإقامة الهانئة“المستقر” يدرك أن بعد الموت حياة موازية للحياة الأرضية، لسان حال الكتابة هنا يقول:” الموت ليس نهاية الحياة “.
ثانيًا: الصراع، وأزمة(الأنا/ الهُم)
لاشك أن الكاتب لم يقدم للمتلقي أنصاف الحقائق، إنما اعتمد في بنية الأحداث على حتمية تجاوز الموت بالسير في اتجاهه، والمقارنة الضمنية بين الموت الأرضي الدال على احتضار الجسد وتحرر الروح، والموت العلوي الدال على احتضار الروح وحياة الجسد، فيبدأ بعد عودته من الغيبوبة في سرد“كتاب الرؤى والأسرار” هنا نلاحظ أن البطل بدأ حديثة للمتلقي بلسان المتكلم، فبعد أن استعمر الموت المكان وأنتج فيه، وترك رواسبه في نفسه، يذكر تلك الرواسب اعتمادًا على آلية(الاستدعاء) من الذاكرة دون طمس، كأنه يقول علينا الانتباه إلى الحياة، وكأن الارتكاز على الروح يمكننا النظر إليه كمحاوله لمواجهة أجواء الموت، خاصة موت الزمن الذي انعكس في احساسه بالغربة_ تلك التي يكون الزمن من خلالها ثقيلًا على النفس، خاليًا من معاني الحياة، حاملًا للموت_، انعكس أيضًا في سيادة ثيمة الموت وتجلياتها المتشظية، فهناك الموت المعنوي في الأحداث، وأبعادة التي رصدها الكاتب من خلال الأحلام المجهضة فيقول: “متى يعلنون وفاة العرب؟” وكأنه يرغب في موت جماعته السيكولوجية، والأنفاس المجهدة، فيتذكر“بكاء أمه تحت اللحاف لسبب غامض”، برع الكاتب هنا في التعبير عن الموت عبر الحياة ودلالات الفقر “فتليفزيون جارهم أبو هاني لكل الحارة “، و خراب الوطن، وموت الذكريات فــ“أبوه الأرمل يلح عليهم بالزواج من جديد وتربة أمه ماتزال خضراء” ، والأوجاع الدالة على بؤس الانسان فهاهو“يتساقط شعر رأسه من مرض الثعلبة/ ورائحة حنوط جدته المتوفاه/ وأمه التي رحلت قبل خمس سنوات بعد أن أكلها سرطان الكبد وخفت دبيب جسدها خلية فخلية “ تسيطر عليه، معبرًا عن مأساة الإنسان العربي من خلال ذكر بيت الشعر الخالد للشاعر“أمل دنقل”: “لا تصالح ولو منحوك الذهب”، معرجًا على أزمة الكاتب في بلاد العرب الذي” ينتظر عادة سنوات طويلة لكي ينتبه أحد إلى ما أنجز”، وعلى الرغم من أنه أثناء الانتقال من(العالم الحسي) إلى(العالم المثالي)، أدرك أن هناك فرصة لحياة أخرى متجددة، إلا أن ثنائية(الحياة/ الموت) تم رصدها من خلال رغبته في الموت كنهاية لحالة الاحباط بعد العودة من(الموت الرمزي)، والموت كفرار من الهزيمة بفعل الضغوط الحياتية، فبطل الرواية اتبع عدة آليات لمواجهة تلك الضغوط منها: (الكبت) الذي اتضح في منع النزعات النفسية من السير في طريقها الطبيعي، ولذلك تظل متحفزة للظهور، و(التعويض) من خلال محاولة النجاح في علاقته بأعضاء المجموعة التي تهتم بتجربة الاقتراب من الموت عوضًا عن عجزه في اقامة علاقات شخصية ناجحة في محيطه الأسري بعد عودته من الغيبوبة(5)، ثم(الانسحاب) التدريجي وتجنب مصادر القلق وكل مواقف الصراع والاحباط في نهاية الرواية، فالأنا التي تعي مجموع خبراتها الحسية، والادراكات العقلية للأحداث بين أهداف البطل الخاصة والهدف المشترك للجماعة السيكولوجية، تضعنا أمام فكرة الجماعة” التي تتوقف قيمتها على القيمة الروحية للأفراد”(6)، ربما لذلك كان لابد من اللجوء إلى(الخلاص الخيالي)، والارتكاز على الروح ونفي الجسد، فالبطل أولًا كانت لدية الرغبة في الخلاص من عذاب الجسد، ثم تجلت بعد ذلك رغبته في الخلاص من الالتزام برواسب نفسه الخافية الجماعية، وما أدت إليه من احساس بأولى درجات الاحباط عندما أنكر عليه أبوه حكايته عن الحياة بعد الموت، وزوجته التي جاء ردها على مارآه باردًا جدًا، فثمة” انفصام موروث بين الفرد بوصفه ذاتًا خلاقة تريد أن تحقق أهدافها وبين الفرد كموضوع تحت تأثير الآخرين “(7)؛ ولأن البطل أصبح غريبًا عن ذاته بفعل الصورة التي يعكسها الآخر عنه، و” التي لا تكون متطابقة مع صورة ذاته التي يحملها “(8)
