جرائم “الأنتخة” الفكرية
داليا الحديدي
■ ■ ■
سيقولون لك ان الشيطان في التفاصيل، ثم لن تُصادف الحقيقة سوى بين ثنايا التفاصيل، حتى أنني كلما تلاعب بي أهل الغموض واللوع تمنيت البشر بوضوح إبتسامة نادل فلبيني مثلي، تلك الفاضحة لتفاصيل الشذوذ.
فالتفاصيل شبيهة بزركشات العقد الموشاه في السجاد العجمي، تلك التي تنبهك أن حكمك على القيمة معقود بمعرفة حجم التفاصيل المعقدة.
وإني لأندهش من تنقيبي في الدقائق كفلسطينية مخضرمة من “بئر سبع” تنقش تاريخ أجدادها ساعة تطرز على القِماش منمنمات ثوب التوبيت السبعاوي.
ولأن لي في التفاصيل مآرب أخرى، فقد يحدث أن يُقللني سائق أجرة من حي المعادي ويسألني سؤالًا عابرًا لسفح الوقت.
:أتقيمين منذ أمد في المعادي؟
وهاكم ردي
:كان جدي لأمي من سكان مدينة “طلخا” بالدقهلية، لكن ظروف عمله بصناعة الحديد أدت لنزوحه للمنصورة ومنها ارتحل للقاهرة لكنه لم يستقر بحي بعينه في ضواحيها، فقد أقام بشارع رمسيس ثم أنتقل للعيش بشبرا، فالزمالك حيث استقر مع جدتي “صوفي” دهرًأ بشارع الجبلاية بعمارة “جبلايا هاوس” حتى ولدت، ثم شيّد عمارة على كورنيش النيل على بعد خطواط من “معهد ناصر” المتاخم لحي “أغخان” ليكون قريبًا من مصنعه، وهناك نشأت حتى تزوجت فإنتقلت لحي “دجلة” بالمعادي ومنه لزهراء المعادي حيث ابتعت شقة -90متر- لم اسكنها لسفري للجزيرة العربية حيث أمضيت سنوات ببيت -جدًا متواضع- بقلب الدوحة على بعد خطوات من كورنيش الخليج.
لاحقًا نزلت بمدينة الوكرة جنوب قطر للسكن بمجمع “إزدان” -ذكرت له رقم الفيلا – لأعود أخيرًا لشماال الدوحة لأقطن بمجمع سكني بمنطقة “ازغوى” واحطه برقمي الشارع والفيلا.
أما والدي فقد نزح من المنصورة للدراسة بالكلية الجوية ثم اشترى شقة بحي “الدقي” بميدان “فيني” بجانب معهد سرفانتس، ثم..
ثم رمقني السائق في المرآة بنظرات تتوسل أن كفى، فأسررت السرور آملة أن يتعلم ألا يسأل اسئلة شخصية.
وقد علمتني الحياة أن أنجح الطرق لفرض الإدبار هو الإسراف في الإقبال.
فعوضًا عن مصارحة السائقين برغبتي في السكون، بت أغرقهم بمعلومات مفصلة تسقطهم في دوامة التشتت ما يجعلهم يتسولون صمتي.
■ ■ ■
وقف السائق لسيدة مسنة جاورتني وسألتني عن وجهتي فأخبرتها “الجزيرة الوسطى” حيث كنت متجهة لتصفيف شعري بصالون
“Toi Beauty Salon”
أفادت أن الجزيرة قريبة من شارع “بهجت علي” حيث تقطن
قاطعتها:اسمه شارع “علي بهجت”
ردت :بل “بهجت علي” يا آنسة
طربت “لآنسة” لكن ذلك لم يشفع لها أمام إصراري على توضيح الحقيقة المتعلقة بإسم الشارع.
شرعت السيدة في التواقح
:”بتأوحي في ايه، الشارع طول عمره اسمه “بهجت علي”.
ناشدتها فرصة للتوضيح
علا صوتها وبدأت تتمطق وتتلمظ
:اتجادلينني في شارع أمضيت فيه جل عمري، ففيه نشأت، تزوجت، أنجبت وترملت.
هنالك تدخل السائق:أنا ساكتلك من ساعة ركوبك، لكن أنا داهس حواري البلد، فتيجي أنت تفهمينا اسم الشارع.
نظرت فبصرت لأجد أن الحديث سينحدر لهاوية، فاعتملت في رأسي فكرة وقررت التالي
:لديك حق سيدتي، أنت صح، اسمه شارع “بهجت علي”، ربما التبس الأمر عليّ كوني مغتربة.
: “إذن لا تفتين، أنا في سن جدتك وأفهم عنك”
■ ■ ■
أعلم أن إعتياد المرء على الخطأ يدفعه لإلف أغلاطه الموروثة كونها تصبح من مقتنياته، فيرفض النقاش حول صوابيتها، فالجاهل يعاني خشونة في المخ تعوقه عن تقبل الحقائق، ويتحول لكلب موظف لحراسة التُرّاهات حتى وصفه الأرجنتيني”أوسوالدو دراكون” بأنه
:يع يع يع يعوي، لأنه يع يع يعتاد العواء على المألوف من ضلالات حريص على حراستها.
كذلك تذكرت آية” يَٰٓأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِىٓ أَهْدِكَ صِرَٰطًا سَوِيًّا”
ولاحظت أن المولى قد أورد مقولة إبراهيم لأبيه دون تعقيب منه، ما يعني أن الخليل -ربما- كان ليكن أكثر توفيقًا لو لم يصارح والده بتفوقه العلمي عليه وإن حاكاه بأسلوب جم الرهافة.
فللقارئ أن يتخيل أن اقول لوالدي:”إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ”
فمن من الأباء يرضى أن يكون تلميذًا لإبنه؟
ما سبق دفعني لمسايرة السيدة التي تعتقد أنها بسن جدتي.
لكني القيت جوالي خِلسة ورحت ابحث عنه
“مالك مش على بعضك ليه؟” :سألتني السيدة المُسنّة
:ابحث عن جوالي يا مدام، ورجوتها أن ترن عليه ففعلت، وانتشلت الجوال من الدواسة حيث القيته.
شكرتها ووصلت لصالون التجميل حيث اعتنى بشعري “جاك” المصفف اللبناني كما قامت حسناء بطلاء أظافري بطريقة “الفرنش” ثم قفلت عائدة لداري بعد تناولي الغداء في مقهى “توماس”.
■ ■ ■
في المساء سجيت على اريكة الليل وبحوزتي رقمي الهاتف الخاص بسائق الأوبر والسيدة الفاضلة، ورأيت ساعتئذ أن التوقيت ملائم لعرض الحقيقة دون إحراج أي منهما أمام الآخر، رُغم صعوبة التعاطي مع شخصيات مؤدلجة لأنه حقيقتهم تكون مُسبَقة، إذ يأوون لأحضان الإجابات المعدة سلفًا، لإيمانهم بإحتكار الحق كما يكونون أغير ما يكون بمتعلقاتهم الموروثة الذي يتعاملون معها كثوابت اعتباطية، عدا أنهم يدافعون بشراسة عن خمولهم في ممارسة رياضة التفكير حتى لو كلفهم ذلك إجراء عملية الختان الذهني لعقولهم وإن بلغوا ذروة الحماقة حتى وصفهم حسن فرحان المالكي:
“إن الجاهل غيور على جهله ويدافع عنه بشراسة”
..
..
فالعوام لديهم حنين عارم للسبات الذهني المريييح لأنه من دواعي -الأنتخة الفكرية- والبعض منهم اشبه بدمى “أنتيك” مسبقة التصميم، سيما أن المؤسسات المجتمعية سواء السياسية، الدينية، الإقتصادية الرأسمالية، أو حتى الأسرية هي مؤسسات ديكتاتورية أثبتت مهارة في “صناعة التجهيل” وحرص على حصر ما يقال وما لا يقال للعامة، مع عدم السماح سوى بسمعنا واطعنا، عوضًا عن، سمعنا واستفسرنا.
■ ■ ■
الشاهد أرسلت الرسالة التالية
حياكم الله
يتسلح البشر بالغموض لأن معينهم ينضب سريعًا، فيجدون في الغموض سلاح وهمي يوحي للآخرين بأن في جعبتهم المزيد من الثمين التي لا تنضب.
وعلى هذا فلم يدفعني سحر الغموض يومًا لتوقيع مقالاتي بالسيدة “ل”، لذا سأكون واضحة وسأخبرك سيدتي أني أنا التي تشرفت بمقابلتك صباحًا في سيارة الأجرة حين كانت وجهتنا متقاربة رغم تباعد وجهات نظرنا، وقد تحايلت للحصول على رقمك لعلمي أنك عشت دهرًا في شارع “علي بهجت” فشاهدت فصوله وخطوبه حتى بات يعيش فيك كما تعيشين فيه ما جعل محاولتي لإقناعك أن اسم الشارع الحقيقي ليس “بهجت علي” تشبه التلاعب بنسب عائلتك.
أود التوضيح أنه لا يعني لي من قريب أو بعيد أن يكون اسم الشارع “علي بهجت” أو “بهجت علي”، لكن تعنيني “الحقيقة” وسأستاء من نفسي لو ارتضيت لك سيدتي الغرق في الجهل لأنك كنت فظة معي.
..
وعليه أود اخطارك أن الشارع يحمل إسم عالم آثار مصري ذو أصول تركية، وإليه يرجع الفضل في استخراج آثار الفسطاط، وقد ولد “علي بهجت” عام 1858 ورحل في عشرينات القرن المنصرم، فارادت الملكية الإحتفاء به، فاُطلِقت على الشارع اسمه، وفي ذاك العهد كان يتم استقدام الخطاطين من الآستانة، وقد اختار أحدهم “الخط الكوفي” لكتابة اليافطة القديمة لأنها تحمل إسم “عليّ”، كون الكوفة هي معقل احبابنا الشيعة الذين يمجدون الإمام “عليّ”، فوفقًا للخط الكوفي فإن اسم “عليّ” لا يكتب سوى بشكل فوقي يعلو آخر الكلمة، لذلك فقد بدا الإسم -لمن يجهل قراءة الخط الكوفي- على أنه لاحق لإسم “بهجت” فيما اراده الخطاط يعلو فوق إسم “بهجت”.
..
..
لقد بات إيضاح الأمر لكما ضربًا من المستحيلات، لأن التمسك بالموروث منعكما من الإستماع للحق، فرأيت انسحابي بعض الوقت على أن أضع بين أيديكما الحقيقة في وقت آخر ملائم، وبإمكانكما التقصي من محركات البحث، علمًا بأنه لا تعنيني سفاسف الأمور لكن لا مكان للحقيقة سوى في المعالي.
في اليوم التالي، وصلتني رسائل شكر ودودة من السيدة الفاضلة والسائق الكريم.
■ ■ ■
.
احسب أن التنوير ليس مجرد إزاحة البرادي عن خفايا الباطل بل هو حرب على بلاهة المسلمات، وإن كانت تتطلب دك حصون الجهل وتورد المهالك حال توضيح إسم لعالِم آثار، فللقارئ أن يتخيل ما يواجهه الكاتب من تنكيل مفذع يجعله نهب مشاعر مضطربة إن اراد إيضاح أمرًا بخصوص ما يتقولون به على لسان رسولنا (ص).
وبحسب سارتر:سوف يصفونك بأنك عاقل وصالح فقط حين لا تنتقد ما يعتقدون، عندما تكون نسخة منهم، فالناس لا تتصالح مع من يسعون لأن يكونوا أنفسهم، لأن أولئك يهددون سكينة الحقيقة، ولطالما كان الإنتماء هو مكافأة من يتنازل عن حقه في التفكير”.
■ ■
لذا فلو تجرأ مفكر على الإعتراض عن إمكانية أن يقدم الرسول (ص)على الإنتحار بدعوى أن ذلك مذكور في “البخاري” سيقابل بهجوم واتهامات لا حصر لها منها عدم التخصص،العمالة، إنكار المسلمات الدينية، الإعتداء على السنة ومحاولة هدمها بل هدم الإسلام برمته وتشويه تراثه وعلمائه، رغم أن الإعتراض يتعلق بإستحالة إقدام أي رسول على الإنتحار -وإن ورد ذلك في “البخاري” لأن الأديان حرمت الإنتحار،فكيف ينهي رسول عن أمرٍ ويأتيه، عدا أن ذلك يصور الرسول على أنه مضطرب نفسيًا(حاشاه) فكيف لمضطرب أن يهدي البشرية؟!
كما أن الطعن على ما ورد في كتب “البخاري” لا يمس شخصه، بل ينهض بإستحالة نسب نصوص تتعلق بإنتحار الرسول لعالم جليل “كالبخاري” سيما في غياب أي مخطوطة لكتبه بخط يده، فكتبه التي بين أيدينا مطبوعة ما يعني سهولة دس الأحاديث المغرضة على لسانه وطبعها والتعامل معها على أنها مقدسات ولو شوهت سيرة الرسول (ص) ومقاصد الشريعة.
.
■ ■ ■
وبالمثل حين يعترض مفكر على رواية ذكرت في البخاري عن أنس بن مالك
:كان النبي (ص) يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار وهن تسع نسوة.
قال: قلت لأنس:أو كان يطيقه؟
قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين، وفي رواية “قوة أربعين”
ثم يأتي فتح الباري ليزايد على القوة الجنسية لنبينا فيقول
قال الحافظ في الفتح:وفي صفة الجنة لأبي نعيم وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم
«إن الرجل من أهل الجنة ليُعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة»
فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آلاف (فتح الباري).
.
■ ■ ■
التفاصيل توضح أن أنس راوي الحديث كان في صباه خادمًا للرسول، وكانت عينه عليه ترقبه متى خرج وإلي أين ذهب ومتى عاد.
وكان رسولنا يخصص يومًا لكلٍ من نسائه، إلا أن هذا لا يعني امتناعه عن تفقد أحوال سائر زوجاته في ساعة من يومه، ولأن الراوي لم يكن يرى أثرًا لغسل الرسول سوى مرة واحدة، فتفتأ ذهنه أنه كان يدخل عليهن جميعًا للمعاشرة، لا للتفقد.
ومن عادة المحبين المزايدة على قدرات من يحبون بإضفاء أضعافًا من المآثر كدليل -غير مُكلف- عن الحب.
علمًا بأنه بحسب الرواية ذاتها فإن الرسول لم يصدر عنه حرف بخصوص قدراته الجسدية.
فرواية أنس واضحة أن الحديث كان بينه وبين بعض من الصحابة: “قال:كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين”.
.
■ ■ ■
ودي أن يتأكد كل غيور على الإسلام أن من يستنكر حديثًا ملفقًأ عن إنتحار الرسول (ص) أو عن معاشرته لزوجاته التسع في ساعة واحدة، إنما يدرأ عنه شبهة تسيء له.
وعليه فليس المقصود التشكيك في قدرات رسولنا – حاشا- ولكننا نزود عنه لأن إلصاق تلك الأقاويل به تتحول لأحط دعاية مناهضة لديننا ولرسولنا لأن علماء الغرب وعوامهم لن يدخل عليهم مثل تلك الترّاهات.
شيء ما في صدري يود العبور فوق جسر “النص السفاح” للبوح بأننا لسنا أبناء شرعيين لهذا التشويه بإسم الموروث، فتحروا التفاصيل والدقة يرحمكم الله.
ورغم زخم إغراءات الغموض، سيظل توقيعي واضحًأ ومفصلًا
#داليا_الحديدي
كاتبة مصرية
ملحوظة: كلمة “انتخة” مشتقة من Antique أي قديم جدًا او عتيق جدًا معنى أصح الركون للأفكار العتيقة المتوارثة بدون تنقيح او مناقشة
-
عن الهلال