هالة كوثراني: نحن بارعون في طمس ذاكرتنا
الروائية اللبنانية ترى أن الكاتب في «بلدان اللهب» لا يملك ترف الكتابة
بيروت: فاطمة عبد الله
سبع روايات… رصيد الكاتبة والصحافية اللبنانية هالة كوثراني الأدبي، آخرها «يوم الشمس» الصادرة عن «دار نوفل»، التي كرست مسارها السردي واتجاهها في الانسحاب من ضوضاء الخارج إلى سكينة الداخل. كان شارع «الحمراء» البيروتي هادئاً في صباح عطلة نهاية الأسبوع، حين التقيتها للحديث عن الإصدار الأخير والمرور على رحلة الكتابة.
ليست هالة كوثراني بطلات رواياتها، وإن كنّ يتقاطعن معها وتتقاطع معهن. وتقاطعها مع بطلة روايتها الجديدة، «يوم الشمس»، مردّه إلى حقيقة أنّ «انسلاخ المرء عن ذاكرته شقاء». إنها تكتب عن حيوات تلتقي بها في أمكنة معينة، بيروت خاصة، فترتبط معها بحكاية أو علاقة. ويصبح السؤال: ماذا لو وُضع الإنسان – الكاتب في مكان آخر؟ هل ينسى مكانه الأول؟ جوابها أنّ الأمكنة تعيش فينا، رغم المحاولات البائسة لـ«ترويض النوستالجيا وتكذيب الأشعار».
«رؤيا»، بطلة «يوم الشمس» هي «نتف» من شخصيات تختزل جيل الكاتبة، تطرح من خلالها ثنائية الحضور والغياب، والعلاقة بين ما يتجسد في الواقع وما تحتفظ به الذاكرة على شكل استعادة أو تأمّل أو ومضة. تغريها هذه اللعبة فتفرد لها مساحة من عملها الروائي الجديد. تقول: «لن أسمّي الموت خوفاً. هذه مسألة عالقة في أذهان كل ممتهني الكتابة. حين نسأل لماذا نكتب، يكون الموت أحد الأسباب، وإن لم يفكر به الكاتب مباشرة. يشغلني موضوع الغياب ومقاومته المتعلقة بحفظ الذاكرة. الأمر مرتبط ببيروت وانهيارها. نحن بارعون في طمس ذاكرتنا، فأبيّن هذه البراعة في كتاباتي».
حين كانت صاحبة «علي الأميركاني» («دار الساقي» – 2011) التي نالت عنها جائزة «أفضل كتاب في معرض الشارقة الدولي للكتا» عام 2012، في سنّ أصغر، راودها الخوف من الموت بشكل كبير. لكن مع تقدم العمر، يتقبل المرء أنه «امتحان خارج متناول اليد»، نسلّم لقضائه، وإن كان الأصعب برأيها هو «أن نشهد على انطفاء من نحبّهم أمام عيوننا. هنا يصبح الاستيعاب العقلي والطبي والفلسفي ضئيلاً مقارنة بوَقْع الغياب وقسوته».
بينما تمرّ هالة كوثراني على حياة بطلتها «رؤيا»، من مراهقتها إلى أواخر سنّ الأربعين، تحضر خلفية المشهد اللبناني وتملأ دخان الحرب سماء السرد. نسألها: هل يمكن القول إنه لا مفرّ من التقلّب في جحيم الأوطان، بينما نصبح، أنتِ بصفتك كاتبةً ونحن قراءً، شهوداً على نار لا نملك إطفاء لهيبها؟
يعيدها السؤال إلى بداياتها الروائية حين تأكدت أنّ «الكاتب في بلدان اللهب لا يملك ترف الكتابة عن شجرة راسخة تُزيّنها الثمار، ولا عن غابة مفتوحة على الدهشة». هي تدرك أنّ «غاية الكتابة التعرية ونبش الأعماق، وكل ما حول الإنسان هو جزء من مساره الوجودي… إن سافرتُ إلى سويسرا واستوقفتني طبيعتها الرائعة، فسأجدني أكتب عنها من خلال عودتي إلى الحي الذي تربّيتُ فيه. سيكون حاضراً تماماً كحضورها، بالنسبة إليّ فرداً وبالنسبة إلى أهلي ونساء جيلي. أنا لستُ (رؤيا)، لكن أي كاتب هو تجاربه وتراكماته وماضيه وذاكرته. في لبنان، لم يتغيّر شيء. لم نتعلم، كأننا لم ندمر البلد. بهذه التشوهات، أغذّي أدبي».
وتستوقفها أيضاً الأشكال الأخرى للمعركة المحتدمة على أكثر من جبهة: «لا أستطيع التعامل مع الاحتراق بلامبالاة. أكتب لأستردّ بعض البرودة».
تتحدث هالة كوثراني عن موت يحضر على الضفة الثانية من الحياة، وتستعيد الولادة الجديدة لبطلة روايتها «يومان ونصف» («دار الساقي» – 2018) بعد خطفها، لطرح سؤال عن رغبتها في التطهّر وطي صفحات الماضي. لا يعود السؤال كيف تمّ الخطف ومَن هو المُرتكب، ما دام فرصة للعودة إلى الذات والتجرؤ على قول «لا»، ثم التصدي لموتها.
يشغلها الموت إلى حدّ أنه يتجلّى في كثير من نصوصها من تلقائه. تقول عنه: «كان بإمكان (رؤيا) استدعاءه (الموت) بعد تراكم مآسيها، لكنها لم تفعل. تلتحق فكرة الموت بقلقي الوجودي وتشغلني في كتاباتي، ومع ذلك، لا أكتب لأجسّدها. التفكير في الغياب يترك في رأسي هوة، والموت بداية جديدة تتداخل فيها المعتقدات وفلسفة الحياة، وهذا يظهر في الرواية».
وجاء على لسان بطلتها: «كلما حاولتُ الهروب من حياتي، وجدتني في الماضي المقطع الأوصال». تجيب بـ«لا» حاسمة، رداً على سؤال إن كانت تختزلها هذه العبارة… «بل بعيدة جداً عني. ذاكرة البطلة الثقيلة تجعلها تنطق بها، من دون أن يعني ذلك المزيد». وماذا عن سطوة الحرف وتفوّقه على المعنى؟ بطلة «يوم الشمس» تتوصل إلى فك لغز والدتها بجمع الحروف، ولا تكتفي بالمعاني لسرد قصتها. تقول: «بالنسبة إلى (رؤيا)، قد يؤثر الحرف بوصفه شكلاً فنياً في المتلقي أكثر منه جزءاً من معنى. فإن لم يكن له لزوم في الكتابة، فله حتماً شكل فني في اللوحة. من هنا أردتُ إظهار عمق علاقتها بالحرف قبل المعنى».
أخيراً؛ كيف تقيّم هالة كوثراني تجربتها الروائية؟ جوابها بالمختصر المفيد: «راضية عنها؛ فالأهم في الأدب أن نكتب بصدق».