الشغف بين فناء الفعل وقلق وجوده

(ثقافات)

الشغف بين فناء الفعل وقلق وجوده

  • حلا سويدات

عند الحديث عن الشغف يتراءى للمرء الكثير من أثاث مميز للوجدان، فهو كلمة متمايزة استطيقيًا مما يلزم تتابعية للسرد تكون مرضية على نحو لطيف للكينونة، يسعى المشغوف به لدغدغة حواسه عند الاصطدام بما هو مثير، وما هو مختلف، فتكون ردّة الفعل مبالغة فيها، فينفصل حينئذ عن مصدر الشغف، التحامًا بمادته، كأن تنفصل القصيدة عن شاعرها، والفكرة عن قائلها، والكتاب عن كاتبه، وكأن تسبح الأشياء في ميدان الذات، مجرّدة وقاتمة، تستمد ضوءها من شمسك، فتكون خالقًا لوجودها وتحققها فيك، ثمّ تدرك نفسك مرآة، تعكس فرح الأشياء وحزنها، وألمها، حتى عمقها.

ما ألذ أن يخلق المرء قيمة الأشياء في نفسه، لكن ما أصعبَ أن يظل معلقًا فيها، وهائمًا في متواليات المعنى المفتوح في النصّ المفتوح، فلا يستطيع إيقاف التأليف المستمر لهذا المعنى، فيتيه في معنى الحقيقة الذي يُستعار من مجموعة تأويلات ابتكرها آخرون ورموها في أفق الكون المتسع، والذي يضيق بالتناقض، والذي يلتئم صدعُه من تركيبات متعددة لهذا المتناقض، فتكون الذات مجالًا مميزًا لصناعة السرد، أو أجزاء من السرد الحكائيّ، الذي قد يكون فكريًا أو ثقافيًا أو فنيًا، أو مجازيًا مبهمًا لا جسد له يُرجم إذا ما أُدرك، فالذات لا تصنع ما هو كامل؛ لأنها بعد لم تتم مهمة التفكير المنتهي عن المُدرَك الكامل، فجولات وصولات تربك الشغف، الذي يكون حادًا لمّا يمسك شيئًا يثير فيه المعنى، ويكون متشبثًا بما سيرنّ في نفسه، وبما سيفتح لها من مجال لصناعة شيء مختلف ومُرضٍ، كأن تقف على أبيات للشاعر أحمد عبد الغني ثم تسترسل:

كأنَّ بحرًا رأى في نفسهِ غرقًا

حتى تبخرَ..

لاقى في السما غَرَقهْ

أو أنَّ رملاً رأى الصحراء

تنكرهُ فاستوقفَ الريحَ حتى

يشتكي قلقهْ

فهكذا تمّحي ذاتك القلقة، لتصير بحرًا/ صورة من الكون، تحاول أن تنجد جوهرها بالتواجد في الآخر السماء/ الصورة المقابلة، حتى لا ينتفي الغرق كونه مركزًا في كينونتها، فلم يستطع التحول أن يجدي في منع القلق، مما يبرز حتمية أن يظل الموجود عالقًا في جوهر وجوده، كالرمل القلق في هُويته/ الصحراء، الذي ينجر إلى النقيض/ الريح، ليبني صورةَ ذاته، ويشتكي حاجته إلى الفرادة والاختلاف والتحقق النابع من جوهره، هكذا ينبني الكون في صلصال عبد الغني، وهكذا تأخذ الموجودات أدوراها المعرفية، وهكذا يتلقى القارئ بمنتهى الشغف البناء الفريد، ويتعاطى معه، لكنّه حتمًا سيتوقف حين يُدرك أن ثمّة عينٌ سيُتاح له أن يقرأ من خلالها صورتي البحر والرمل، وربّما الكون بأكمله، ستكون عينَ ذاته!

وسيمكن لأحدهم إدراك هذا الأمر، عند الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما أكثر بيت شعر يتردد في ذهنك؟ ما أكثر رواية حاكيتَ فيها توجسك من وجودك؟ ما أكثر لوحة .. ؟ ما أكثر مشهد ..؟ عند الإجابة عن هذه الأسئلة بيسر، سيُتاح لك معرفة الميل الذي يتواءم مع ما تؤمن به، وما ترى الكون عليه، وما تربّيه في داخلك، لكنّك ستنسى أن المشغوف به، كان ملكًا لساردٍ آخر، رأى الكون بطريقة مختلفة، وامتدّت فيه الأشياء بسحر مختلف، وأن المُنتج الذي انفصل عن سياق مبتكره ليدخل في لحظة صناعتك المعنى، سيعود ككرة تتدحرج إلى أصلها، فتصبح الأشياء ذات الوقع الجميل، غريبة ومستعارة ومقلقة، ويظل سؤال الفرادة مُلحًا ويكأنه على الكون أن يُخلق في كل مرة ينظر فيها أحدهم إليه تفكرًا وتأملًا، لتمتلك متعتك الخاصّة في خلق الأشياء، وليتحقق وجودك، ضمن تفاعلاتك الوجدانية الخالصة المتصلة بالمحيط، أو المنفصلة عنه، وهو كما يرى سارتر أن الإنسان ليس سوى مشروعه وأفعاله وأن وجوده سابق لماهيته، فنحن نرى أن التعاطي في إبراز المشاريع الذاتية لا يعني تقدمًا في مشروع واحد كبير، إنما تميزٌ في إتمام مشروعات عديدة لافتة للنظر وكأنها تقال لأول مرة، وتتلاقى مع بعضها بالشغف نفسه لأول مرة!

*كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *