من اسكندرية للعالم..مخالي غلط في الحساب

(ثقافات)

من اسكندرية للعالم …

مَخالي غلط في الحساب!

إبراهيم عبد المجيد

شاعت في الإسكندرية زمان مقولة “معلش خبيبي .. مخالي غلط في الحساب ” سمعتها كثيرا وأنا طفل في خمسينيات القرن الماضي من الكبار. كانت تُقال كثيرا على سبيل الاعتذار، تصاحبها ابتسامة تنهي المشكلة بين الطرفين، أو حين يُقدِم شخص على شراء شيئ ويجد أن ما معه لا يكفي. وحتى في البيوت حين يعود الزوج وتسأله زوجته، كيف لم يشتري كل ما طلبته، فيقول لها ضاحكا ” معلش .. مخالي غلط في الحساب”! عرفت سببها وكان طريفا، لكني فيما بعد، وخاصة في هذا الزمن، ومع تقدمي في العمر، وبعد رحلة طويلة مع القراءة والكتابة والكفاح في الحياة، رأيت لها معني وجوديا لا يفارقني.

سبب المقولة كما سمعته، هو أن مخالي هذا كان تاجرا يونانيا له محل يبيع فيه تجارته. فجأة فكَّر لماذا يتعب نفسه في العمل؟ كم بقي له من العمر؟ ماذا يحدث لو باع كل مايملكه، ويضع ثمنه في البنك يأخذ منه مبلغا يكفيه كل شهر، ويعيش حياته في فراغ ومتعة وراحة. فعل ذلك لكن شاء الله أن يعيش أكثر مما حسب لنفسه من سنين. صار مُسِنًا لا يستطيع العمل من جديد، فراح يدخل البارات والمطاعم والمقاهي يطلب شيئا يشربه أو يأكله، وعند المحاسبة يقول للجارسون “معلش خبيبي .. مافيش فلوس علشان مخالي غلط في الحساب ” صار معروفا للجميع ولا يحاسبه على ما يشربه أو يأكله أحد، لكن المقولة شاعت علي سبيل الضحك. أذكر مرة وأنا طفل، كيف كنا نجلس على ترعة المحمودية أنا وأصحابي من حي كرموز، ومرّ بنا رجل أشاروا إليه وقالوا مخالي مخالي! لا أذكر هل كان هو أم فقيرا أطلق عليه أصحابي ذلك. اتذكر الآن رحلة حياتي مع الكتابة التي انجذت فيها أكثر من عشرين رواية، وست مجموعات قصصة، وأكثر من عشرة كتب بين مقالات ودراسات وترجمة، وكيف لم أترك صحيفة معارضة إلا وكتبت فيها، ولا مجلة أدبية واسعة الانتشار. وكيف كان جيلنا أيام الشباب يقضي حياته بين اجتماعات سياسية ومظاهرات، إلى جانب تدشين كتابة مختلفة وجديدة مع ابناء جيلي، وأنظر حولي فأجد أحلام جيلي في عالم يسوده العدل، قد صارت خلف كل أفق حاولنا الوصول إليه، وكأنما كانت مثل الأفق أوهاما. ولست في حاجة لأذكركم بما يحدث حولنا في العالم كله. حروب بلا معني تلقي بظلالها على بلادنا رغم بعد المسافات. وغير ذلك كثير لن استفيض فيه فلا تكفيه الكتب فمابالك بمقال! ولم تعد بلادنا هي الهم فقط. كل شيئ في تراجع انسانيا وكأنه لم يمر بالإنسان ألالف السنين، كانت كافية لأن يعرف الحق من الباطل. ابتسم وأقول في نفسي “معلش خبيبي . مخالي غلط في الحساب” ارتاح إليها تعبيرا عن أزمة الإنسان الوجودية، فهو رغم قوته غريب في الحياة، التي يدرك متأخرا أن قرار تصحيحها ليس قراره، لكنه قرار الآخر الذي قد يكون في شكل السلطات الحاكمة، وقد يكون في شكل قوي بعيدة مثل القدر، تقفز كثيرا إلى مقدمة المشهد. نحن نتحرك بقناعة أن ما تفعله بيدك هو الذي يحدد مستقبلك. هي قناعة ملهمة وعظيمة لكل شخص، ولا يمكن التراجع عنها إلا بالانتحار، ولكن في النهاية خاصة حين تكون مثقفا حقيقيا وتنظر حولك، تتساءل أين ذهبت الأحلام ؟ لو أسعدك الحظ وكنت سكندري الأصل مثلي، ستجد في مقولة مخالي ترياقا وشفاء. ولو لم تكن سمعت شيئا من ذلك ولا تعرف مخالي ومقولته، ستجد عشرات المقولات علي رأسها مقولة زينون الإيلي أحد فلاسفة ماقبل سقراط، الذي قال أنه لا يوجد حركة في هذا العالم. فالسهم الذي ينطلق ليصل إلى هدفه، قبل الوصول إلى نهاية المسافة لابد أن يقطع نصفها، وقبل الوصول إلى نصف المسافة عليه أن يقطع نصف نصف المسافة، وقبل أن يقطع نصف نصف المسافة عليه أن يقطع نصف نصف نصف المسافة. وهكذا لكل نصف نصفا لا ينتهي فهو لا يتحرك من مكانه. برهان شكلي فالسهم ينطلق أمامك ويصل إلى هدفه، لكنه مقنع ومريح لمن هم مثلي، يرون أن هذا العالم لا يتحرك بالخير إلى الأمام، وكأنه لم يوجد بشر يصارعون من أجل ذلك. وتنظر خلفك معتذرا حتي ولو ضاحكا مرددا ” معلش خبيبي … مخالي غلط في الحساب” وتستمر الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. لمًتخطئ يا استاذ ، فما ذلت معطاء ، ماخلى غلط لانه وقف، لكن عجلة الحياة لم تقف بنا او به. ماخلى تبناه ابناء شارعه، واحنا ابنتنا حلقات واسعة وكبيرة، اكبر مننا ومن فهمنا، واهم ترس فى هذه الحلقات ، هو الامل، والنهايات المحتومة للحركة، فهى تتقدم، قد تكون الحركة يبطيئه او داهمة لنا احيانا لكنها تتحرك، وتتقدم وتتراجع احيانا، ولكنها تعود للحركة ليس كما تريد قلوبنا، ولكن وفقا لعجلة تشمل ليس عالمنا فقط، ولكن الكون كله. الحركة لا تأتى وفق احلامنا ولكنها تقاس بعمر اجيال .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *