*دارين حوماني
إنها شجرة الليف التي “تشحط عن الأجساد الصغيرة كممحاة تريد أن تلغي ما كُتب على الجسد من أثر اللعب والشيطنة.. ولم تزل شجرة الليف في ذاكرتنا تحك ما تبقّى من نسيان في تلك المرحلة”، بهذا الجو الشاعري الحميمي نستدلّ على ذاكرة الشاعر والفنان التشكيلي محمد العامري في سرديّته “شجرة الليف”، وتأتي مقالتنا هذه في مناسبة صدورها بطبعة ثانية (دار خطوط وظلال، 2020)، وربما اختار العامري عنوان سرديته من بين مشهديات عديدة ليدّلنا على الفعل الأكثر حنينًا وحميمية له حيث لا يزال هو نفسه يقيم ويرغب في العودة إلى تلك النقطة من الزمن تحديدًا، “الاستحمام القسري من قبل أمي بصابون نابلسي من فلسطين.. مثل الاعتقال”.. إننا أمام فعل تسريد الذاكرة ليس للعامري فقط، بل لذاكرة أمكنة طفولته بطقوسها وعاداتها وبراءتها قبل أن يتقدّم العالم المتوحش، وبتفاصيل تكاد بكثير منها تكون مشتركة مع طفولة العالم العربي في ذلك الزمن، زمن معركة الكرامة والقتال اليومي مع الكيان الصهيوني، وزمن البيدر والسير لمسافة طويلة بين البيت والمدرسة تحت المطر وفي الحرّ، وزمن تشقق جدران البيوت الطينية والحمار الحزين المتكاسل ولحظات الاشتباك بين هواء طبريا ورائحة الليمون في الغور.
الكتاب هو عمل فني- سردي- شعري، لوحات متعدّدة لها أصوات مسموعة.. يكتب العامري: “في التسعينيات سافرت بين الشعر والرسم، فبحثت عن اللوحة في القصيدة، والقصيدة في اللوحة، فكانت الصور تتداعى بين لغة الكتابة ولغة الصورة.. وكان الألم يتجول بين صورة اللوحة والصورة الشعرية”، وها هو هنا، يقدّم اشتباكًا بين الألوان التشكيلية والكلمات من نوع آخر، سردية نثرية شعرية مشبعة بالصور، وكأننا نشاهد فيلموغرافيا عن ذلك المكان، “الأغوار” الأردنية، و”القليعات” تحديدًا، حيث جلب المياه من النبع مع جدّته يشكّل فرحة لا توصف، وحيث الاصطفاف عراة في النهر، والهواء القادم من فلسطين، “لم أكن هوميروس، لكني ابن الطبيعة الغورية التي أنبتت في كياني اللغة الخضراء، لغة الأرض والأشجار والجبال الشاهقة، تلك اللغة التي حمّلتني وزر الجمال في التعبير ورهافة ينابيعه الرقراقة”..
يقتحمنا العامري بمشهدية تلو مشهدية؛ رعشة الشلال وحرارة الرغبة؛ العرس القروي؛ طقوس الخميس “اليوم الجنسي بامتياز”؛ شاشة التلفاز بالأسود والأبيض؛ طقس الختان “طقس يساوي حفلة إعدام لثوري لا يخاف الموت.. تعالي التغاريد والتحلق حولك وأنت ليس لك حيلة، كان ذلك في الخامسة من عمري ولم تزل حقيبة الجلد حبلى بذاكرة السكاكين وبريق المعدن في قفل الحقيبة”؛ المطر المدرسي ومساعدة الصبايا؛ كلب ستاركو الذي مات مخلفًا للكاتب ذكريات لا تُنسى، كان يشرب معه من حليب وكالة الغوث ولم يكن يريد رشوة لحراسة البيت ولا منصبًا بل أن ينظر إليه بعين الحب كي يفرح ويدور حوله؛ باص “إربد- القدس-نابلس” ومبدّل السرعة الطويل وحيث التقى بالعشق الأول قبل أن ينتقل إلى بيروت وينسى ما كانه في القليعات، “كانت بيروت بالنسبة لي مدينة تصيبني بالدوار لكثرة الحرية فيها، حرية لم نتعود عليها نحن القرويون.. كانت بيروت جزءًا من ممحاة النفس، نسيت فيها معنى الحب، ومكثت في التنقل بين واحدة وأخرى”..
والمشهد الذي كوّن بذرة الذوبان داخل الألوان هو باليتة النهر وأفول شمس الأغوار باتجاه جبال فلسطين تحديدًا على يمين طبريا، وحيث يصبح النهر أكثر دكانة كونه يتشرّب ظل الأشجار إلى جانب انحسار الشمس، “نهر كلما رجعت إليه أستحيل إلى طفل في السادسة، كما لو أنه المكان الذي يغسلني بمائه الطهور، غسول بري يدعوك للتخلص من درن أحزانك”.. ويتساءل العامري: “ما الذي يفكر فيه النهر حين يطأ الغرباء ثوبه الرقراق؟ يتعكّر مزاجه من صور الجنود الغرباء، جنود الكيان الصهيوني، النهر لا يعرف هؤلاء، يعرف سمرة أهل الغور، يعرف غناءهم وتفاصيل طرفائه.. مرض النهر من كثرة الغرباء، صار وحيدًا في مراياه”..
يستعيد صاحب “أحلم بالرصيف” حكاية صديقه “قطايف” الذي كان ماهرًا بشكل لافت في تشكيل عربات الأسلاك وخاصة أشكال التراكتورات الزراعية، وكان يذهب إليه خلسة عن أبيه ليتعلم كيف يصنع “العربات الساحرة” ويربطها بالأسلاك الرفيعة، ليطوّر فيما بعد فكرة عربات الأسلاك عبر علب السردين القادمة من المغرب، “كنا نثقبها ونضع لها عجلات من الأحذية البلاستيكية المهترئة، كانت هذه المتعة لا توصف، نحمل فيها الحجارة ونحاول تقليد تلك الحافلات التي تنقل البرتقال والخضراوات إلى المدينة”، إنها واحدة من يوميات الشقاوة الطفولية التي يعدّدها العامري عن تلك المساحة العارية من الحزن، مساحة تخصنا جميعًا، تخص طفولتنا أيضًا، وكأننا نأخذ استراحة من انكساراتنا ونحن نقرأها ونستعيد معه ذكريات مشتركة عشناها في مكان آخر من العالم العربي، ومنها أيضًا “قطف شموس الأقحوان وأحجية الحب، تحبني أو لا تحبني”. يحوّل العامري وجوه طفولته وأشياءها وألعابها إلى مادة مشهدية، يوميات على شكل لوحات بانورامية مصفّاة من الألم الذي سيأتي به الزمن فيما بعد، فقد تحوّل “قطايف” في الأزمة العراقية إلى سائق شاحنة للبترول على طريق بغداد عمان، فمات بصاروخ أميركي وأحرقت حافلته..
الخلافات والنقاشات السياسية بين سعيد الحلاق الذي يحمل جريدة تحت إبطه وبين معلا في دكان أبو راكز التي كانت حاصل جمع القرية وما جاورها وفلسطين “المؤونة الرئيسية” للحكي والتذكر. ومقهى مسعود الذي كان لأحد القادمين من فلسطين هو أول مقهى في القرية، كأنه “وكالة أنباء”، حكاياته كانت كلها عن مغادرة فلسطين في عام 1948 وعام 1967، “كان رواد المقهى مجرورين بتاريخهم الشخصي في الضفة الأخرى من النهر، جاؤوا محمّلين بذكريات تهبط عليهم في كل لحظة”. وفي حديث العامري عن فلسطين لسنا أمام نبش تاريخي لذاكرتها، ذاكرة فلسطين التي تكاد تصبح مهملة أو مغيّبة، ولكن ثمة شغف لدى العامري بتذكّر كل ما يخص فلسطين بأسلوب الفن التعبيري الشفاف من تلك البقعة المقابلة لها في الأغوار، تذكر هو جزء من ذاكرة جماعية في تمثيل حي للغياب، يصير الحديث عنها كأنه اختطاف للحظات من الماضي لا نريد لأي تفصيل منها أن يختفي أو ينحدر خلف جدار النسيان، “إنه ليل لا يشبه أبدًا سوى ليل الأغوار، الليل الذي شهد في الستينيات خطة الفدائيين إلى فلسطين عندما كانت الثورة الفلسطينية لا تعرف سوى طهارة الأرض وضرورات التحرير البريئة. كان النهر حارسهم، ولم تكن تلك المنطقة الملاصقة لفلسطين سوى موسيقى نسمع منها الأغاني والميجنا..”.
وجبل العامري يختلف عن جبال برنار كلافيل، جبل القليعات الذي احتموا فيه من قذائف إسرائيل، ثمة ما يذكّر الكاتب بلوحة اسماعيل شموط التي كانت تتحرك في الهضاب والجبال، “حمار المدرسة الذي كان مطيعًا كما هي الأنظمة”، والمظاهرة الأولى مع الأونروا في التاسعة من عمره، ثمة جردة شخصية جماعية نتحرك فيها داخل إطار فوتوغرافي واسع من الصور العالقة أسفل القلب، يطلق العامري العنان فيها لذكرياته كأننا أمام رقص تعبيري لجسد يطلق العنان لكل ما في ذاته. وننتبه في وصفه لبيت العائلة لحالة تكاد تكون نادرة في أيامنا هذه حيث التشوه طال كل المعتقدات، يتذكر الكاتب صورة مريم المجدلية على الحائط وسيدنا علي بسيفه وصورة جرجيس وهو يطعن التنين، إنها حالة تشكل تاريخًا آخر لتلك المنطقة، حيث لم يكن من تفرقة بين المذاهب الإسلامية قبل أن يتم نهش العالم العربي بسكاكين الطائفية والمذهبية..
يكتب العامري عن بداياته في الرسم: “كنت أميل إلى الألوان الداكنة التي تكشف عن نهارات الألوان الأخرى بفعل الحذف والكشط، كأنني أزيح ليلًا عن سطح اللوحة باحثًا عن إضاءات مختبئة خلف الدكنة، كنت أقرب إلى عتمات رامبرنت ودرامية غويا”، وربما في سرديّته هذه كان يحاول استكشاف الإضاءات المختبئة في دكنة ذاكرته.. ثمة أرشيف شخصي يستعيره من ذاته، يسحبه لنا، بأسلوب الحكي الشاعري الهادئ دون مكبّر للصوت، كأنه يسحب وجوهًا حقيقية ملتصقة بجلده..
-
عن موقع ضفة ثالثة