قصة قصيرة
بئر المزرعة ..
*أحمد خميس
*****
_ كان نباح الكلاب الشاردة اليوم خفيضاً على غير عادته، وحدها الموسيقى تسود، وتسمو، ترسم طريقاً غير مرئية للراغبين بصعود الغيم نحو السماء.
وترقص خولة، ترقص كعود قصب غضّ أمام الريح، يتمايل خصرها وتهتز أردافها الطرية بانسيابية فتاة ريفية مارست طقوساً كهذه مراتٍ ومرات.
هنا بمحاذاة البادية، ترقص النسوة في الحصاد، والقطاف، وغسل الصوف، يرقصن في المناسبات وغير المناسبات.
فكيف لا ترقص خولة واليوم حنّة عاتكة، عاتكة التي تصغرها بسنوات خمس.
كانت تدرك جيداً أن يوم الحنّة للفرح ويوم الزفاف للبكاء، لكن إدراكها هذا سابق على كل ما جرى، قبيل عواصف الموت التي شمطت جذور الحياة وأعادتها الى التربة الأولى، هناك حيث الرقاد الأخير.
تبكي الأمهات والأخوات الآباء والإخوة أخواتهم لحظة خروجهن من بيوتهن رفقة أزواجهن إلى بيوت وحيوات أخرى.
هذا الانسلاخ الكلي الذي تعانيه الإناث ليس هيناً على الإطلاق، ولوج في عوالم غير تلك التي اعتدنها، تجارب يسعين إليها وفي ذات الوقت يخشينها، ويخفن عواقبها.
بقيت خولة ترقص وتزغرد وعيون الكشّافة ترقبها، عيون الباحثات عن زوجات لأبنائهن، فخولة هي جميلات الجميلات وإن ساقتها رياح القدر نحو موت ما كان بحسبانها.
خولة طويلة كمنارة، يسلب جمالها أبصار الناظرين، نقية البشرة كعين الماء المجاورة للقرية، في وجهها أنوثة العالم كلها وفي صوتها ترانيم صوفية عذبة.
لم تكن تشعر بجوارحها التي كانت تحلق مع الموسيقا، وحده طيف ذاك الرجل كان يلازمها، يلتصق بروحها، يكسو عظامها الباردة الشاحبة، يحملها بين ذراعيه ويصعد بها إلى أرض مليئة بالزهور، يمنعها من قطاف وردة متذرعاً أن الورود بنات الأرض وإننا إذ ما قطفناها سنحرم أمّاً إحدى صغيراتها.
كانت ترقص له وهو الذي غادر باكراً، ابتلعته البئر التي حفرتها يداه.
أحقاً ابتلعته!!
أم إنها حاولت تقيؤه لكنهم أطبقوا على فمها فقتلوا كليهما.
هنا في “المزرعة” بالقرب من مدينة الشركس “خناصر” في هذه البادية المترامية التي تتناثر فيها البيوت الطينية كما تتناثر الحَسنات على جسد عجوز طاعن في السن عشقت خولة صلاح.
كان يأخذ بيدها ويقودها والحصا الناعم يخترق حذاءيهما البلاستيكيين صعوداً نحو عقبيهما، يشير لها بيده إلى بركة ماء صغيرة تئمها النعاج والطيور أحياناً وبالكاد ترويها بعد مطر عزيز لا يزور هذه البقعة من العالم إلا قليلاً.
_هذه “بحيرة القرعون” يا خولة، ويمسح على جبينها الناصع كمرآة تنعكس من خلالها أشعة الشمس الربيعية الدافئة التي تبدو قريبة جداً من رأسيهما.
تضحك هي الأخرى سيما أنها لم تسمع بالقرعون يوماً.
_وهنا “شلالات الجسور الثلاثة” ، وهناك “الروشة” ، “وسيدة النورية”
_ما هذا الكلام يا صلاح وأين هذه الأماكن التي تحدثني عنها؟
تلك هي يا خولة فقط أغمضي عينيك جيداً، واسمعي خرير الساقية القادمة من السماء نحو الأرض اسمعيها بهدوء، اسمعيها يا خولة وهي تخترق الجبال المعلقة بحبال الريح.
_نعم إني أسمعها.
_ انظري إلى الشلال، وانصتي إلى ذاك الهدير القوي.
أسمعه يا صلاح .. اسمعه حقاً
كانت قُبلة صلاح كفيلة بأن تعيد خولة لواقعها، تعيدها الى هذه الصحراء المنسية البعيدة إلا عن مخالب الموت الذي كان يزحف نحوها صامتاً.
ترقص خولة وتنتحب، وتتحسس بطنها الخاوية، بطنها التي ما امتلأت بشيء من صلاح.
تزوجها وغادر إلى لبنان عقب شهر واحد من ليلة دخلتهما، وعدها أنه سيعود لاصطحابها بعد أن يؤمّن لها مسكناً صغيراً وسيريها الروشة التي حدثها عنها وسيسبحان عاريين في بحيرة القرعون، لكن الجند كان لهم رأي آخر.
اقتحمت مدرعاتهم المزرعة، حطمت سلاسل الدبابات آخر الأحلام وأولى الأماني، وصلاح يمارس عشقه بعد أن عاد إلى قريته بعد شهر من الغياب، شهر ولا شيء من خولة بحوزته، عاد إليها متجاوزاً كل الحواجز العسكرية في طريقه.
_شهر بألف شهر يا خولة؛ يهمس في أذنها متنهداً.
_وليلة بليالي العمر كلها يا صلاح قالتها لتهتز أركانها، وترتعد أطرافها وترتعش ارتعاشة الجسد المقدسة.
في الخارج كان العسكر يمتطون الموت ويحملون أسنة الخراب، عقروا الابقار والنعاج، أطلقوا النار على الكلاب والحمير، ورَتَلوا الرجال رتلاً طويلاً.
أخرجوا صلاح وأوقفوه عارياً، إلا من شجاعته، أشفق عليهم رغم كل ما فعلوه.
ساقوهم إلى البئر، نعم ذاتها بئر صلاح التي نبشتها يداه وألقوهم فيها.
ألقوا الرجال كلهم ولم يبقوا إلا على ثلاثة منهم لأن البئر أتخمت ولم تعد قادرة على ابتلاع المزيد فأطلقوا على من تبقى الرصاص.
كانت خولة ترقص لصلاح الذي لم يفارقها ولو لثانية، ترقص له عارية ( ببحيرة القرعون).