التواشي السبع[1]

التواشي السبع[1]

الزبير مهداد

التوشية الأولى

 قال لي صديقي على رصيف المحطة، وهو يجذب نفسا من سيجارته الرخيصة: هل سمعت الأخبار؟ لقد وجدوا في باطن الأرض بقريتنا مخزونا هائلا من البترول.

أشحت بناظري عنه: أتمنى ألا يجدوا شيئا،، تلك الأراضي القاحلة التي لا تنبت سوى الشوك، سينزعونها منا، ويحرمون عنزاتنا من الاقتيات على سدرتها الجافة.

 لكن ستتحسن أحوالنا! رد علي معقبا.  فقال له جابي الحافلة الواقف بجوارنا: بل  سنغرق في مزيد من  الأوحال.

كان الجو باردا، والمحطة كوخ كبير، بسقف من صفيح، يشعر الذي يرفع ناظريه إلى أعلى بمزيد من البرد والزمهرير.

 الإحساس بالبرد يظل يلازمني طيلة السنة، حتى في الصيف، البرد يسكن عظامي، جوانحي، منذ أن كنت صغيرا.

لم أدفأ منذ رحيل أمي.

أذكر ذلك جيدا، وكأنه قد حدث بالأمس فقط، يوم انهمرت من السماء سيول قوية، فجرفت بيوتنا ومواشينا وكثيرا من الناس أيضا، السيل جرف أمي أيضا، لم نعثر عليها، لم نصل عليها، المسكينة، ظلت بلا قبر يأويها، ونزوره كل جمعة، مثلما يفعل سائر الناس بقريتنا.

 بعد رحيل السيل، وجفاف الأرض، قالوا لنا إن “المخزن” سيزورنا، فقمنا بتنظيف القرية، ودفن جثث الحيوانات، وتبرعنا لشراء بعض الزرابي، وجاء “المخزن” في سيارات فارهة، محفوفين بموكب من الدرك على متن دراجات نارية قوية من الجيل الجديد، وكان رجال الحكومة “المخزن” غاية في الأناقة، ببذلات  غالية، وأحذية لامعة، وكروش ضخمة زادتهم فخامة. شكرونا على مجهودنا في تنظيف القرية، ولم تتسخ أحذيتهم الجديدة بالوحل، قالوا لنا إنهم سيحصون الخسائر ويعوضوننا، فتسلموا أوراقا كثيرة، لا نعلم ما فيها، سلمها لهم رجال السلطة المحلية، وتناولوا وجبة الطعام التي أعدها لهم السكان في خيمة كبيرة بجوار النهر. والتقطوا صورا تذكارية،، وسلموا على الناس بأيديهم، وكم كانوا متواضعين، لم يضعوا قفازات، كانت أيديهم ناعمة جدا. وبعد التقاط الصور التذكارية، وشرب الشاي، تجشأوا ورحلوا، ومنذ ذلك الحين لم نسمع عنهم خبرا. قيل لنا إن الحكومة قد تلقت مساعدات هامة من بعض الدول، وأنها أخطأت الطريق إلينا ولم تصلنا، فاستفادت العاصمة من تلك المساعدات.

 أذكر ذلك جيدا، وكأنه قد حدث بالأمس فقط،، كنت صغيرا، وكانت أمي تداعب أخي الأصغر، وتوصيني دوما، أن أعتني به، وتقول لي: أخوك هو سندك، من لا أخ له، تضيق به الحياة. رحلت أمي، وواصلت الحياة رفقة أبي وأخي الأصغر،، كنت سندا لأبي وأخي الأصغر معا، فلم تضق بهما الحياة حقا، لأنها اكتفت بالتضييق علي.

 تضيق بنا الأمكنة، تضيق بنا الأرض على سعتها، أين المفر؟

التوشية الثانية

زوجني أبي ببنت عمي العانس، لفض نزاع قديم بين عائلتينا، كانت أكبر مني سنا، وبعد الزواج، ازدادت المشاكل وكبر النزاع، بيني وبين عائلتي  من جهة، ثم بين العائلتين معا. قرار أبي كان مثل قرارات الحكومة، تفك أزمة صغيرة بأزمات أكبر.

التوشية الثالثة

لفتت نظري فردة حذاء رياضي يشبه ذلك الذي اشتريت لابني من السوق قبل نحو سنة، التقطته وتبين لي أنه من المقاس نفسه، فشكرت الله على هذا الحظ، فردة واحدة، لابأس، على الأقل هي أفضل حالا من تلك المهترئة التي يضعها ابني في قدمه، اِلتَفَتُّ يمينا ويسارا أبحث عما أغطي به الحذاء، التقطت صفحة جريدة قديمة من الأرض، تبينت من عناوينها خبرا عن خطيب جمعة، ألقى خطبته في المسجد الكبير في حضرة الملك، فتحدث عن فضائل الإسلام التي لا تعد ولا تحصى، وكيف قضى على الفقر بين المسلمين، تبسمت، لأني اكتشفت أن سكان قريتنا لا يعدون من بين المسلمين، فهم فقراء.

أتساءل بيني وبين نفسي، لماذا يفكر الفقراء في الإحسان، الأغنياء لا يتصدقون، بل لا يُصَلّون حتى صلاة الاستسقاء، حين يحجون أو يولِمون، يدعون لولائمهم الأغنياء مثلهم ورجال السلطة، من قريتنا ومن القرى الأخرى والمدن البعيدة كذلك. وما فضل من الطعام يجمعونه في شاحنات ويلقونه في مزابل بعيدة. وأحيانا يوزعون الفضلات على الفقراء.  الفقراء دائما ينظفون أفضل.

حين انتشرت الهواتف الذكية، تراجعت الصدقات، الهواتف فعلا ذكية، بل في غاية الذكاء، وافقت البخلاء في ذكائهم، يكتب المرء موعظة، أو قصة بلغة ركيكة، ويختمها بجملة النهاية: من ينشر هذه الموعظة بين الناس له أجر عشر صدقات، ولكل صدقة عشر أمثالها، فتكون النتيجة، تحصيل أجر مائة صدقة بنشر موعظة رتيبة، هكذا إذن، ماذا يأكل الفقراء؟ هل يأكلون المواعظ الرتيبة؟ البخلاء أصبحوا يراكمون الأجر بالصدقات الافتراضية، بنشر المواعظ والقصص الكاذبة، ويُقَوِّلون الله عز وجل وأنبياءَه ما لم يقولوا.

 حتى العزاء والتهنئة، كنا نذهب إلى منازل ذويها، فنحظى ببعض الاستقبال وصحن كسكس باللحم أحيانا، اليوم أصبحت التعزية والتهنئة في الفيسبوك والهاتف، ولا زيارة ولا كأس شاي. هواتف ذكية فعلا.

التوشية  الرابعة

في مقهى المحطة يشغل علال المذياع ويضبط المؤشر على موقع الإذاعة الوطنية، فينبعث موشح أندلسي يصدح فيه المغني: “بشرى لنا” بصوت رتيب مبحوح.

 من طرف المقهى، يصرخ حميد: “آعلال،، بدل الراديو، الله يرحم بها الوالدين”. لماذا؟ ألا تحب الموسيقى؟ يسأله علال مستغربا. يجيب حميد، كل الموسيقى، إلا هذه. يعقب علال: الناس في الغرب يحبونها كثيرا. ينطلق صوت التيجاني من بين الجالسين على الرصيف، يلتقط الكلام من النافذة المجاورة: الناس في الغرب يحبون “التواشي”[2]. فتهتز المقهى على أصداء قهقهات الجالسين، مصحوبة بالدعاء للتيجاني: “آ التيجاني، الله ينورك”.

التوشية  الخامسة

على كرسي مجاور، جلس شاب بجوار طفلة، يبدو أنها ابنته، كان الشاب يتصفح جريدة فرنسية، وابنته تتصفح هاتفها الجديد الغالي. كان الرجل يتطلع بين الحين والآخر إلى الحافلات، لعله يتنظر شخصا ما.

وصلت حافلة، ونزل منها المسافرون، تأمل الشاب النازلين، فقال لابنته بفرنسية جميلة: لقد وصل. وقبل أن يغادرا المقهى، امتدت الأيادي للمصافحة، وتبادل كلمات المجاملة..

قال الشاب لابنته، هيا سَلِّمي على ضيفنا. مدت الطفلة يدها بأناقة، قائلة بفرنسية أنيقة أيضا: “بونجور  موسيو”، رد الزائر: “بونجور، سافا”. فكرت قليلا، لاشك أن هؤلاء أناس مهمون، أبناءهم مهذبون وأذكياء جدا، ليسوا مثل أبناء الفقراء، ابنتي تحييني بعربية بسيطة جافة: “صباح الخير”، أي خير سيأتي مع الصباح، وقد هجرني طيلة حياتي.

حين كنا صغارا، كنا كثيرا ما نتسلى بحكاية الفقير الذكي والغني الغبي، ولست أدري لماذا كانوا يروجون مثل هذه الحكايات؟ ولم كان الأغنياء يغضون الطرف عنها؟ لعلهم كانوا يسخرون بها من غباء الفقراء الذي يصدقون مثل هذه الحكايات.

التوشية السادسة

  منذ الصباح، إلى غاية الظهر، طيلة مكوثي في المحطة، لم تأت سوى حافلة واحدة من العاصمة، حافلة أنيقة، جديدة ونظيفة، ركابها في غاية الأناقة والنظافة. في حين عاينت عددا من الحافلات تغادر المحطة محملة بالناس، وهي حافلات أكثرها مهترئ، قديم. خمنت، إن الناس الذين يغادرون القرية أكثر من الوافدين عليها، إن سكان القرية يبحثون عن أية فرصة للرحيل.

  إن زوارنا يأتون على متن حافلات جميلة مكيفة، لعلها تغري الناس بزيارة القرية البئيسة، فحال هذه الحافلات لا يتلاءم مع حال القرية. فما أن ينزل المسافر من الحافلة حتى يلفح وجهه برد قارس في الشتاء، أو حرارة شديدة في الصيف، وتزكم أنفه روائح كريهة للمياه العادمة، ونتانة الفضلات التي تملأ الزوايا وخلف الجدران، وضجيج وفوضى الحمالين والباعة المتجولين الذين يعرضون بضاعتهم البئيسة، أو يقدمون خدماتهم للمسافرين، حملا أو إرشادا أو مساعدة، بثمن بخس.

التوشية السابعة

 أفاقني غلام المقهى من غفلتي على الكرسي، حين وقف يسألني إن كنت أرغب في تناول مشروب ما، كان صوت المؤذن يملأ الفضاء، معلنا دخول وقت صلاة الظهر، قمت من الكرسي متباطئا، وغادرت المحطة اللعينة، عائدا إلى القرية، تخلصت من فردة الحذاء التي وجدتها، جردتها من لفتها وطوحتها بعيدا، وواصلت السير بخطى وئيدة إلى المنزل، لا داعي للسرعة، فالنهار لا زال طويلا، ولن أعود إلى القرية بفردة حذاء، فابني له قدمان.

 الوقت يمر ببطء شديد، يدك الجميع ويحاصرهم، ونواجهه بالعبث، نقضي أيام بطالتنا كاملة في المحطات أو الأسواق وسط الصخب، أو لعب الورق في المقهى، فضجيج هذه الأماكن أحسن موسيقى، وضجيج الناس ينسينا همومنا، إن حنينا قويا إلى التشرد يكتنفنا، للتخلص من أعباء حياة لم نخترها ولا نطيقها، نحن كلنا مشردون في منازلنا الصفيحية الواطئة. كلنا نتوق إلى رحلة طويلة بدون نهاية، لا نسمع فيها “التواشي”.

[1]التواشي السبع: معزوفة آلية تعد من بين ألطف وأجمل معزوفات الطرب الأندلسي في المغرب.
[2]التواشي: في لغة سكان المغرب الشرقي تعني الأكاذيب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *