“روائي الماورائيّات”: شيء عن سرد يحيى القيسي
*بديعة زيدان
“في البداية كنت أؤمن بالشكل التقليدي للكتابة، فهذا ما وجدنا عليه آباءنا، وبعدها بدأت في قراءة الفلسفة، وأكثر ما أثَّر فيّ كتابات وتجربة فايز محمود، حيث تناقشت معه ذات ليلة في منزله بعمّان، فدوَّنت شيئاً من ذلك في رواية باب الحيرة، التي تؤرشف لمرحلة الإيمان ثم اللا إيمان باعتباره نوعاً من أنواع الإيمان، وبقيت لعشر سنوات في هذه التجربة الوجودية، الجادّة والعميقة، وبعدها بدأت أبحث عن الإيمان، خاصة أن المادية الجدلية لم تجب عن تساؤلاتي الوجودية، ومن هنا بدأت أدخل فيما يسمى بالإيمان العلمي، أي القائم على العلم، وليس على النقل أو ما وجدتُ عليه أهلي، فكانت هذه التجربة الجديدة التي أصِفُها بالتصوّف الفكري لا التصوّف الطقوسي. كل رواية لي كانت تعكس تطوّر تجربتي الروحيّة، فما بعد باب الحيرة، كانت رواية أبواب السماء ومن ثم رواية فردوس محرّم، وما تلاها”.
بهذه العبارات لخّص الروائي الأردني يحيى القيسي، شيئاً من حكايته مع الكتابة السردية، خلال حفل لتكريمه، وإشهار وتوقيع روايتيه “الفردوس المحرَّم” و”حيوات سحيقة” الصادرتين عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمّان، وهو حفل احتضنه، مؤخراً، بيت الثقافة والفنون في العاصمة الأردنية، بإدارة الفنان والشاعر محمد العامري، ومشاركة كلٍّ من الروائي هاشم غرايبة، والشاعر والناقد د. راشد عيسى.
وأضاف القيسي: أعتبر نفسي ممّن تبحروا وتعمقوا في الماورائيّات، التي تخصص لها دول غربية وحتى عربية كمصر والعراق مراكز أبحاث متخصصة، ولذا حاولتُ أن أنقل في رواياتي بعض معارفي، وهي روايات تقوم على المعرفة متمثلة بما أتعرّض له من قراءات وأفلام ومناقشات ومحاضرات في مجال الماورائيّات، كما تقوم على العرفان، أي أفكاري الخاصة بي في هذا الاتجاه. رواياتي قائمة على حدث حقيقي، ومعظمها تقوم على أحداث إمّا عايشتها، أو أعرف عنها عبر آخرين، لكن ولكون الرواية فنّاً، فلا يجب أن أكتفي بذلك، فعليّ أن أهتم بالشخوص وبتقنيات السرد وبالأمكنة وغيرها، بحيث أقدّم عملاً فنيّاً، وهي تطرح أسئلة أتمنى أن تكون محفزة على البحث.
وفي مستهل الأمسية الاحتفالية، قال الشاعر محمد العامري إن القيسي تفرد بين الكتاب الأردنيين بأسلوبية السرد الصوفي، مدللاً على ذلك بعدد من روايات القيسي في هذا الجانب، مشدداً على أنه قدّم سرداً متميزاً بجمع متفرّد ما بين الخيال والواقع، بما يغني السرد الغني أصلاً بالبحث في أكثر من اتجاه.
ولفت العامري إلى أن “للمكان الحضور الأكبر في سرديّات القيسي”، وإلى أن “لغته المتماسكة والمتسلسلة والتي لم ينفرط عقدها في مساحات الزمن” منحته القدرة على الإمساك “بناصية السرد” باقتدار، بكونه “يذهب بالرواية إلى البحث، فرواياته قائمة على المرجعية الثقافية، بما يجمع ما بين الإشراق والخيال والواقع”، ما يجعله في منطقة خاصة ومتفرّدة.
واستذكر الروائي هاشم غرايبة قصصاً مع القيسي، الذي وصفه بأنه صاحب روايات تستحق الاهتمام، باعتبارها “مختلفة عمّا هو سائد في الساحة الثقافية، ومُغاير للروايات التي نسجت على مدى عقدين من الزمان في الأردن”، من بينها أنه شاركه في إصدار نشرة صحافية أدبية ثقافية، في تسعينيات القرن الماضي، ترأس القيسي تحريرها، واصفاً التجربة بالخطوة “المتواضعة والمهمة جداً، تلملم أوراق الشباب وكتاباتهم الأولى، لتصدر في نشرة كنّا نقوم بتعميمها عبر ماكينة تصوير”.
وكشف غرايبة أن القيسي “كان مهموماً بالثقافة منذ كان يعمل مدرّساً، وبدأ كاتباً للقصة، وهو قارئ نهم لكل ما يقع بين يديه في شتى الموضوعات، كما عمل في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية، وكانت كتاباته واقعية تميل إلى البنيوية، قبل أن يتحوّل باتجاه الروحانيّات. كنت أعتقد أن رحلته ستقوده حتماً إلى الروحانيّات وليس إلى شيء آخر، فقد كان دوماً يحدثني عن جده لأمه الذي كان صوفيّاً معروفاً في منطقته، وله كرامات، وكان يعتد به”.
من جانبه تحدث الشاعر والناقد راشد عيسى في النقد الثقافي لتجربة القيسي الروائية، فتحت عنوان “رؤى تنويرية في روايات يحيى القيسي”، وهو عنوان مداخلته، لفت عيسى إلى أن “يحيى القيسي من هؤلاء الأدباء الذين كرّسوا معتقداتهم الثقافية في أعمالهم الأدبية، ففي رواياته الخمس جسّد اتجاهاً نحو الماورائيّات التي تتخاطر بالأسئلة الكونية، وأكد نزعته نحو التأمل الصوفي بشقيه الديني والوجودي، من منطق إعادة تشكيل الواقع”.
وأشار عيسى إلى أن القيسي، وكما “يبدو جلياً”، فإنه “مفتون بفكر محي الدين بن عربي”، الذي هو بمثابة “مدرسة معرفية مؤثرة في الأنساق الثقافية العربية”، باعتباره “شاعراً فذاً ومفكراً فريداً، وصاحب رؤية إيمانية لا يقف على لوامعها العظيمة سوى نخبة من المثقفين، وما زال فكره مثار جدل حتى الآن.. القيسي وفي رواياته ذهب إلى ابن عربي في اتجاهين، الأول فكري خالص يسعى إلى تفكيك آرائه ويضيء على ما ورائها من أفكار دفينة، وهنا نجح في المهمة النقدية الوعرة رغم تأثره بفكر ابن عربي، الذي في الشق الثاني من توجه القيسي نحو الشيخ الصوفي نراه جلياً بجانبيه العقلي والقلبي، علاوة على انغماسه في اللمع الصوفية عند أقطاب آخرين”.
وأكد عيسى: ثمة “شعور فكري” في روايات يحيى القيسي، وهو شعور خاص روحانيّ لا يخلو من فكر، وبالتالي “نرى أن رواياته تصدر عن نفس إنسانية باحثة عن الحقائق الوجودية، لا لتجدها إنّما لتعيش معها لذة التساؤل والحوار والتأويل والمشاكسة”، أو ما يمكن تسميته “عذوبة القلق المطمئن، أو التشكيك الممتع في تحوّلات الأزمنة وفاعليتها في مسيرة الإنسان ومسيره”.
كما أنه كتب رواياته “لابتداعات صيغ أخرى لمعنى الحياة، فلم يثق أبطال رواياته لما هو مطمئن إليه من الحقائق التاريخية والمعرفية والنفسية والجغرافية”، حسب عيسي الذي أضاف: “نزح القيسي في رواياته أيضاً إلى فكر ذاتاني يصنعه ويديره على مزاجه، وهي تشبه الاكتفاء الذاتي المستقبل بما يصدر عن كينونته التأملية من إشعاعات إيمانية وفلسفية”.
وختم عيسى حديثه بأن الروايتين المحتفى بهما” “الفردوس المحرم” و”حيوات سحيقة”، تحتويان “حضوراً كثيفاً لأفكار تتعلق بالكنور الدفينة تحت الأرض، والنبش في ذاكرة المكان التاريخي، والجغرافيا الأثرية، كما أنه يزاوج عبرهما بين “الجغرافيا الواقعية والتاريخ، وبين الجغرافيا النفسية والجغرافيا الفكرية”، متحدثاً بالكثير من التفاصيل عنهما كجزء من تجربة القيسي الروائية التي لا تخلو من “خيال علمي” أيضاً.
- عن منصة الاستقلال الثقافية – فلسطين