شيء ما سينقص في عمّان

شيء ما سينقص في عمّان

أمجد ناصر

1

قبل أسبوع واحد من رحيله الصاعق تحدثت إليه.

ليست بيننا، رغم نحو ربع قرن على تعارفنا، مكالمات هاتفية، ولا حتى رسائل، اللهم إلا الرسائل الشفهية التي ينقلها بيننا، من حي لآخر، أصدقاء مشتركون.

فهو، مذ عاد إلى بيروت العام 1982 «أصيل» عمان، وأنا، منذ ذلك التاريخ، نزيل «مهجر» يطول ويطول.

إنها المصادفة التي تأبى إلا أن تترك لرحيله عندي ذكرى صغيرة أخرى، ليكتمل بها عقد الذكريات المتباعدة.

كنت أتكلم مع الصديق يحيى القيسي عندما أخبرني أنه يجلس في مقهى «عمون» بصحبة د. خالد الكركي ومؤنس الرزاز، طلبت منه أن أتكلم معهما، تكلمت مع د. خالد أولًا ثم تحدثت معه.

كان صوته مرحًا، رنانًا كما اعتدت أن أسمعه من قبل.

فلم أعرف، ربما لظروف تباعدنا الجغرافي وتقطع لقاءاتنا، وجهه الاكتئابي العلاجي الذي يعرفه فيه المحيطون به، والذي تناوله بجرأة وعمق في سيرته الجوانية التي لم يقدر لها أن تكتمل.

كان صوتًا مرحًا، صوت من يقبل على الحياة لا من يدبر عنها. قال لي إنها المرة الأولى التي يتكلم فيها من خلال هاتف خليوي، كاد الصوت أن يغيب فنادى على يحيى القيسي ليسعفه في هذه المهمة العسيرة.

ثم كأن يحيى أشار عليه أن ينتبذ ركنًا يحدثني منه.

قال: انتظر سأنتقل إلى زاوية أخرى، غاب الصوت، ثم عاد. قال: لا أعرف كيف أتكلم من خلال هذه الآلة، علاقتي بالتكنولوجيا سيئة للغاية.

قلت له: وأنا كذلك.

قال: أرسلت إليك فصلًا جديدًا من سيرتي الجوانية، هل قرأته، يهمني رأيك. سيكون هذا أهم كتاب أكتبه في حياتي، قلت له إنني قرأت ثلاثة فصول متفرقة من هذه السيرة وقد أعجبتني، لا لجرأة الكتابة وتشريح الذات فقط، بل لسلاسة الكتابة وتدفقها، إنها كتابة لا عنت ولا تكلف فيها.

قلت له أعجبني أكثر الفصل الذي تحدثت فيه عن تصوفك.

لكني لم أقل له أنني كدت أنشج، أنا الآخر، عندما تدرج به شيخه من الشك، إلى الفضول، إلى الاستغراق، إلى الاحتدام الداخلي، إلى البكاء الذي يهبط كنعمة، كعلاج، عندها قال له الشيخ: لقد وصلت.

أحسست، مثله، أن كتفي المثقلتين بما لا أدري من أوصاب وشقاءات وترحالات، صارتا أخف من ريشتين.

يا له من فصل فذّ.

يا لها من كتابة متخففة من أثقال البلاغة، والجماليات المفتعلة، كتابة مكتفية بلهب التجربة وحرائقها.

لم أقل له ذلك.

مثل هذه الأشياء لا نقولها. نخشى أن نفضح، نحن الذين نبدو أقوياء متماسكين، هشاشتنا الداخلية.

قلت له إنني قادم إلى عمان في مطلع نيسان وسنتحدث.

كنت أظن أن هناك متسعًا، وأنه سيكون هناك في عمان، مثله مثل القلعة، أو جبل اللويبدة، أو المدرج الروماني، أو سقف السيل، وأنني سأراه مثلما دأبت في كل صيف في السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة.

2

أودّ أن أشكر الكاتبة سميحة خريس التي ألحت عليّ أن أحضر ذلك العشاء صيف العام الماضي تحت عريشة بيتها في ضاحية «الرابية» فلولا إلحاحها لما حظيت بتلك السهرة النادرة معه، المخطوفة من عمر سريع عجول، ولما جرت بيننا تلك المفاتحة التي أطل عليها يوسف الحسبان، رفيق اللحظة البيروتية، ويحيى القيسي.

ذكّرني ليلتها بسهرة عاصفة في بيت صديقنا المشترك، الراحل باكرًا هو الآخر ككل الأردنيين ذوي البشارة، ميشيل النمري، في حي فردان في بيروت.

كنا ثلاثة أردنيين.

لكلّ منا اتجاه.

لكن في حين كنّا، ميشيل وأنا، ماركسيين، كان هو بعثيًا.

كان قد بدأ مراجعة انتمائه السياسي والفكري على خلفية الأزمة التي وقعت بين «الرفاق» في بغداد، وكان والده في قلبها وإن استُثني لبعض الوقت.

كان يرغب في اجتياز دائرة الدم تلك إلينا، وأنا أرده بفظاظة إليها.

كان يعتذر عن المذبحة التي جرت في خديعة «الجبهة» وأنا أقول له إنه اعتذار متأخر.

لا أظن أنه أحبني في بيروت، بدليل أنه حاول أن يرد لي تلك الضربات، المحمولة على حميا الانتماء ونزق الشباب، التي سددتها إليه في بيت ميشيل النمري، فعندما صدر ديواني الثاني «منذ جلعاد» الذي ترصد بعض قصائده الحياة الأردنية، وتورد نوعًا من ثبت بأسماء عشائرها قال لي بسخرية حادة: هذا شعر أم دليل هاتف؟

لكن لحظة الانقسام السياسي والأيديولوجي لم تدم طويلًا: إذ تهاوت، بعد عام 1982 الحدود والمواضعات.

صارت الهزيمة ترن في أعناقنا، جميعًا، رنين جرس كبير الأكباش.

3

«تجلى طموحي مثلًا أن أموت موتًا طبيعيًا مبكرًا، لا منتحرًا» هذه جملة ملفتة في أحد فصول سيرته «الجوانية» التي دأب على كتابتها ونشرها تباعًا في الصحافة الأردنية والعربية، في الأشهر الأخيرة، فهل تحقق طموحه؟

هل مات موتًا طبيعيًا مبكرًا لا منتحرًا؟

تصعب الإجابة.

يصعب القول إنه مات موتًا طبيعيًا، ويصعب القول إنه مات منتحرًا.

ففي موته من الانتحار والعبث الطبيعي والعرضي، ما يصعب معه تقبل ذلك الطموح، أو تلك الأمنية كنبوءة.

موت طبيعي؟

«ماذا يعني وكيف يكون الموت طبيعيًا؟».

ولكنه بالتأكيد موت مبكر.

بهذه أصاب.

فليس هناك أبكر ولا أكثر مراوغة من هذا الوقت الذي اختطفه من بين محبيه.

4

قلت ليحيى القيسي، الذي كان تقريبًا آخر من رآه من أصدقائه، عندما أخبرني أنه أدخل إلى العناية الفائقة: لدي شعور داخلي أنه سيجتاز هذه الظلمة، سيخرج من عنق الزجاجة، سيعود.

كنت أظن أن «النمرود» الذي في أعماقه قادر على اجتياز سديم «الكوما» ليضيف ذلك إلى مآثره الكثيرة.

لكنها كانت، على ما يبدو، مجرد أمنية.

وكم خابت الأماني؟

كنت أتوقع أن أراه في عمان في الربيع.

لكنه كان طموحًا أكثر مما تحتمل قلوبنا.

تعرفون، بطبيعة الحال، أنني أتحدث عن العمانيّ مؤنس الرزاز.

شيء ما سيتغير في عمّان.

شيء ما، لا شكّ، سينقص فيها.


*نشر هذا النص في كتاب هاملت عربي، مؤنس الرزاز : شهادات وحوارات ودراسات، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام 2003.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *