عــودةُ عُطَيــــــــــل – قصة قصيرة

(ثقافات)

عــودةُ عُطَيــــــــــل

قصة قصيرة

الأديب السُّوري موسى رَحُوم عبَّاس

السُّويد

    لا أدري لماذا نحن أبناءَ القُرى نلتزمُ أعرافًا عائليةً تأخذُ مع الوقت صيغةَ طُقوسٍ أو شعائرَ لا يجوز لأحدٍ التَّخلي عنها، بل تصبحُ مُسَلَّمات نتوارثها ونورِّثها، منها سلطة الأخ الأكبر والأخت الكبرى وهما يستمدَّان سلطتهما من دور الأب والأم في العائلة، وهذا ما التزمتُ به طائعا أمام أخي الأكبر عَطيَّة، فقد شكَّل بالنسبة لي أبًا آخرَ، ربَّما ساهم في ذلك كوني الأخَ الصَّغيرَ في الأسرة وآخرَ العنقودِ، أو السُّكر المعقود، كما كانت جدَّتي تقول، وهي تبسطُ حمايتها الضَّافية َعليَّ، وتبرِّرُ كلَّ حماقاتي، حتى لو كانتْ من مثلِ توزيع كلِّ ما يحتويه بَرَّادنا من فواكه وحلويات على أصدقائي من الشَّياطين الصِّغار الذين اكتشفتُ متأخرا أنَّهم يدفعوني لذلك ابتزازا، ويصرُّون على منحي موقعَ المُهاجمِ في أيَّةِ تشكيلةٍ لفريق الحيِّ لكرة القدم، وأنا من ظننتُ أنني نِلتُ ذلك الامتيازَ لمهارتي في اللعبة مع العلم أنني لم أسجلْ إلا أهدافًا قليلةً، وهي في معظمها مشكوكٌ في صِحَّتها أيضا، كون الحَكَم ابن خالتي!

عندما تخرَّج عطيَّة أخي في المعهد العالي للفنون المسرحية في العاصمة دمشق، كنتُ سعيدا جدا، وبخاصةٍ بعد رسائل التوصية التي حصل عليها من أساتذة المعهد، وهم فنانون معروفون وكلها تشيد بموهبته ومستقبله المشرق في عالم الفن، وتكوَّنَ لديَّ رأيٌ غيرَ قابلٍ للدحضِ أنَّ التمثيل والإخراج أهمُّ من الطِبِّ والهندسات بأنواعها، ورسخ هذا الاعتقاد بعد نزوحنا من القرية إلى هامش المدينة، واكتشافي أنَّ أخي هو أولُ خرِّيجٍ في هذا المعهد من أبناء الرَّقة وريفها، ونتيجة لخدماتي المنظورة وغير المنظورة له؛ فقد كنتُ أشتري له الدُّخان بعيدا عن أنظار والدي الذي يعود مُرهقا من عمله في سوق الهال (الخضار) وربما أوصلتُ بعض رسائله إلى جارتنا الرُّوسية التي اختار والدها البقاء في الرَّقة بعد تقاعده من العمل في سدِّ الفرات،  دون أن أعرفَ مضمونها، ولا أكترث لذلك، ولو أنني أردتُ سؤالها عن العمل الذي يقوم والدها به بعد تقاعده في بلادنا، بعد أن رأيتُ سيارتهم الجديدة!

  أحسسستُ بألم أخي عطيَّة في كلَّ مرة يعودُ من العاصمة خائبا، وأسمعُ اتصالاتِهِ المستمرةَ مع شركات الإنتاج التلفزيوني والسِّينمائي الحكومية والخاصة، بفطرتي شعرتُ بحزنه وإدراكه أنَّه ليس له ظَهْرٌ هناك، ولا يحسن ما يفعله الآخرون، أو يقدمونه؛ لينالوا بركة المنتجين والمخرجين، ربما يحتفظ لنفسه بأسباب أخرى تتعلَّقُ بالكتب والمجلات التي يقرؤها بعد أن يقفل باب غرفته جيدا، لا أعلم!

“فرقة عطية للفنون المسرحية ” هي أفضل المتوفر، شكَّلها مع مجموعة من الهُواةِ أصحابه، الحقيقة إنَّ أخي لم يضيع خِدماتي هباءً، بل كان يصطحبني للبروفات جميعا، في “البروفة جنرال”  لمسرحيته الأولى والتي أسماها ” عودة عُطيل الرَّقي” وعندما جحظت عيناي لسماعي هذا المصطلح أول مرة في حياتي، بادرني، وهو يمسح على شعري بلطف، أقصد البروفة النهائية، كما شرح لي لاحقا الكثير من مثل هذه الكلمات،  منحني امتياز الجلوس في الصف الأول من الكراسي الوثيرة،  أي الصفِّ الذي سيكون للقيادة السِّياسية في المدينة، والمحافظ، وضباط الأمن أثناء العرض الحقيقي، الأمر الذي ركَّز عليه أخي، أيضا عرفتُ لاحقا إنَّه يريدُ لِدَيْنِه عليَّ أنْ يكون كبيرا، وربما زادت المهام التي سأكلَّفُ بها!

 خرج عطيَّةُ بلباسِ (عُطيل) القائد العسكريِّ لجيش البندقية الإيطالية، بشعره الأجعد الفاحم السَّواد هذا الشابُّ المغربيُّ النبيلُ الذي استحقَّ أعلى رتبة عسكرية تؤهله لقيادة الأسطول الذي سيردع الأتراك في جزيرة قبرص، وهم من تجرأ على تهديد البلاد التي صارت بلاده، أول مرةٍ أشاهدُ عطيَّة بمشيته الموزونة، وهو يضرب بقدميه أرض الخشبة في إيقاعٍ مهيبٍ، أراه يقف الآن بأناقةٍ مُفْرطةٍ أمام دَوْقِ البُندقية؛ ليستأذنَهُ في إشهار علاقته بأجمل جميلات المدينة   ” ديدمونة”  وينالَ بركته أمام القادة والجنود، وخلفه تماما يرفع القائدُ ” ياغو” راية الأسطول، والحسد يملأ قلبه، بينما القائد ” رودريغو” يركز عينيه على شعر ديدمونة المُسترسل، وعنقها الذي يشعُّ نضارةً وألقا، وإلى جانبها مرافقتها “إميليا” زوجة القائد “ياغو”

  عندما فُتحتِ السِّتارةُ لبدء الفصل الثاني من المسرحية طفقتِ المؤامراتُ تترى حول “عُطَيل” القائد أي أخي عطيَّة، أكاذيبُ ودسائس جعلتني أنتفضُ كعصفورٍ مبللٍ، مثل وحشٍ صغيرٍ له مخالب، أنا الآنَ شِبْلٌ جريحٌ يطلب ثأرا، فانتهزتُ الوقتَ الذي انسحبَ فيه الممثلون، وأغلقتِ السِّتارةُ مُؤقتا، وتسللتُ إلى الرُّدهة الخلفية للمسرح، وغرفة الملابس والكواليس متسلحا بقطعة خشب وجدتها في طريقي، لم أستأذنْ أحدا، ولم يمنعني أحدٌ؛ فالكلُّ يعرفني هنا، ولا يستغربون وجودي؛ فأنا المرافقُ الدَّائمُ لأخي، لذا انهلتُ بالضَّربِ على ” ياغو” ورودريغو” أي على جاسم وعبودي، ضجَّتِ الكواليسُ بحركةِ الممثلين نتيجة الفوضى التي زرعتها، فوجئتُ بأخي يحتضنني مُحْرجًا، وعيناه شاخِصتان نحوي، وكأنَّهُ يستفسرُ عن السَّبب، انقلبَ كلُّ ذلك إلى ضحكٍ وهرجٍ، عندما قلتُ لهم بصوتٍ مُتهدِّجٍ، تقطعه حشرجةُ البكاء:

 يا كلاب!  يا خونة! يا مرتز… نوبة البكاء تتحوَّلُ إلى نشيجٍ يبتلعُ الكلماتِ من فمي، أكملتُ

تتآمرون على أخي القائد الوطنيِّ الذي سيدحرُ الأعداءَ الأتراكَ، ويطردهم من جزيرة قبرص!!

في الطَّريق كان عطيَّة يطيِّبُ خاطري، ويطمئنني بأنَّ جاسم وعبودي غير غاضبيْنِ عليَّ، وأنَّ كلَّ ذلك تمثيلٌ لا أكثر، لكنَّه توسَّعَ في الشرح قائلا: اسمعْ ياخُويَهْ، هذه الحياةُ كلُّها مسرحٌ كبيرٌ، كبيرٌ جدا، أكبرُ من نهر الفُراتِ، ولكلٍّ مِنَّا دورٌ يؤدِّيه، هذا ناسكٌ، وذاك داعرٌ، هذا وطنيٌّ، وذاك خائنٌ، لكنْ كلُّ هذه أدوارٌ نؤدِّيها على مسرح الحياة، سألتُه هل هؤلاء الذين يقفزون على الرَّصيف من ساحة النَّعيمِ إلى بوَّابة المركز الثَّقافي الذي خرجنا منه كلُّهم ممثلون؟ ضحكَ،  وقال : نوعا ما في النَّهار يمثلون دورَ الموظفِ المُخلصِ أمام المدير، الفاسدِ أمام المراجعين، وفي المساء دورَ الأب، وفي الليل دور الواعظ أمام أبنائهم، وربما دور لاعب القمار في آخره!! لم أقتنعْ كثيرا، ولكنَّهُ أخي الكبير الذي لا يكذبُ، ولا يخطئُ، وفوق كلِّ ذلك هو خرِّيجُ المعهد العالي!!  وفي المسافة بين شارع الأماسي وبيتنا كنتُ أقولُ لنفسي، يعني شيخ الجامع في موعظته الأسبوعية في خطبة الجمعة، وشاعرُ الأمسية الأخيرة، والمحافظُ في خطابه المؤثِّر في ذكرى الانتصار الكبير كلُّهم ممثلون؟! حتى جارتنا الرُّوسية التي كنتُ أحملُ رسائلها لعطيَّةَ هي الأخرى مُمَثلة؟!  لكنني أعودُ للاستغفار والاستعاذة من الشَّيطان خاصةً أنني وضعتُ شيخ الجامع مع هؤلاء، وهو صاحب الوجه المنير والعِمامة ناصعة البياض!

 حول مائدة العشاء كانتْ أمِّي تخبرُنا أنَّ كلَّ شيء سيكون بخير، وأنَّ والدي يسيطر على الأمور ولن ينقصنا شيءٌ، وكنتُ أنظرُ إليها بدهشة، وأعرفُ أنَّها تؤدي دورها في المسرحية الكونية؛ فيجيب والدي باقتضابٍ وضيقٍ ظاهرين مؤمِّنًا على ما تقوله، أَستمِرُّ بهزِّ رأسي، وأنا موقِنٌ أنَّ والدي ممثلٌ، ولكنه ممثلٌ فاشلٌ، فوجهه يقول عكس ما يلفظه لسانه، فهو لم يكمل عمله اليوم في شركة الخضار، طردهُ صاحبُها، لأنَّ حركته في التَّحميلِ والتَّنزيلِ لم تعدْ كما كانتْ، وفوق هذا شتمَ صاحبَ الشَّركة، وعيَّره بألاعيبه وسرقاته، بل وصفه بالقوَّاد! والمُخبر الذي عيَّنه التَّاجرُ؛ ليراقبَ زملاءه، ويكتبَ عنهم تقارير يومية، نقل له عباراتِ والدي القاسيةَ حرفيًا، هاااه ممثلٌ فاشلٌ!

في الحرب الأخيرة كان عطيَّة –  فاتني أنْ أخبركم أنَّه ومنذ تلك المسرحية، اكتسب اسما جديدا هو ” عُطيل الرَّقي” وكان يمزح في قوله إنَّه أصبح من أحفاد الشيخ شكسبير العامري- قد التحق بالخدمة العسكرية، ولأنَّه الممثلُ الذي لا يعرفه أحد في العاصمة، رُفِضَ طلبُهُ مرارا في الالتحاق بالمسرح العسكري، رغم تقدمه بالشَّهادات وقرار إنشاء الفرقة المسرحية، حتى إنهم كانوا يتندَّرون باسم الفرقة” عطيَّة للفنون المسرحية” مما دفعه كي يصرفَ النَّظرَ عن طلباته المتكرِّرة، في هذه الحرب اللعينة ألحقوه بفرقة الهلال الأحمرالعسكري مُسْعفًا بعد أنْ اتَّبعَ دوراتٍ متعددةً في الإسعاف والصِّحة العامَّة، وشرحوا له أهمية الوطن وقيادته والموت في سبيلهما في محاضرات التوجيه السياسي للوحدة العسكرية التي يتبعها!

صباحٌ شتويٌّ قاسٍ، القليل من التدفئة والطعام، فقدي لأخي  شديدٌ، لكني كنتُ أمثِّلُ دوري بإتقانٍ، أبدو سعيدا، أمرحُ في شوارع حيِّنا الضَّيقة، وأشتم سائقي السَّيارات الحكومية المسرعين الذين يجبروننا على إيقاف المباراة، كلَّما مرُّوا من شارعنا، عطيَّةُ نادرا ما كان يتَّصلُ بنا؛ فأقفزُ فوق الجميع لأخطفَ السَّماعةَ من أيديهم؛ وأناديَه عُطَيل! عُطيل!  أين أنتَ؟ فيجيبُ ضاحكًا ” ديدموووونة”

هذا الصَّباح لم يكن كسابقاته، كان مختلفًا، بائسًا، ملبَّدا بالغيوم الكثيفة، أمي تقول إنَّ عينها  اليسرى ترفُّ بقوةٍ، وهي علامة سيئة، السَّيارة العسكرية تقف أمام باب بيتنا تماما، السَّيارة كبيرة، هَمْسٌ يدورُ بينهم وبين أبي، يرتفعُ الصَّوتُ، يتحوَّلُ إلى جَلَبةٍ، عطيَّةُ قُتل!!

 الكلُّ يتحرَّكُ دون وِجْهةٍ محدَّدة، الوحيدُ الذي يقف صامتًا هو أنا، أنظر بثباتٍ إلى عيون الجنود المرافقين، لم ترهبني بقعُ الدِّماءِ على سُتَرهم المرقَّطة، مازلتُ مُوقنا أنَّ عطيَّة يُمثِّلُ دوره، مُجرَّدُ تمثيلٍ، لا أكثر! وهو عُطيلُ البارعُ في تقمصِ دوره، بعد قليلٍ سينهضُ، يمتشقُ سيفَهُ، ويعطي شَارةَ البدءِ لأسطولِ البندقية؛ ليبحرَ نحو جزيرة قبرص، ثقتي به لا حدود لها، سينهضُ عندما ينتهي هذا الفصلُ من المسرحية؛ فينسحبُ الممثلون إلى الكواليس، ليغيِّروا ملابسَهم، وماكياجَ وجوهِهم، تمثيلٌ، إنَّه مُجرَّدُ تمثيلٍ!!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *