لطفية الدليمي.. تحاور أدباء لم تلتقِهم

لطفية الدليمي.. تحاور أدباء لم تلتقِهم

د. مياسة سلطان السويدي

أكاديمية وتشكيلية بحرينية

في رحلتي المتواضعة للتعرف على الكتب والكتّاب أطرق بابا فتفتح أبواب كثيرة، كتاب يأخذني إلى آخر وكاتب يدلني على كتابه المفضلين، لتستمر عملية القراءة والتعلم إلى ما لا نهاية، يضيق الوقت وتطول قائمة الكتب التي تنتظر دورها في طابور يمتد، يتقدم كتاب ويتأخر كتاب آخر وفقا للظروف والمزاج والحظ، ويعبرني تساؤل: كيف يمكننا ترتيب قراءاتنا، وكيف نحصل على المتعة الأعمق مما نقرأ، كيف يصبح كاتب ما مفضلا وكأنه صديق قريب نتعرف على شخصيته وأسلوبه الذي يحمل ملامح من سيرته الذاتية، فنميز بصمته ومفرداته وتجاربه من فرط استغراقنا في كتاباته.
تستمرعملية القراءة من دون توقف، فعالم الكتب واسع جدا لا نكتفي منه ابدا، وها أنا أختار كاتبة تلامس سطورها قلبي وهي الكاتبة والمترجمة العراقية لطفية الدليمي، استوقفني أسلوبها في مقدمة أحد الكتب التي قامت بترجمتها وأحسست لوهلة بأني أعرف تلك الروح التي تطل بين الصفحات وحرصت على اقتناء كتبها التي ما زلت تنتظر في مكتبتي، واستعنت بصديقنا غوغل للتعرف عليها أكثر، ووجدتها تبتسم هناك في إحدى الصور تلك الروائية والمترجمة البارعة التي تشكل اضاءة لافتة في المشهد الابداعي العربي عموما، والعراقي على وجه الخصوص.

  الأنثى ومكابدة الوحدة

بدأت معها بقراءة مذكرات الآنسة ميم في كتاب بعنوان «عالم النساء الوحيدات»، وهي مجموعة قصصية تمت ترجمتها إلى اللغة الصينية، في محاولتها لإعادة الاعتبار للصوت الأنثوي بداخل المرأة، مكابدة الوحدة، وصفت بدقة حالة غياب الوعي وحالة الفقد التي تعانيها النساء في الحروب. تنقلت بخفة بين الشخصيات النسوية لتصف مشاعرهن الدقيقة التي تخالج أعماقهن، وقدمت معالجة مختلفة في كل قصة مع الاشارة إلى ضرورة التمسك بالأمل، وصفت رائحة غرف النساء الوحيدات التي لا تميزها سوى النساء وغاصت في عمق أحزانهن، كنت أتوقف عن القراءة بين قصة وأخرى لأسترجع أنفاسي من شدة الألم القابع بين السطور لهؤلاء النساء الوحيدات.

حوارات متخيلة

وفي كتاب آخر للكاتبة الدليمي بعنوان: كتاب المناجيات، التوق إلى مملكة الروائيين العظام، وهو كتاب من ثلاثة أقسام بصيغة حوارات افتراضية متخيلة أسمتها الكاتبة مناجيات جمعت كلاً من «نيكوس كازنتزاكيس ـ هيرمان هيسه ـ غابرييل ماركيز». في كل حوار تصل إلى أرواحهم الجميلة، ويصبح القارئ ضيفا في حوار ثقافي وروحي مرهف يصل إلى القلب مباشرة من دون تكلف، ومن فرط صدق تلك الفصول تكاد تصدق أن الحوار حقيقي مع تلك القامات الأدبية، يتحدثون بإسهاب عن عالمهم الخاص وأسرار أرواحهم، عن الصراع والتمرد اللذين سكنا قلوبهم ورحلة البحث عن الذات.

كازانتزاكيس وسر الحياة

تبدأ المناجيات مع العملاق الاغريقي نيكوس كازانتزاكيس، فتكتب عن عبارته الساحرة التي كانت مفتاح سر حياته وكفاحه «توصل إلى ما لا تستطيعه»، وتدعو إلى مواصلة السعي على مدى العمر البشري القصير لإنجاز صيرورتك الإنسانية، حيث يدعو إلى التحرر من قيود الزمان والمكان ويوصي بالوعي والحرية والبحث عن الذات المستفيقة للفوز بالروح الحرة.

كانت تلك المرة الأولى التي أتعرف من خلالها على كازانتزاكيس بعد رواية زوربا، الكاتب الذي يعشق الحياة والأرض والإنسان، ويصف الحرية بأنها ثمرة الإدراك الإنساني الأشد نبلا، ويعترضني تساؤل بداخلي وفي عمق الحوار: هل يكفي العمر لأقرأ لكل هؤلاء؟

تكتب الدليمي على لسان كازانتزاكيس: «هدف الحياة هو الخلود، لكن الحياة ذاتها تبقى مصدر دهشتنا، فهي تبدو مقاومة لكل قانون ومضادة للطبيعة، وأنها بلا بداية كالموت، وأن كل ما حولنا هو من ابتداع أذهاننا، فكل ما نراه ونسمعه ونتذوقه ونلمسه هو من ابتداع أذهاننا، فالشمس تشرق في رأسي، والنجوم تشع في دماغي مع الأفكار وتملؤني الأغاني والنحيب، وعلينا أن نميز هذه الحقائق الإنسانية».

تتساءل وهي تحادثه: كيف ترى الابداع جنونا أيها الكريتي المقاتل؟ نسبة إلى جزيرة كريت، أليس الابداع دائما فقدانا للتوازن من أجل انجاز توازن أكثر سموا؟ فيجيب افتراضيا: حقا إن الابداع الحقيقي هو فعل جنون، وألا قيمة للقلق، فكل ما نفعله بالقلق هو افساد حاضرنا، وأن القلب هو وسيلتنا لمعرفة أنفسنا والعالم، فثمة صوت في أعماقنا يقاوم ويصرخ للتحرر من الحدود والعوائق، إنه القوة السادسة.

الذئب والتسوية في حياة هيسه

وفي القسم الثاني من الكتاب تبدأ مناجياتها مع هيرمان هيسه الذي يقول: حين تحتاج إلى شيء ما حاجة ماسة ثم تجده، فهذه ليست مصادفة، إنها رغبتك الملحة واندفاعك الحار هما اللذان يقودانك إليه، ويبث الحماس في دواخلنا حين نقرأ كلماته «عليك أن تجرب المستحيل لتصل إلى الممكن»، ويثير عجبك بقوله «إذا كنت تكره شخصا ما، فأنت تكره شيئا ما بداخلك تجده فيك، فما ليس بداخلنا لا يزعجنا»، ملمحا إلى قانون الانعكاس الذي يعتبر أحد قوانين السنن الكونية.

هيرمان هيسه المنغمر في عزلة محكمة يبحث في أسرار الروح والسحر والموسيقى، شديد الحياء، يفتقر إلى الود والألفة، يمزج بين سيرته الذاتية وسير أبطال الروايات، يتحدث عن الواقع، فيصفه بأنه مضجرعلى نحو مريع، وينبغي على الإنسان تحت أي ظرف ألا يرتضي بالواقع ولا يستسلم له ولا يخشاه، لأن الواقع أمر عرضي يتكون من فضلات الحياة، ولا بد من رفضه لنبرهن له أننا أقوى منه.

خاصمه الأصدقاء والقراء واتهمته الصحف بالخيانة لأنه عارض الحرب، رفض صيغة التعليم المدرسية، وعانى من هجمة العتمة على روحه، فغدت جميع المتع زائفة، واضطرب وأصابه القلق، يرى في وجود حالة تشابك بين الذئب والإنسان في داخل الذات الإنسانية، وأن معظم المفكرين والمبدعين والفنانين ينتمون إلى النمط نفسه حين يعيشون أحيانا لحظات من السعادة النادرة باندفاع هائل وجمال عصي على الوصف ليلامس بريق سعادتهم الآخرين بسحره فتولد الأعمال الفنية، ليشق الأقوى بينهم سبيلهم في العالم البرجوازي، ويبلغون الكون اللامتناهي، بينما الضعفاء يتكيفون مع المجتمع ويخضعون لشروطه ويتقبلون التسويات المهينة.

ويستطرد في وصف ذئب البراري حين يرتاب من العالم ويرتاب من المفكرين، لأن الإنسان والذئب سيضطر كل منهما إلى التعرف على الآخر من دون أقنعة المشاعر الزائفة، وسوف يتواجهان، فإما أن ينفجر الوضع بينهما فيفترقان نهائيا ويختفي الذئب إلى الأبد، وإما يتوصلان إلى تسوية وتفاهم على ضوء السخرية والفكاهة.

الجدير بالذكر أن هيسه أراد أن يكون للعبته الذهنية «لعبة الكريات الزجاجية» شكلها اللامسبوق، حيث تخلو من الحبكة الروائية، بل اتخذت شكلا مقتبسا من التناسخ في الفلسفة الهندية، فأثارت الحيرة بتسميتها بالرواية، مفسرا أن مفردة الرواية في معظم اللغات الاوروبية القديمة تعني «اللاشكل»، فهي رواية ترد على عصر الحروب وعصر الخراب الروحي والثقافي، وهي كتاب فلسفة ورياضيات وثقافة وتأريخ وحكمة، بالاضافة إلى أنها كتاب عن عظمة الموسيقى.

الأمان والزهرة الصفراء في حياة ماركيز

وفي القسم الثالث والأخير من مناجيات الكاتبة، كان مع الكاتب اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز، تشير إلى رمز الأمان وزهرته الصفراء التي يزين بها عروة سترته ونصيحته لها: «خذي الحياة وانجي بنفسك وأحلامك، فنحن قد لا نبلغ البحر ولكن لن نعود إلى الوراء»، يناجيها معترفا بأن انجازه الأدبي الأهم هو «خريف البطريرك»، وأن نجاح روايته «مئة عام من العزلة» لم يكن عادلا، وأن الشهرة دمرت حياته لأنها تؤدي إلى اضطراب الاحساس بالواقع مثلما تفعل السلطة.

لماذا هؤلاء الثلاثة؟

التساؤل الذي فرض نفسه: ما سبب اختيار الكاتبة لهؤلاء الكتاب الثلاثة تحديدا من دون غيرهم، هل هي الأمور المشتركة بينهم التي كانت تتجلى شيئا فشيئا مع قراءة هذا الكتاب، مثال بحثهم عن الروح والذات والحرية والتمرد والحروب التي خاضوها، وهل يعد ترشيحهم لجائزة نوبل في الآداب أحد الأسباب التي جعلت الدليمي تجمعهم في كتاب واحد، حيث حصل كل من ماركيز 1982 وهيسه 1946 على جائزة نوبل للآداب، لكن نيكوس كازانتزاكيس الذي ترشح للجائزة عام 1956 وفاز بها آلبير كامو بفارق صوت واحد، أم اشتراكهم في حب الأشجار وتبجيلهم لها وهي تقف بشموخ وحدها كما وصفتها في الكتاب، حيث تشبه العظماء الذين اختاروا العزلة أمثال بتهوفن ونيتشه أو كما قال هيرمان هيسه: أحب الأشجار تواصل حفيفها مع كل غروب من دون أن تطرح الاسئلة، بينما نقف نحن محتارين أمام أفكارنا الحمقاء، لا بد أن قراءة الدليمي لهؤلاء الكتاب بعمق أهلها لاستنطاقهم للبوح بأسرار ابداعهم في حوارهم معها بعنوانها الملفت مناجيات.

نغني رغم أنه لا وجود لمن يسمعنا

ذكرت الدليمي في كتابها أنها تعلمت من مناجياتها مع كازانتزاكيس ألا تؤمن بالحدود، نحن نغني رغم أنه لا وجود لمن يسمعنا، ولا أحد يدفع أجورنا، نكتب لأنفسنا، ولا نعمل للآخرين، نحن أسياد بساتين العالم، البستان ملكنا، أنا التي نشأت في البساتين الشاسعة وعند ضفاف الأنهار العظيمة وبين أذرع النخيل وشجر التين ووهج البرتقال وأشذاء الورد وعبق الريش المبلول للبلابل والحمائم. وتحدثت في لقاء لها أن الكتابة تزودها بأجنحة ومفاتيح سحرية لعوالم موازية، وكتابة الرواية تحديدا تفتح لها مسارا مضيئا في الزمن وتشحنها بقوى خفية وتضاعف تذوقها للحياة وتزدهر روحها وأحلامها.

ولأني اجمع الكتب في رفوف مكتبتي باسم الكاتب خصوصا حين يكون غزير الانتاج مثل لطفية الدليمي، فاصطفت كتبها بشموخ مثل «الروايات التي أحب» «قوة الكلمات» «ممر إلى أحزان الرجال» «موسيقى صوفية» «حديقة حياة» «بذور النار» «مدني وأهوائي: جولات في مدن العالم» لأتورط من جديد مع هذه الكاتبة البارعة في كتابها الأخير «كاليدوسكوب» الذي يتحدث عن الإنسان والعالم من منظورات متعددة، لأكون مع موعد متجدد مع كاتبتي المفضلة التي أصبح وجود اسمها على غلاف أي كتاب سببا كافيا لاقتنائه من دون تردد.

مسيرة حافلة

لطفية الدليمي صحافية وكاتبة سرد عراقية تكتب بلغة ممزوجة بالخيال الواقعي، ولدت في ٧ آذار١٩٣٩، ساهمت القراءة في عمرها المبكر في تنمية موهبتها في الكتابة، حيث كانت ترسم القصص المصورة في دفاترها المدرسية، تخصصت في آداب اللغة العربية، وعملت في مجال التدريس ومحررة للقصة في مجلة الطليعة الأدبية، كتبت على مدى سنوات في الصحف العراقية ونشرت الكثير من القصص والمقالات والروايات التي ترجمت إلى الكثير من اللغات، كما عملت مديرة تحرير مجلة الثقافة الأجنبية العراقية.

مسيرتها الابداعية غنية وقد فازت عام 2016 بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة في فرع «الرحلة المعاصرة» التي يمنحها «المركز العربي للأدب الجغرافي» سنويا تحت مظلة «دارة السويدي الثقافية» عن كتابها «مدني وأهوائي: جولات في مدن العالم». كرست حياتها للقراءة والتأليف والترجمة، فقد عشقت اللغة الانكليزية وكانت ترجماتها الأولى للقصص والروايات واليوميات، بينما توجهت ترجماتها الحديثة إلى موضوعات مختلفة، مثل السير الذاتية والمذكرات والمصنفات الفلسفية والعملية إلى جانب الحواريات المعرفية ذات المضامين الفلسفية.

أسست مع عدد من المثقفات العراقيات منتدى المرأة الثقافي في بغداد، وفي فترة ما تفرغت الدليمي تفرغا كاملا للكتابة فقط، وذلك في حالة شبه «رهبنة» تامة، متخلية عن جميع أشكال العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الآخرين، باستثناء عدد محدود جدا، لم تعترضها أي معيقات ثقافية أو اجتماعية عبر مسيرتها الأدبية الطويلة، لكنها تعد من المدافعات عن حقوق المرأة، وقد ساعدتها بيئتها المتفتحة ثقافيا واجتماعيا لأنها اختارت التحدي الجريء والمواجهة للمطالبة بحقوق المرأة، على عكس كاتبات أخريات واجهن مصاعب كثيرة وحواجز اجتماعية وعائلية حالت دون ازدهارهن الابداعي.

* عن القبس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *