نافورةُ الــــــــــدَّم…. (قصة قصيرة)

(ثقافات)

نافورةُ الــــــــــدَّم

قصة قصيرة

الأديب السوري موسى رحوم عباس

السويد

        حشود لامثيل لها تزدحم أمام بوابة الكنيسة، لا أحد هنا يفوته قداس الأحد، ذلك الرجل العجوز يمسك بيد زوجته يحاول أن يسندها لتحتمل الزّحام، والشاب ذو البِزَّة السَّوداء والنظارة الرقيقة المذهبة الإطار، يقترب من الباب الحديدي الثقيل والموشَّى بالمنمنمات البديعة، وهو يخشْخشُ برزمة من المفاتيح، أظنه ينتظر الموعد المحدد لذلك؛ فكل شيء هنا يجري وفق طقوس ثابتة ودقيقة، في الوقت الذي انصرف فيه السَّائحون من الشرق الأقصى يصورون كلَّ شيء، وقبل الصورة يضبطون عدساتهم، وكأنهم يؤدون واجبا وطنيا غير قابلٍ للمساومة!

 الرَّجل الرخاميُّ ينتصب أمامي مباشرة، تغوص قدماه في الطين قليلا، لكنه يطلع كشجرة عميقة الجذور في تراب هذه الأرض، أقترب أكثر، أتحسس أنفه ووجهه، يبتسم لي بحزن، أبتسم له، ترى من أخبره أنني مثله حزين؟ على شفتيه بقايا جملة لم تكتمل، حديث ربما قطعته رصاصة، أو سهم! ضحكته العالقة على جانبي فمه لم تكتمل هي الأخرى، تُرى هل كان يتذكَّر وجه ابنه ذي السنتين، ذلك الطفل الشقي الذي لا يهدأ، ولماذا يميل بوجهه هكذا نحو الشَّرق، بالتأكيد كان بيته الذي ورثه عن أبيه القاضي في تلك البلدة الجنوبية التي يخترقها النَّهرُ، ويترك جزرا صغيرة تتخذها العصافير موئلا لها في موسم التزاوج، وتلتف أشجارها أجَمَة يختبئ خلفها عشاق مهووسون، يغنون ليلا، ويطلقون الرصاص على رؤوس بعضهم في الصَّباح، أصابعي تتقرَّى صدر الرجل الحجري الذي عاند الجاذبية، وشمخ أمامي كرُمْحٍ، هذه أضلاعه أتهجَّاها كقصيدة ممنوعة، بينها بقايا أغنية قديمة، صوت نشيج وحشي، يتردد مثل صدى بين جبلين، قلبه مازال ينبض، كيف يكون نابضا في جوف هذه الصخرة؟ أنظر إلى أصابعي تقطر دمًا، أتلفت حولي، الحشود قد هدأت تماما، العِظَة ابتدأتْ، ورائحة البخور تعبق في الممرات شبه المظلمة، صوت الواعظ يتهدَّج ولا يستقرُّ على حال، يضعف حتى تكاد لا تسمعه، يصرخ حتى تمتلئ منه رعبا، الدم ما يزال يشخبُ من بين أصابعي، ابتسامة الرجل الرخاميِّ ما تزال هي الأخرى غير مكتملة، اقتربتُ منه أكثر، كأنني سمعته يسألني: من أخبركم أنني قديسٌ؟ من وصفني بالبطل القومي؟ من كتب في دفاتره قصيدة تمجدني؟ من قال أنني دافعت عن تراب الوطن، من يموت من أجل تراب؟ كان الدم يتحول إلى نافورة بين يدي، والابتسامة تتحول إلى غضب مكتوم، يتحول الصوت إلى شيء يشبه الهمس، كان لدي قصيدتي الخاصة، كنت أسافر بين متنها والهامش، جوليانا صديقتي تنتظرني، تلك المرأة التي تشبه زهرة عبَّاد الشَّمس، تشرئِبُّ بعنقها نحوي حيثما كنت، لست بطلا، مجرد عاشق يغني لعيني جوليانا، كنت أغني لعينين تشبهان البحيرة، والريح تعزف لحنها، بينما كان الواعظ يقول: أيها المؤمنون اعلموا أنَّ الويل والثبور لمن يتخلف عن أمر الملك، وخائن للوطن من لا يسكب روحه في بئره، والملك يقول من يعصي العِظَة ولا يعمل بها جهنَّم ستكون رداء له، الدم مازال ينبجس من بين يدي، والبخور يتصاعد في الرواق شبه المظلم، أشباح وظلال تتكون على الجدران المقابلة، أيد ترتفع، وأخرى تهبط في حركة بندولية لا تني وقوفا، مسرح الظل مكتمل، حرب قائمة تشكلها الظلال، تنتقل أشباحها من جدار إلى آخر، الحشود ما زالت مستكينة كأنها جثة هامدة، غيمة البخور تمحو تفاصيل الوجوه، لا عيون لهذه الوجوه، هياكل عظمية متكومة على المقاعد الخشبية العتيقة، بيتُ الرَّبِّ الذي يديره الواعظ يمنحهم السَّكينة حدَّ الصمت، والخوف حدَّ الارتجاف، والرجل الحجري يشفُّ حتى يغدو خواءً تسكنه عاصفة، أقتربُ أكثر، أتداخلُ مع الحجر الذي صار خواءً، أتقرَّى أضلاعي، أضلاعه، قلبي مازال ينبض في القفص الرخامي البارد، أثبِّتُ قدمي في طين الكنيسة، تشخص عيناي إلى جهة الشَّرق.

 بيتي الذي ورثته مازال هناك، ولا تزال الابتسامة غير مكتملة، والعشاق المهووسون يرقصون ليلا، ويطلقون الرَّصاص على رؤوس بعضهم نهارا، وكأنِّي بالرُّجل الحجري يديرُ ظهره للحشود وللواعظ، يداري دمعتين تطفران من عينيه الحجريتين، ونشيجي ما زال مكتوما، كقصيدة غير مكتملة!

خذ ترابك، وأشجارك، ونهرك حيثُ تكونُ القصائدُ ممكنةً، وحيثُ يمكنكَ الغناء، وحيثُ لا يصيرُ الرِّجال أحجارًا بنصف ابتسامة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *