-
جليلة الطريطر: أدب الذات العربي ينتعش في الأزمات
-
حوار : أنيس الشعبوني
منذ التسعينيّات، تخصّصت الأكاديمية جليلة الطريطر (1959) في أدب الذات، وانهمكت بنقد الكتابات الذاتية في الثقافة العربيّة. كان هذا النوع من الدراسات يشهد بدايات نظريّاته النقديّة، ولا سيّما في فرنسا مع فيليب لوجون. أنجزت الباحثة التونسية أطروحتها «مقوّمات السيرة الذاتيّة في الأدب العربيّ الحديث ـــ بحث في المرجعيّات». عمل نظري وتطبيقي ضخم كان تأسيسياً في مجاله خصّصته للكشف عن الأعلام المؤسّسين في العصر الحديث للسيرة الذاتيّة، مثلما قدّمت فيه أهم نظريات هذا النوع من الكتابة وعرّبت مصطلحاته وناقشت منهجياته. على مدى ثلاثة عقود، أصدرت طريطر مجموعة من الأعمال البارزة منها: «رجع الأصداء في نقد وتحليل أصداء السيرة الذاتيّة لنجيب محفوظ» (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ـــ 1997)، و«أدب البورتريه» (الانتشار العربي ـــ 2011)، و«مرائي النساء: دراسات في كتابات الذات النسائيّة العربيّة» (التونسية للكتاب ــــ 2021)، إلى جانب نشرها دراسات نقديّة في الموضوع نفسه في مجلات وحوليات محكّمة باللغتين العربية والفرنسية. إلى جانب ذلك، تولّت الكثير من الترجمات من بينها «اليوميات الخاصة» لبياتريس ديدييه (معهد تونس للترجمة، 2021). ولعلّ كتابها الأحدث «مرائي النساء ــــ دراسات في كتابات الذات النسائية العربية» (الدار التونسية للكتاب) من الدراسات القليلة التي تناولت أدب الذات عند الكاتبات العربيات، هنا حوار معها حوله:
ــــ الكتابات الذاتية تمثّل اليوم حقلاً نظرياً خصباً في المعرفة النّقدية العالمية الحديثة، بل أصبحت تحتلّ، نقدياً، مركز الصّدارة اليوم، وإن كانت لم تتبلور بالقدر الكافي إلا بداية من السبعينيات. وهي ليست منحصرة في السيرة الذاتية التي اعتبر مؤسّسها الريادي روسو في كتابه «الاعترافات»، بل تشمل أشكالاً عريقة مثل المذكّرات، والكتابات الرّحلية، واليوميات والرسائل الخاصة، والبورتريه الذاتي وما شابه. والأشكال الأخيرة ممثّلة بجميع أطيافها في الثقافة العربية في مختلف حقبها. يمكن أن نذكر في هذا الصدد «الاعتبار» لأسامة ابن منقذ، و«التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً» في العصر الوسيط. لكن السيرة الذاتية حديثة جداً، ومؤسّسها هو طه حسين في «الأيام». النصوص العربية غزيرة وجيدة بكلّ المقاييس، ولكنها لم تحظ إلى اليوم بالعناية البحثية التي تستحقها مثل فهرسة النصوص ضمن تصنيفات أجناسية دقيقة، ودراستها دراسات نقدية مختصّة، وهو لا يمكن أن يكون عملاً فردياً رغم أني أستطيع القول إني هيّأت مستنداته الكبرى لمن سيختار هذا الطريق.
نشهد رغم ذلك بدايات تحسّس واهتمام بهذه الكتابات متمركزة في المغرب العربي وأقصد تونس والمغرب خاصة. كذلك تشهد المملكة العربية السعودية اهتماماً ملموساً بها. أهمية هذه الكتابات عظيمة، لأني أعتبرها حمّالة الذاكرة التاريخية العربية خارج حدود التأريخ الرسمي، مثلما هي مركزية في دراسة قضايا الهوية في الثقافة العربية، ذلك أنها تكشف عن تفاعلات الإنسان الفرد مع معطيات عصره وأفقه التاريخي وقضايا انتمائه الثقافي والوجودي إلى عالمه المجتمعي المعقّد. وأعتقد أننا نعيش في العالم العربي اليوم عصر ازدهار هذه الكتابات بامتياز، لأنها كتابات تنتعش في أزمنة الاضطرابات والأزمات والحروب، وهو ما يتخبّط فيه العالم العربي. ففي تونس مثلاً، الأزمة السياسيّة الراهنة أصبحت تعبّر عن ذاتها في أشكال ذاتية متنوعة وغزيرة. حتى إنّ الرواية أصبحت تقريباً في الأغلب رواية سير ذاتية، وهو أمر لا يعود إلى هامش الحرية التي أصبح يتمتّع بها الفرد والمؤلّف بقدر ما يعود إلى فقدان التوازنات القديمة والبحث عن البدائل، ودخول وسائل التواصل الاجتماعي على الخط، بما أشعر الفرد بكونه قوّة فعل واقتراح وتأثير لم تكن متاحة قبلاً. نحن نعيش بامتياز نقلة نوعيّة في مستوى تملّك الفرد لأدوات التعبير عن ذاتيّته، بما هي مؤشّر على تحوّل في مستوى علاقات السلطة وممارستها اجتماعياً وسياسياً.
ما هي أبرز محطّات مشروعك النقدي لأنك حريصة على الحديث عن مشروع لا عن مراكمة كتابات أو كتب؟ وماذا أضفت في هذا الصدد؟
ــــ فعلاً، أنا دائماً حريصة على متابعة مشروع مترابط عضوياً في ما أكتب. وعندما أقول مشروعاً، أقصد موضوعاً موحداً في نطاق مجال محدّد هو كتابات الذات. وهو شرط أولي يقتضي الاشتغال بفرضيّة منهجيّة ويتسلّح باستراتيجيات عمل، ويرمي إلى أهداف، فضلاً عن كونه يتبلور مرحليّاً من خلال تحقيق تراكمات وظيفيّة ومترابطة تدريجاً.
بالنسبة إليّ، رسالة الدكتوراه «مقوّمات السيرة الذاتية»، هي عمدة أشغالي لأني اكتشفت فيها هذا الحقل النقدي الجديد، معوّلةً على مجهودي الشخصي. إذ لم يكن هناك متخصّص في المجال يمكنه الإشراف على أشغالي. هذا المنجز اقتضى مني جهداً كبيراً بدأته بقراءة أمّهات المؤلفات الأدبية والنقدية الفرنسية لأني مؤمنة بأن النظريات النقدية مشترك معرفي ولكنّها ثقافية أيضاً. لذلك، اعتنيت بتعريب المصطلحات وتقديم المقاربات المتاحة ومناقشتها في ظل قراءة تداولية تولي الاهتمام الأول للاختلافات السياقية والثقافية، وهو ما جعلني أبتعد أشواطاً عن المقاربات السردية للسيرة الذاتية، واقترح تفعيلاً للأبعاد المرجعية والتاريخية التوثيقية للسيرة الذاتية باعتبارها كتابة مثل غيرها من كتابات الذات تُعنى بطرح قضية الهوية الفردية في مختلف تجلّياتها أو تقاطعاتها وانزياحاتها عن الذاكرة الجمعية. كانت تلك هي فرضيتي المنهجية التي أفرزت توظيف مقولة الهوية السردية في كتابات الذات للمرة الأولى. وقد اضطر لوجون بعد سنوات لتعديل منهجيّاته معترفاً تصريحاً بأنّ هذا التوجه المنهجي الجديد هو الأصوب. المهم أني واصلت الاشتغال بأشكال ذاتية أخرى معتمدة الخط المنهجي نفسه، فكتبت فضلاً عن مقالات عديدة وبحوث بالفرنسية والعربية، كتاباً في أدب البورتريه. من خلال «بورتريهات عراقية» لعبد المجيد الربيعي الذي أراده توثيقاً لذاكرة عراقية حطمتها الحرب، حاولت أن أكشف للقارئ العربي عن نظريّة البورتريه والبورتريه الذاتي بالأخص، ومنهجيات مقاربتها دوماً في إطار تفعيل ما أسمّيه بقوة المرجع في هذه الكتابات وضرورة إفساح المجال لتاريخ الذاكرة الفردية والشهادة الشخصية لفهم ما يحدث. فالتاريخ المذوّت يشهد اليوم موجة تردّ له الاعتبار في ما أصبح يعرف بالتاريخ على المدى القصير La microhistoire بما يفهم منه أن علمنة التاريخ فضلاً عن كونها تشهد اليوم مراجعات جدية، لا يمكنها أن تلغي أنماطاً أخرى لرواية التاريخ أدبياً لها مشروعيتها وإضافاتها الخاصة.
دأبت في استراتيجياتي المنهجية على توظيف تفاعل الحقول المعرفيّة في نقد الأدب. ولذلك سعيت إلى تفعيل بعض المقولات التاريخية والفلسفية التي أعتبرها ذات جدوى كبيرة في تطوير منهجيّات نقد كتابات الذات خصوصاً، وهو ما يلمس بوضوح في سائر إنتاجي النقدي. آخر كتبي هذه السنة كتابان: الأول في الترجمة ينخرط ضمن الجهود التي أقوم بها من أجل إغناء المكتبة العربية بأمهات النظريّات في درس كتابات الذات، وقد اخترت في هذا الصّدد بياتريس ديدييه في مؤلّفها الرائد Le journal intime عن منشورات PUF. ترجمت هذا الكتاب إلى العربيّة في نطاق نشاطي في «معهد تونس للترجمة» الذي أنتسب إلى عضويّة مجلسه العلميّ، فضلاً عن انتمائي إلى فرق عمله المهتمّة بتعريب المعاجم الكبرى. وقد ظهر منها هذه السنة «مختصر دائرة المعارف الإسلاميّة» المترجم من الإنكليزيّة إلى العربيّة، وسيصدر قريباً تعريب لمعجم «يونيفارساليس» الخاص بالأفكار والمفاهيم.
هذا التوجّه الترجمي جزء لا يتجزّأ من مشروعي البحثي لأنّه الرافد الذي أستكمل من خلاله اجتهاداتي في تعريب المصطلحات، وتمكين القارئ العربي من مرجعيّاتي القاعديّة في النقد الفرنسي خاصّة. لقد أصبح النقد اليوم عالمياً ولا مجال لتثمين المدوّنات العربيّة خارج أطر الخطاب النقدي العالمي وتوجّهاته المنهجيّة والاصطلاحيّة، فالخصوصيّات الثقافيّة لا تعني عدم الانخراط في المشترك المعرفيّ. أمّا الكتاب الثّاني، فهو «مرائي النّساء». هذا الكتاب جاء في حوالى 500 صفحة، وهو مجهود سنوات طويلة من البحث والتنقيب في تاريخ الذاكرة النسائية العربيّة الحديثة انطلاقاً من استقراء مدوّنات ذاتيّة متنوّعة.
لماذا توجّهت إلى كتابات المرأة العربيّة، هل تعتبرين جهودك نوعاً من الثّأر لإهمال تاريخ النساء عامّة؟ وكيف تنظرين إلى هذه الكتابات ذات التوجه النسوي التي تباينت في شأنها المواقف بين الرفض والتثمين؟
ــــ في الواقع، هذا الكتاب ليس ابن المصادفة، ولكنّه لبنة من مشروعي في تسلسله الزمني والبحثيّ، فضلاً عن كونه سيقدّم الإضافة في مجال استكمال المعرفة بواقع تاريخ الحركة الإصلاحيّة العربيّة الحديثة في مجالاتها المختلفة. أوّلاً، كان لا بدّ لنا من أن ندرس النصوص المتاحة والمعروفة المؤسّسة للسيرة الذاتيّة، وكانت طبعاً لأعلام احتلّوا مكانة كبرى من أمثال طه حسين، أحمد أمين، سلامة موسى، نعيمة وغيرهم. هذه النصوص ستمثّل منطلقاً وقاعدةً للفهم الخلافيّ لكتابات الذات النسائيّة. العكس لن يكون مجدياً. لقد تجلّت لي الخصوصيّات بأكثر وضوح، فالرائدات العربيّات منذ أواخر القرن التاسع عشر كنّ معنيّات بقضيّتهن وقضايا مجتمعاتهن، ولم ينتظرن تحريراً بالوصاية، بدءاً من عائشة التيموريّة ومروراً بملك حفني ناصف وهدى الشعراوي، ووردة اليازجي وغيرهنّ. كانت هنالك مدرسة عربيّة إصلاحيّة نسائية عالمة في طور التشكّل والتبلور بالتوازي مع مدرسة أعلام التنوير. لكن هذه الأخيرة حجبتها، بل حاولت استيعاب ممثّلاتها ضمن نسيجها الذكوري، وهو ما يفسّر هيمنة السلطة الذكوريّة على الثقافة وتمثيلاتها الرمزيّة.
المرأة العربيّة الكاتبة كانت تناضل من أجل التحرّر من هذه الهيمنة المادية والرمزيّة من خلال التعبير عن رفضها لهويّة الجندر التمييزية، وكانت في كتاباتها الذاتيّة تجعل من تاريخها الفرديّ قاعدةً نقديّة تؤسّس من خلالها لرؤية تحرّريّة تعمل على تغيير العقليّات والتمثيلات الجندريّة السائدة التي تفشل كلّ محاولات تحرير المرأة الإصلاحيّة إن هي بقيت على حالها. انكبّت النساء الكاتبات على كتابة ذاكرتهنّ من أجل منح الأنا الأنثوي مرئيّة اجتماعيّة وثقافيّة حقيقيّة، جعلته يبرز إلى العيان في قوّته الرمزيّة التمثيليّة للمرأة فاعلةً لا موضوعاً في الثقافة، مثلما يراد لها أن تكون.
اكتشفت أيضاً أنّ نساء النهضة العربيّة كوّن مدرسة نقديّة تزعّمت النقد الأدبيّ فيها. مي زيادة أعتبرها أوّل مؤسّسة في الثقافة العربيّة لنقد أدبيّ نسوي ضبطت بوضوح تامّ في نقدها السيري لنساء عصرها من الرائدات آلياته ومحدّداته الخلافيّة، وهو أمر لم يتمّ إبرازه مطلقاً لأنّ الثقافة الذكوريّة كانت تأبى الكشف عن هذا الوجه مكتفية بإبراز مي زيادة المرأة الجميلة التي استقطب صالونها أعلام عصرها. ويمكن اعتبار الناقدات العربيّات النسويّات امتداداً للخطّ الّذي دشّنته مي، ولا شكّ عندي أن الناقدات المرموقات اللاّتي خلفنها وعلى رأسهن يمنى العيد، هنّ دليل على أنّ للمرأة العربيّة كاتبة وناقدة تاريخاً ممتدّاً في الزمن وذاكرة رمزيّة لم يعد من المسموح به إغفالها أو التنكّر لها، ولا يكون ذلك إلاّ بتسليط أضواء نقديّة كاشفة على مدوّنات النساء الذاتيّة الّتي حمّلنها همومهنّ ومشاريعهنّ ورؤاهنّ.
لقد فعّلت في دراستي لكتابات الذات النسائيّة مقولة الجندر لأنّها الأداة المنهجيّة الأكثر تلاؤماً مع دراسة طبيعة علاقات السلطة بين الجنسين في المجتمع، والأكثر جدوى في تحليل مظاهر الصراع النسويّ ضدّ الهيمنة الذكوريّة التي وجدتها تحتلّ مركز الصدارة في الإنتاج الذاتيّ النّسائي العربيّ. وكلّ ذلك يمثّل في تصوّري وجهاً آخر من وجوه تفعيل قوّة المرجع في هذه الكتابات.
النسويّة العربيّة لها إذن ذاكرة وتاريخ يعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وليست ظاهرة هامشيّة، وفي هذا الصدد لا أعتبر أنّ رفض النسويّة أمر اختياريّ، لأنّ المرأة ارتطمت وما زالت إلى اليوم ترتطم بحواجز وحدود القيم المجتمعيّة الأبويّة الثاوية في عمق العقليّات لفرط رسوخها في الزمن. المرأة كاتبة تكتب دائماً إلى حدّ ما هامشيّتها المقنّنة صلب القيم والأعراف والسلوكات الاجتماعيّة، فهي من هذه الناحية تسعى بكتابتها إلى فضح وجوه اغترابها والبحث عن تأمين أسباب انعتاقها.
– كيف ترين واقع الدراسات الجندرية في الوطن العربي اليوم؟
الاهتمام بهذه المقولة في تزايد كبير ليس في مستوى دراسة الكتابات المختلفة من أدب وحضارة وغيرها بل وأيضاً في مستوى القيام بدراسات سوسيولوجية ميدانيّة يمكن توظيفها للنّهوض بوضعيّات النساء المهنيّة والقانونية وغيرها، فمؤسسة الكريديف (مركز البحوث والدراسات الإعلام حول المرأة) مثلاً في تونس تقوم بحهد كبير من أجل تغيير أوضاع النّساء التونسيّات من خلال تقديم دراسات من هذا النوع. ولكنّي أرى في المستوى الأوّل خاصّة أنّ الاعتراف بتفعيل هذه المقولة مازال يصطدم بعوائق أكاديميّة تشكّك في علميّته بل وتطعن فيه. وهذه المطاعن تأتي من أطراف عادة ليست متكوّنة أو مطّلعة في هذا المجال بل خاضعة لأفكار مسبقة، ولكن من جهة أخرى قد نجد من المتسرّعين من النقّاد المبتدئين من يساهم في تشويه المقولة من خلال سوء توظيفها وعدم الخروج من ذلك بنتائج جديدة وتحاليل معمّقة، وهو أمر استفحل اليوم في عديد الدراسات التي ترفع شعارات منهجيّة لا يسيطر عليها أصحابها بل تستعمل لديهم بمثابة لافتات إشهاريّة. أعتقد أنّ النقد العربي اليوم يشهد إنتاجاً لا يخلو من غزارة، لكنّه يطرح مشكليّة استدعاء المناهج الغربيّة وكيفيّات السيطرة على توظيفها من أجل إنتاج معرفة نقديّة جديرة بتقديم الإضافة الحقيقيّة.
- عن الأخبار اللبنانية