حكمت النوايسة في (شجر الأربعين: بين فقد الذي كان واشتهاء الذي لم يكن

(ثقافات)

حكمت النوايسة في (شجر الأربعين ) :

( بين فقد الذي كان واشتهاء الذي لم يكن )

* أحمد الكناني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منذ إهداء ديوانه ( شجر الأربعين ) : (( إلى سمية كلما اقتربت وابتعد التأويل )) يضعنا حكمت النوايسة في ضدية من شأنها أن تساهم في فهم ما يريد قوله، فالاقتراب من موضوع المعرفة يعني حتمية الوصول إلى المعرفة وبالتالي فلا ضرورة للتأويل ما دمنا قد ملكنا أن نعرف. وما يهمنا هنا هو اتجاه الخطاب في قصيدة النوايسة إلى المعرفة في وقت تذهب فيه نصوص مجايليه غالباً إلى الذات العارفة، ومن هنا فالقصيدة عند حكمت ذاهبة إلى الجوهر في حين تذهب معظم قصائد مجايليه إلى الأعراض كما أنها ناتج لمراقبة موضوع المعرفة من حيث ما فيه من شعرية أصيلة وليست ناتجاً لرأي العارف/ الرائي الذي يقولها دون أدنى رغبة في إعطائها فرصة البوح أو الإيحاء ، ولذا جاءت قصائد النوايسة مشحونة بالفكرة لا بزوائدها ولعل حكمت أحد الشعراء الذين ما زالوا يصرون على الإيمان بجدوى القصيدة فكرياً واجتماعياً وسياسياً في وقت ذهب فيه الكثيرون بالقصيدة إلى مهاترات الشكل بعيداً عن أهمية المضمون .

ولعل سعي النوايسة إلى استكناه الأشياء ومحاولة عبورها يؤكد ما ذهبنا إليه من إعلاء شأن الفكرة في عالمه الشعري ، فهي فكرة لا تستحق الذكر إلّا إذا حقّقت فعلها البنائيّ الذي قد يكون محاولة لإعلاء شأن الأمة التي تخلت ذواتها عن قيمها ودورها فصارت هي المشتهاة في عالم النوايسة الشعري الذي يتأسس بين فقدَين هائلين ومؤثرَين وعاملَين بنشاط على مستوى فردي وعام : فقْد الذي كان وما كان ينبغي أن يُفقد ، وفقد الذي لم يكن ويٌشتهى أن يوجَد . وما بين هذين الفقدَين تقع قصيدة حكمت دائماً .

ومن هنا يبدو حكمت قارئاً مدهشاً لخزانة التاريخ لعلّه يخرج بتعويض مقنع عن( فقْد الذي كان ) فتراه موجوداً هناك يحلم بالتغيير رغم قلة الحواريّين وصعوبة الحلم ، وهذا ما يسوّغ اجتهاد الشاعر وفاعليته لتعبئة هذا الفقد وتأثيث هذا الخواء بقصائده .

ففي قصيدة ( الجوديّ في عين القصيدة ) والتي تنبني على تبشير بالتغيير وإمكانية لحدوث المُشتهى في سياق حلميّ يتكئ على رؤيا قائمة على حسن توظيف النصّ التاريخي ( الأثر ) – وهو هنا قصة نوح – في هذه القصيدة يتلاقى خطاب النصّ الأثر وخطاب النصّ المتأثّر / القصيدة ويعملان معاً في إنتاج القصيدة ، فالنوايسة يأخذ من خطاب الأثر ما يؤيّد نظرته الثاقبة في قراءة الواقع الحالي ويجعله بمثابة التوصيف الذي ينطلق منه إلى غاية النصّ المنتَج / القصيدة التي لا تختلف عن غاية الأثر من حيث اشتهاء كليهما إلى التغيير والسعي إلى إحداثه . وهكذا فالقصيدة تمثّل خلاصاً لواقع غير مرغوب فيه مثلما تمثّل رؤيا حدسيّة لشاعر يستعين بعين قصيدته لرؤية الخلاص ، في حين كان الخلاص في النصّ الأثر لا يمثّل رؤيا قائمة على الحدوس ، بل إنها يقين ناتج عن امتثال لمشيئة فاعلة لا شكّ في فعلها . إنّ الربط بين الخلاص في النصّين يعطي للنصّ المتأثّر مكانة متعالية تتأتى من كون الخلاص فيه قائماً على الحدس الذي ينبئ عن مقدرة عالية في قراءة السائد ، يقول الشاعر :

(( هي ذي فراشاتي أطيرّها على زهر اليقين

تجيئني النسمات هادئة

وأحمل ريشتي للحقل ، تحسدني الخلائق

أرسم المجداف والمرساة في دعةٍ

تمرّ بي الخلائق يبسمون وأبتسم

عتبٌ يحيّر ريشتي شيئاً

عيناك تبحث عنك في فلكي

وتبسم إذ ترى الجوديّ في عين القصيدة

فوقه الشمس الضّحوك ))

ولعلّ رغبة الفراشات الفطرية بالمعرفة مدعومة هنا بيقين الشاعر، مثلما توحي التراكيب المستعارة من معجم الهدوء ( أرسم- في دعة- يبسمون – أبتسم ) بتأمل قائم على تيقظ وانتباه بشكل يضمن رؤية

( الجودي ) يقيناً ، بل إن الرؤية قد ضمّنت بمحّدد لفظي هو وجود ( فوقه الشمس الضحوك )

وهذا يعطي للجودي الذي يحدس الشاعر بوجوده وجوداً حقيقياً وفعلياً .

ومثل هذا يفعل النوايسة في قصيدة ( صديقي النبطيّ أنا ) حين يصبح المنتَج الذي أنتجه النبطيّ ليستقرّ أصلاً مهدّداً بالمحو والضياع تماماً كقصيدة الشاعر التي تحلم بالخلود ويسعى الكثيرون لإسقاطها في الزائل ، ومن هنا كان هذا التلاقي إلى درجة التماهي بين خطاب النبطيّ الذي أحسن النوايسة قراءته عبر منتجه البتراء وبين خطاب الشاعر/ القصيدة، وهذا ما يسوّغ التركيز على عذابات النبطيّ بشكل يكاد يحيّد عذابات الشاعر انطلاقاً من أنّ التلقّي المفترَض لكلا المنتجَين ( البتراء والقصيدة ) لم يحدث أو لنقل لم يتحقّق بالدرجة التي يحلم بها النبطيّ / الشاعر .

يقول الشاعر :

(( صديقي ، يحبّ الطّبيعة ، لكنّها روّعته

بحرباء أثوابها

فمضى تاركاً نارها في هشيم الحياة.

صديقي، جريءٌ

ولكنها دورة

للزوابع

ترفع أيّ الخفاف الأخفّ

كانت أنامله معولاً

ثقلَت فاستقرّ

يخطّ على حجر ظلّه السرمديّ

صديقي ، جميل ولكن في يده

النبطيّة قسوة إزميله

إذ يشكّل من حجرٍ معبداً للجمال ))

ولعلنا نلاحظ هنا مقدار حضور النبطي على حساب غياب الشاعر ، وهو حضور مقصود بل إنه في صالح بناء قصيدة النوايسة التي تسعى إلى تخليد إنسانية النبطي بنفس الدرجة التي تم فيها تخليد منتجه

( البتراء ) مثلما تسعى ضمنياً إلى تخليد إنسانية الشاعر عبر تخليدها لنصّه وعبر تخليدها للنبطيّ ، وهذا ما انتبه إليه النوايسة حين بدأ يتحدث عن نفسه كمشترك لغوياً – وليس ضمنياً – مع النبطيّ :

(( صديقي وفيّ

يقاسمني وقفتي في المدائن

أسأل عني حروفي التي

هدّها الارتحال

صديقي يقاسمني الانشغال

بتشكيل قافية

لا تخرّ الأغاني إذا لكزتها الزوابع

لكنها تستقرّ ))

ولعلّ التماهي بين النبطيّ و الشاعر قد وصل إلى درجة عالية من خلال وصف منتج الشاعر بأوصاف من معجم منتج النبطيّ كقوله ( حروفي التي هدّها الارتحال ) وكأن الحروف بناء يُهَدّ وقوله ( قافية لا تخرّ الأغاني إذا لكزتها الزوابع ) وكأن الحروف تتعرض كالبناء لعوامل التعرية ، ومثل هذا يمارسه النوايسة عكسياً حين يقول :

(( كان ينقش أعشاشها

في الصخور حروفاً

ويغري اشتهاءاتها بالمكان))

فقد أسند إلى النبطيّ عملاً من أعمال الشاعر وهو الكتابة ، بل إن قمة التماهي بينهما تحدث في نهاية النصّ حين يتبادل الشاعر مع النبطيّ الأدوار وكأنّ الشاعر يرى في السعي إلى الخلود مطلباً إنسانياً وغاية وجوديّة وإن كان بأدوات مختلفة :

(( رأيت سماءً تكركر بالغيم

ثمّ سحبتُ يدي

فإذا حجرٌ يتدحرج منها

فأنفذْتُهُ نظرةً

وإذا بالرخام يرجعُ وجهَ صديقي ))

وقد كانت النظرة النافذة التي وجّهها النوايسة إلى موروث الأجداد سبباً في ولادة نصّ أخّاذ ، مثلما كان الوعي بالقديم شرفة أطلّ من خلالها إلى وعي جديد تبثّه القصيدة ، ومن هنا فقد تماهى منتج النبطيّ ومنتج الشاعر بشكل أعطى الوجود بل والخلود لكليهما ، ومن هنا أيضاً فالشاعر يتابع دور أسلافه البناة في اتجاه مغاير شكلاً ولكنه مؤتلف مضموناً وغايةً ، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال وعي عميق لدى النوايسة في البناء على حضارة مستقرة ثابتة ليضمن لمشروعه/قصيدته البقاء الذي ضمنته الصخور للنبطيّ ، وبناء على ما مضى فإننا نسجل للشاعر إيمانه المدهش بإمكانية التواصل وتحقّقه بين خطاب الأثر ( قصة نوح ، البتراء ) وخطاب المتأثر ( قصيدة الجودي في عين القصيدة ، قصيدة صديقي النبطيّ أنا ) بل وإثبات هذا التحقق في التواصل بشكل يظهر حرصه على قول التجربة الإنسانية بإيمان لا يذهب إلى عزل الخطاب السائد عن سياقه التاريخي وكأن الذات هنا قد حملَت ذوات أسلافها فاستحقّت هذا الحضور الذي لا يتأتى إلا لذات واعية تحسن الحفر في المستقر لتبني على خلفية وعي تفضي بالضرورة إلى وعي جديد .

وهكذا فإن النوايسة يبدو صاحب نزعة إلى افتراض ثبات مستقر يجعله فيما بعد مركزاً لينطلق منه في بناء القصيدة ذات القدرة العالية على النفاذ عبر هذا الثبات ، فكما رأينا كان الأثر في قصة نوح هو الثبات الذي انطلقت من رحمه قصيدة ( الجودي في عين القصيدة ) في حين كانت البتراء منتَج النبطيّ العصيّ على المحو منطلَقاً لبناء قصيدة ( صديقي النبطيّ أنا ) ، وسوف نلاحظ هذه النزعة عند تحليلنا لقصيدة ( رعوية مبررَة ) التي تتخذ من قصائد أخرى مثل ( بوصلة الشيح ) و ( يدي الآن أم دخان القرن ) بمثابة ثوابت أنتجت رؤيا ( الرعويّة ) ، بل إنّ ( يدي أم دخان القرن ) هي الثبات المستقرّ المرفوض الذي أفضى إلى رغبة النوايسة بالنزوع إلى ( الرعوية ) وبرّرَ لها كما سيتضح لاحقاً ، مثلما كانت ( بوصلة الشيح ) بما فيها من وعي بحالة المدينة وخساراتها تعني الخروج على أفق الخسارات وموطنها إلى آفاق رحبة وجغرافيا مختلفة فكانت بمثابة التأسيس الذي قاد إلى ( الرعوية ) وبرّر الاشتياق العالي إليها عند الشاعر .

ولعل ما يلفت الانتباه في قصيدة ( بوصلة الشيح ) ذلك الوصف عالي الوتيرة لجوانية المدينة التي تقوم على المحو وعدم الاستقرار في مقابل وصف منخفض الوتيرة يأتي على شكل استعادة للبداوة / البادية حيث الشعور بالثبات والرغبة في حراسة السائد – الذي أثبت جدواه – هي التي قادت على كل هذا الفقد الذي لا يعني هنا الاكتفاء باجترار الذكرى بل إنه كما سنرى فعل تحريضيّ على الحياة .

ولعلنا نخلص من قراءتنا لبوصلة الشيح إلى خلاصتين :

1- خلاصة القراءة الواقعية للمدينة والتي تكمن في قول الشاعر :

(( وعمان امرأة عابرة
وحلم التفسخ ينقشه العابرون
إلى رحمها ))
2- خلاصة القراءة التجريبية للمدينة التي تكمن في :
(( لم أذق من مسائي بعمان
إلا نقوشاً عن العابرين إلى قلبها
والمرايا هنا طلسمٌ ))
ولعل من الأهمية هنا أن نقارب بين الخلاصتين ، ففي الخلاصة الأولى نجد عمان امرأة عابرة دلالة عدم الثبات وعدم القدرة على إنتاج خطاب ثابت من قراءة معطى لا يتصف بالثبات رغم شدة إغراء هذا المعطى – امرأة – بالنسبة للعارف ، ومن هنا كانت رغبة المتأمل الذي يريد المعرفة بمثابة( نقش ) من حيث ارتباطها بالمتأمل لا من حيث ارتباطها بعمان ولكنها تصبح بمثابة (حلم التفسخ ) لأنها أصلاً ناتجة عن قراءة إنسان عابر غير مستقر لمعطى ثابت ظاهرياً ولكنه بحكم الذهاب .
أما في الخلاصة الثانية فيبدو التأمل الذي مارسه الشاعر على ما يبدو ظاهرياً وكأنه ( نقوش عمّانية ) غير قادر على إفراز معرفة يقينيّة رغم ثباته الظاهريّ ( نقوش) بدليل أنه مسنَد إلى ( العابرين ) وهذا ما قاد الشاعر إلى اعتبار ناتج المعرفة بالمدينة بمثابة الطلاسم رغم وضوحه ( المرايا هنا طلسمٌ ) مثلما قاد أيضاً إلى نتيجة حتمية لقراءة الشاعر في نقوش عمان :
(( لا وجوه هنا للمرايا
الزجاج هنا فاقد الذاكرة ))
وهي النتيجة التي يريد الشاعر إثباتها ليسوّغ لنفسه ممارسة الحنين إلى البداوة ، إذ تحضر البداوة في نسيج القصيدة وكأنها هي الوجوه التي يفتقدها النوايسة في مرايا عمّان التي لا وجوه فيها ، وهذا ما يقود الشاعر في غير موضع من القصيدة إلى استدعاء البداوة كلّما أحسّ بعدم القدرة على قراءة مرايا عمّان التي لا معرفة فيها .
وقد استخدم الشاعر تقنيات مختلفة في تحايله للخلاص من سطوة المدينة والنزوع إلى تلقائية البادية موطن الرعوية حيث العفوية ، فمرة قد ركّز على توصيف القبح الكامن في قلب المدينة التي لا تحتفي بعادات اجتماعية تكرّست وثبت جدواها :
(( كلّ شيء هنا فاضح
لا تخبئ وقل ما تريد ))
(( تعثّر شيخٌ فأسنده وجع الانحناء
وعمان لا تحتفي بالشيوخ ))
(( أهرب من سلّة اللحم
تعصر يومي بأفواهها ))
ومرةً تراه وقد ركز على بيان موقفه الخاص ووعيه في التعامل مع المعطى المدنيّ لدرجة تقنع المتلقي بتوصيفه السابق على أنه ناتج لتجريب عميق في التعايش مع معطى المدينة :
(( كلّ يوم أكفّنُني بعد أن يهدأ الآخرون
وأصعد نحوي بلا قامتي ))
(( هل يراني أحد
حين أغلق نافذتي عن نهار مليء
بشوك الجسد ؟ ))
ومرة ثالثة تراه وقد عمل على النهوض من خيبته بالمدينة من خلال الاتكاء على ما تبقى فيه من صورة البدوي/ القرين الذي رفض إلا أن يحتفي بالنموذج المتعالي /البداوة حتى وهو في قلب المدينة رغم تخلّي مقابله/ قرينه عن ذلك :
( وافترقنا على هدب عمان
أنا هاجسي امرأة أصبحت
قاب شبر من النظر إلى
أخمصي
وقريني يهجس بامرأةٍ لا تطال )
لقد تلاقت هذه التقنيات معاً في رسم الصورة الكلية لقصيدة ( بوصلة الشيح ) مثلما صارت مرجعية لازمة في تعامل النوايسة مع ثنائية المدينة / البداوة في نصوص أخرى مثل ( يدي الآن أم دخان القرن) و
( رعوية مبررة ) ، فإن كانت قصيدة( يدي الآن .. ) تقوم بدورها في الإيصال عبر الاكتفاء بنفسها فإنّ إضاءتها بقصيدة بوصلة الشيح يعطيها قيمة أعلى مثلما تصبح هي ذاتها لازمة للدخول إلى قصيدة رعوية مبررة وكأن خطاب الرعوية هو ناتج قراءة القصائد الثلاث معاً ، إذ أن خطاب القطيعة الذي يتقنه الشاعر مع المدينة وجوانيتها القائمة على حضارة قشرية لا جوهرية ( في قصيدة يدي الآن أم دخان القرن ) هو ذات الخطاب الذي يتقنه باتجاه آخر ( في الرعوية المبررة ) من حيث انه نزوع إلى التواصل مع البداوة على حساب القطيعة مع المدينة أصلاً ، وبالتالي فخطاب القصيدتين مؤتلف رغم اختلافه بين القصيدتين ظاهرياً .
ومن هنا فقراءة قصيدة ( يدي الآن أم دخان القرن ) تقوم بمهمتين : مهمة رصد الخراب الحادث في حضارة مادية تلغي الإنسان أو تهمشه ، ومهمة تخيّل بديل لهذه الحضارة حتى إذا وصلنا قصيدة ( رعوية مبررة ) تذكّرنا الصورة النقيض التي ظهرت في ( يدي الآن …) فامتلكنا وعياً بالرعوية انطلاقاً من ( يدي الآن … ) ، إذ تحضر قصيدة ( يدي الآن … ) كلافته خلفية تعين على فهم ( الرعوية المبررة ) كما أراد الشاعر .
وهنا فنحن سنقارب بين النصين جزئياً لنتعرف إلى تشابكهما ولزومهما لبعضهما البعض ، فمثلاً عندما نقابل بين قول الشاعر في (يدي الآن … ) :
( يدي الآن مدن تخلع هيبتها
وقطع جغرافيا في سلة للبيع )
وبين قوله في ( رعوية مبررة ) :
( وأرضهم شلحت جنائنها
ودفّأت الوجوه من العتاب )
فإننا نقارن بين حالة المدن التي( تخلع هيبتها ) وتؤول إلى الغياب غداة تصبح ( في سلة البيع ) وحالة البوادي التي حافظت على مبرر وجودها ودفّأت وجهها من العتاب رغم أن أرضها قد ذهبت في الجدب ( شلحت جنائنها ) ، ولنلاحظ الفرق الهائل بين تخلع هيبتها المسندَة إلى المدن – وهو خلع شيء جوهري ما كان ينبغي خلعه – وبين ( شلحت جنائنها ) المسندة إلى البوادي – وهو خلع شيء عَرَضي وزائل أصلاً .
ومثل ذلك نجد عندما نقابل بين قول الشاعر في ( يدي الآن …) :
( يدي الآن شرق يبيع تفاصيله )
وبين قوله في ( رعوية مبررة ) :
( عادوا إلى جدب الجنوب
لكي يصونوا
ما تبقّى من كرَم )
ومثلما نجد أيضاً بين قوله في ( يدي الآن … ) :
( يدي الآن سهم يصوّبه
الفاتحون الجدد
إلى لغة الفاتحين القدامى)
وبين قوله في ( رعوية مبررة ) :
(صوت كلابهم لغة
يعلّمها الصغار
ليفرقوا طَرقَ الحتوف
عن الضيوف )
وغير ذلك الكثير من النماذج التي تثبت ما ذهبنا إليه من افتراض لزوم قصيدة ( يدي الآن أم دخان القرن) لمزيد من إثارة الفاعلية في تلقّي قصيدة ( رعوية مبرَّرة ) ، بل إن جدوى الافتراض تصبح أكثر قيمة عند قراءتنا للمقطع الثاني من ( رعوية مبررة ) والذي أسماه الشاعر ( ليلتان مشمستان ) حيث يبدو فرح الشاعر بعودته إلى جنوبه المشتهى عالياً بمقدار خلاصه من المدينة التي سلبته الكثير ، ولذا فقد كان رجوع الشاعر إلى جنوبه الغارق في بداوته بمثابة عودة الأشياء التي ضاعت منه هناك في المدينة ، فقول الشاعر في قصيدة ( ليلتان مشمستان ) :
( الريح ترجع مرة أخرى خطاي
وإنني نقش تكفلت الرياح بصونه
من كل غائلةٍ تفتش عن ملامحها الخديعة
في عظام الآخرين )
هو بمثابة المحو الذي مارسته المدينة على روحه والذي عبّر عنه بقوله في قصيدة (يدي الآن … ) :
( يدي الآن ضائعة مِن يدي
يتصافح باسمي الدخان )

كما أن قول الشاعر في ( ليلتان مشمستان ) :

( وإنني لمّا ارتددت إلى الجنوب

وجدتني

ونظرتُ في المرآة ثمّ ملامحي )

يقابل شعوره بالمحو والاستلاب والتشابه في قوله في قصيدة ( شجر الأربعين ) :

( يا إلهي

تناسل فينا التشبّه

أنهض متّكلاً من منامي

أغسل وجه الشبيه

يخرج مرتدياً قامتي

وأظلّ بلا قامة

عارياً أنتظر )

والذي تكرّس جيداً في المدينة في مقطع آخر من قصيدة بوصلة الشيح :

( لا وجوه هنا للمرايا

الزجاج هنا فاقد الذاكرة )

ومما مضى فنزوع النوايسة إلى بداوته واشتياقه الدائم إليها هو فعل تعبير عن الذات ، أي أنّ الشاعر يجد في البداوة ومُنتجها أملاً في الوصول إلى الجوهر الأصيل لذواتنا التي سُلبت منا بفعل حضارة لا تعتني بالإنسانيات ، وكأن همّ الشاعر هنا قد أصبح منصبّاً على إعادة أنسنة الوجود وتأثيثه بكلّ ما يمتّ للإنسانية من صلات ، ومن هنا فنحن نحفظ جيداً صوت الراعي الذي هتف :

( هذي يدي بيضاء قد نبذت

مساحين الحضارة والعهود السائلة

هذي يدي بيضاء إلا من دم العادات

ليس يشوبها قرش فرشتُ

له بها عرق الجبين )

في الوقت الذي ننسى فيه جيداً زجاج المدائن فاقد الذاكرة ونردّد مع النوايسة :

( كانت الأكوان بردياً وحبرا

عندما كنت قلم

كيف لي أن أكون

غير ذاك القلم )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *