” سَلاطينُ الوَجْد .. دولةُ الحُّبِّ الصُّوفِي ” للشهاوي

(ثقافات)

مختارات من كتاب الشَّاعر أحمد الشَّهاوي

” سَلاطينُ الوَجْد .. دولةُ   الحُّبِّ   الصُّوفِي “

1

  استحق المتصوفة  لقب ( السلطان ) ؛ لأنهم سلاطين زمانهم ،  ولأن كل سلطان صوفي يرى نفسه سلطان زمانه ، أو هو بالفعل هكذا ، فقد وقع الصدام بينهم وبين ” سلاطين السياسة ” من الخلفاء والحُكَّام والأمراء ، ولذا عاش سلاطين الصوفية تحت سيف هؤلاء المتسلِّطين ، فكانت النتيجة المباشرة أنَّ منهم من قُتِل ، ومنهم من سُجِن ، ومنهم من نُفِي ، ومنهم من عُذِّبَ وأُهِين ، وقد كان أوائل الصوفية ينفرُون من السَّلاطين والأمراء ، وأنا هنا أقدِّم ثلاثةً من سلاطين الوجْد ، عشتُ معهم  زمنًا ممتدًّا من حياتي ، ومع آخرين أثَّرُوا فيَّ ، وأثْرُوا تجربتي ، وسأخصِّص لهم كتبًا ، وأنا لا أكتبُ عن مُتصوفةٍ أحبُّهم بقدر ما أكتبُ عن أهلٍ لي ، كان لهم فضلٌ كبيرٌ عليَّ منذ صِباي في قريتي كفر المياسرة ؛ حيث سلكتُ الطريقَ الصُّوفيَّ في سنٍّ مبكِّرة ، والمتصوفة الثلاثة محور هذا الكتاب هم  : ذو النون المصري ، وأبو بكر الشبلي ، والنفَّري ، الذي عاصر المتنبي وتوفي معه في سنةٍ واحدةٍ هي 354 هـجرية /965 ميلادية ، رأيتُ أنهم كانوا سلاطينَ في زمانهم ، ولهم سطوةٌ رُوحية على من عاصرهم  . وكانت كلمتهم مسموعةً عند الناس ؛ لأنهم  لم يتقرَّبوا من سلطانٍ جائرٍ ظالمٍ ، ولم يتربَّحوا منه .

إنهم أربابُ الحقائق ، وليسوا من ” أهل الظَّاهر” أو” أهل الرُّسُوم ” ، إنَّهُم ” رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم ؛ لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله . لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم  مع  الله طرفة عين ” بتعبير محي الدين بن العربي ، الذي  كان من ضمن أسمائه ” سلطان العارفين ” ، مثلما كان اسم عمر بن الفارض ” سلطان العاشقين ” .

2

ما الحُبُّ العذريُّ إلا تصوفٌ أو طريقٌ إليه .

وما الحُبُّ إلا مقامٌ إلهيٌّ ؛ لأنَّ ”  المحبة هي أصلُ جميع المقامات والأحوال ” ، و”أكمل مقامات العارفين ” .

   وفي الحُبِّ يُعوِّل المرءُ على القلبِ أكثر مما يُعوِّل على العقلِ  الذي قد  يمثل حجابًا كثيفًا على الذات حين تفكِّر والرُّوح حين تشتغلُ  ؛ فالحب يهتك ما استتر ، ويكشفُ ما هو مخبوءٌ ، أو ما هو سريٌّ .

و الذات العليا للإله تتمثل  في الحب . وبالمحبة يقتربُ الإنسانُ من الله .

وأنا أحاول مع الشَّاعر الروماني  فرجيل ( 15 من أكتوبر 70 قبل الميلاد – 21 من سبتمبر 19 قبل الميلاد ) أن أقول في هذا الكتاب : (الآن أجدني أعرف ماهو الحب ؟ ).

 والحُبُّ الصُّوفيُّ  هو أصلُ وجود الحُبِّ في العالم ؛ لأنه مظهر للحب الإلهي ؛ لأن الحُبَّ بطبيعته “أصل الموجودات ” ،  الحُب المنبثق من الحقيقة والباطن ،  والمحبة هي من أعمال الباطن ، والمتصوفة هم أهل المحبة وينسبون إليها . والحب عند المتصوف هو أسلوب حياة ، ودليل المعرفة الصوفية التىي تعكس حال القلوب السامية .

وبالحب –  الذي هو منحة إلهية  – يستطيع من يحبُّ أن يصل إلى الحقيقة المطلقة التي يريدها ويسعى إليها ، ليسكن النقطة الأعلى من فردوسِ الرُّوح .

والنبي محمَّد يقول : ” جُبِلت القلوب إلى حبِّ من أحسن إليها ” .

3

يسلك الشَّاعر الصُّوفي طريق المعرفة ، ولا يرى طريقًا غيرها ؛ ليعبِّر عن بواطنه وأشواقه ، حين يكون في مقام الإشراق ، إذْ إنَّ نصوصه نشيدٌ طويلٌ للعشق ، والجمال المطلق.

ويعيش الشَّاعر حياته متقشفًا زاهدًا قانعًا بما اصطادت روحه في حياته  ، ونصِّه ، حيثُ  لا يبحثُ عن منصبٍ أو جاهٍ ؛ لأنه باع كل ذلك في سبيل أن يكون سالكًا في طريقٍ رُوحيةٍ شائكة وشائقة ، وطويلة مداها ، يمضي في مدارج التجريد ، ذاهبًا نحو أودية المستضعفين ، الفَّارِّين من زحام التكالُب والتخالُّب على عظام الحياة العارية .

كما يعيش في مقامٍ خاصٍّ ، معتزلا ، منتظرًا فتحًا وكشفًا وفيضًا تترادف ولا تنقطع ، إذ إنَّ شِّعرَ الصوفي  نسخةٌ من مواجيده ، يُعبِّر به عن رؤاه ، أو هو صورة شعرية لنثره الفكري ، ونظره إلى الوجود والحقيقة ، يبتعد عن التصنُّع والتكلُّف .

وإذا كان الشاعر الصوفي من ذوي الكشف ، يرى فناء نفسه في حالة سُكرٍ ووجْدٍ ، فهو ابنٌ للشَّطح ، الذي ليس وهمًا ولا تخيُّلا ، بل صار هو المرآة ، وهو أبعدُ زمنًا من تلك النظرة الضيِّقة التي يراها كارهو التصوُّف والصوفية ، وهو قوتُ الشاعر وزاده كمسافرٍ في الأزمنة والأمكنة ، خُصوصًا ذاته التي هي المصدر ، والمكان الأول الذي يحتضن كل كلمة تُولد ، فشطح الشاعر من قوة وجْدِه ، وفيضان بحره ، حتى لا يعود يطيق ( ما يردُ على قلبه من سطوة أنوار حقايقه ) .

الشاعر الصوفي هو – إذن – المُتحرِّر من رقِّ الأغلال ، الناطق عن سرِّه ، لأن ” النقش هو النقّاش ” ، في يديه جِنان الفردوس ، وجنون جحيم  الشطح ،  فهو كاشفٌ للحقيقة المطلقة ، التي تتجلى في العرفان الوجداني والمعرفة الذوقية واللدنية .

التي يعتبرها  بيان عشقه  واتصاله ، ووصله بمن يعشق .

ويُودِع الشاعر العارف سرَّه في نصه ، معتمدًا مبدأ الذوق والمعرفة ، أي ( مَن ذاق عَرَف ، ومَن عَرَف اغتَرَف) ، ولا يمكن أن يتحقَّق ذلك إلا عبر ظاهر الأشياء ، ولكنه يُعوِّل على الباطن ، باطن المحبة باعتبارها مقام الشاعر الأعلى مكانةً  ومرتبةً ، حيث يمحو من قلبه ما سوى محبوبه ، الذي يستولي ذكره على كُلِّه ؛ حتى لا يبقى منه شئ لغير من يعشق .

والشاعر السَّكران بخمرةٍ رُوحية ، تلك الخمرة الرامزة إلى العشق المُقدَّس ، والتي هي أزليةٌ تشربها الروح فتنتشي وتثمل ، حيث تسكر العقول ” بما يُلقَى إليها من العلوم والحقائق العرفانية ”  .

والحُب – الذي فيه أُنس القلب – هو هِبةٌ ، ومنَّةٌ ، وعطيَّةٌ ، ورزقٌ ،  ومُصادفةٌ إلهيةٌ ، وليس كسبًا ، يمكنُ للمرء أن يحصده ، أو يتحصَّل عليه ، لكنه بذرةٌ تسقيها السَّماء بمائها ؛ حتَّى تكبر ؛ لتصيرَ شجرةَ عشقٍ ومعرفةٍ .

ويعيش الشاعر الصوفي حياته تحت سقيفةٍ من الرموز والإشارات  ، لأنه يذهب بلغته إلى ما وراء اللغة ، ولذا لا يفقهه الكثيرون ، ومن ثم يتهمه أصحاب الظاهر ، وأهل النظر الضيِّق بالكُفر والزندقة ، حتى أن كثيرين من أهل الإشارة ، وأصحاب الوقت والحال  قد اضطهدوا ، أو سِيقوا إلى القتل ، أو سُجنوا وضُربوا وعُذِّبوا ، لأنهم لم يستطيعوا كتمان الأسرار على العامة والخاصة أيضًا .

فالشاعر الصوفي الذي يذهب إلى ماوراء الأشياء والمحسوسات ، مقتصدٌ ، لفظه قليل ، ومعانيه كثيرة ، بعيدة عن ظاهر لفظه ، يختصر ، ويوحي ، ويلوِّح ، ويُلمِح ، ويشير ، ويرمز ، كي يدل على  جوهر باطنه .

ولأن باطن الشاعر الصوفي يحكمه الذوق والوجد ، ولا يمكن للظاهر أن يحاكمه ، فقد ظل في نصوصه الشعرية والنثرية – على مدار التاريخ الإسلامي – محرومًا  من  العيش  في طمأنينة ، ومطرودًا من رحمة  الحُكَّام والوُلاة والأمراء والخُلفاء والفُقهاء من عُدماء الدين وجهلته ، وما أكثرهم في كتاب تاريخنا .

4

الصوفي هو الذي ينفض يديه وقدميه وملابسه وهو ماشٍ على الأرض ، أي أرض ، سواء أكانت له ، أم وقفًا ، لا يبتغي منصبًا ، أو جاهًا ، أو سلطانًا ، متيقنًا  أنه صار  نقيًّا من آثار الدنيا الزائلة الفانية .

ولا يتاجرُ إلا في ثمار الصدق ، ومن دون تكالبٍ على ما هو دنيوي ، يزهد فيما يقبل الناس عليه ، لا يتعلق بشئ ، هو ابنٌ للمجاهدة ، يسلك الطريق ، مداويا نفسه ، قبل أن يداوي سواه ، يسير في النور  ، مثلما تسري الإشاراتُ في روحه  ، يكشف ما احتجب وما استتر وخفي عنه ،  يجلو مرآة قلبه ويصقلها بالإشراق حتى تتجلى ، وأن يعرف مكنون نفسه ؛  كي يسهل له الوصول بعد تمام الوصل ، حيث تنكشف له أمورٌ لا تُعد ولا تُحصى .

الصوفي رحب ، وذو شسوع  ، قلبه يسع الكون ، لا يفلت الزمام منه ،  مهما تكن المتع والمغريات ، صاحب كبرياء وأنفة ، على الرغم من بساطته وتواضعه ، حبل روحه مربوط بالنور ، وممتد بمشكاوات السموات . لا يقع في الشباك أو الحبائل التي يدبرها الأغيار أو العابرون أو المارون على الدين .

لا يعرف  الخزي أوالخذلان أو الذلة  أو الحسرة أو البغضاء أو الحسد ، يصير شخصا آخر جديدا كلما طلعت شمس ، يسلب ولا يسلب .

الصوفي صاحب نظر ؛ لأنه من أهل الصفاء ، ملآن بالإلهام ، قلبه يشرق بالنور ، يمتاز عن سواه بالعرفان ، إذ يسمو عن عالم المادة ، أفادته خلوته وغيبته عن الناس ، فعَلَا فيضُه ، وكثرت سياحته الروحية ، يشتد به الوجد سواء أكان وحده أم وسط زحام من البشر .

إن التصوف يفتح فيضا من المعاني الربانية وآفاقا معرفية لا حد لها أمام الصوفي ، إذ يسلك الطريق ببصيرته المعرفية .

الصوفي هو عالم رباني ، روحه تشرق بالأنوار ، تربى على علم القلوب ، وهو الوهب لا الكسب ، أو العلم الوهبي .

5

عودتُ نفسي منذ الصِّبا المبكِّر ، وأنا في قريتي ، أن أعتزل كي لا أبتذل ، وأن أنفرد كي لا أزدحم ، وأنشغل بالسفاسف والتوافه والقشور ، وأن أغوص عميقًا في روحي الحيرى القلقة ،  مجهدًا عقلي ؛  كي أدخل إلى المعاني الكامنة في القلب .

واستفدتُ من عزلتي التي اخترتها سبيلا ، ومصادقتي للكتاب حبًّا لازمني و بقي معي ، ونورًا نافذًا ينير لي الطريق ، كلما انحرفت في ناحية لا تشبهني ، ولم أخلق لها أساسًا ؛ لذلك كبرت داخلي   رغم سني الصغيرة وقتذاك ، وأكرمني الله عندما هجمت الشدائد وتوالت المحن ، وما أكثر ما شُفتُ وعاينتُ وعانيتُ ، لكنني سيد الكتمان ، إذ في الصمت علو وارتفاع ، على الرغم من أنَّ شواهد  الألم  تسطع في مرآتي ، وتنعكس على كلي نفسا وحرفا .

وعلى الرغم من أنني لم أتعلم السباحة ، وأخشى البحر وأراه غادرًا ، حتى لو صدق ؛ فإنني أحب أن أغرق في بحر نفسي ، وفي محيط أشيائي ؛ علني أقود سفائن روحي إلى الساحل حتى ولو كان نائيا أو مجهولا  ،   وحتى لو انكسرت بعضها ، أو حطَّمتها الأمواج ؛ لأن الغرق في الذات إدراكٌ لماهية النفس ومساءلتها والوصول إلى قرارها الأعمق ، حيث عشت أطمح أن أكون من أهل النظر بالدليل والبرهان ، وعادة ما يكون برهاني محمولا على كفتي ميزان قلبي .

ومن امتلك برهانه عاين وكشف  ما استتر ، وزالت الحجب عن المخفي فيه وعنه  ، وترقى في الدرجات ، وطوى المسافات بجناحي براقه إلى المعارج ، وصار في حال الفتح ، ومقام الإلهام .

والخسران هو أن يعيش المرء محجوبًا عن نفسه ؛ لأن المحجوب قلبه فارغٌ ، ومصروفٌ عن العشق ، والأشياء ملتبسة عليه ” لكل شئ حقيقة ” ، ومن يتحصَّن بالمعرفة ، تكتب له النجاة ، ويحقق قول أهل الوقت والنظر  :  ”  المحب  على  الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه ، ولا مشيئة له غير مشيئته …” .

دع السر مغمورًا ، ولا تكشف إلا إذا حضرت ، واستزد ، وفِضْ ،  واقتربْ ، واذهبْ إلى البكْر من المعاني ، ولا تهمل ثيِّبات العلوم ، فالخلق يولد من اتحاد البكر بالثيب .

فكأس من تحب كامن في فم القلب ، فعش ذائقًا تائقًا مشتاقا ، يدم لك الشرب ؛ حتى تسكر ، ولا يكن لك صحو أبدا  ، وتصل إلى المحل الأعلى .

عشتُ أبحث عن الحال التي لا حال بعدها ، وعن المعراج الذي لا معراج بعده ، وعن القول الذي لا يشبهه قول ، وأسعى في الغيوب التي ما بعدها غيوب ، وعن السر العظيم الذي أستريح في سريره ؛ كي أصل من يبقى ، وأهجر من يروغ وتعمى بصيرته ، ولا أقف عند اللوم ؛ لأن من برح لا مطرح له ؛ إذ هو من أهل النسيان والعميان ، يقتات أرز الغفلة ، ويشرب ماء الضلال ، نفسه أرضية ، ولم تصل روحه إلى المرتبة السماوية ، ولم يعش حال الوجد ، وأدرك روحه الجدب  والقحط ، ولم تلحق اسمه الدرجة العلية ، وظل في الاسم الدني ، وانعدم وجوده ، وصار محوا .

6

كلُّ شيءٍ لا يصدرُ عن الروح لا يُعوَّل عليه

فلكي تصلَ في الكتابةِ إلى نقطة الذروة ، لابد أن تكونَ قد مشيتَ على جمر رُوحك ، وأمسكتَ النارَ غير خائفٍ ، بعيدًا عن التكلُّف والتصنُّع والتعمُّد ،

وما طريقُ الفطرة والتلقائية إلا  الجسرُ الواصلُ بين الذات وروحها.

وكلُّ تجربةٍ كتابيةٍ لا تتأسَّسُ أو تقوم أو تنطلقُ من تجربةٍ رُوحيةٍ هي ناقصةُ ، لأنَّ الشاعرَ – الكاتبَ من المفترضِ أن يكون مهجُوسًا بالوجود المحجوب ، لا بالوجود المكشوف ، والمتاح والمرْضِي عنه من قبل سلطات الكتابة ، التي تفرض سطوتها على المجتمع الأدبي .

فأنا لا أكتبُ عن عالمٍ مرئيٍّ جاهزٍ ، ولكنني أحاولُ أن أخلُقَ عالمًا أراهُ في حلمي ، هو عالمٌ آخر جديدٌ ينتمي إليَّ ويشبهُني ، إنْ لم يكُن مطابقًا لروحي فهو على الأقل قريبٌ منها .

وكوني أطلب الحقيقةَ المطلقةَ ، فأنا أمام عالمٍ غير محسُوسٍ لا متناهٍ لاتدركه الأبصارُ الماديةُ.

لي معراجٌ شعريٌّ استند في رحلته على أجنحةٍ كثيرةٍ ، كان أبرزها التصوفُ والفلسفةُ ، إذْ هما جناحان يمثلانني ويمنحانني درجةَ غليانٍ أعلى ، ويجعلان روحي تنطق عن هواها ، دون ترددٍ أو توجسٍ أوحذرٍ.

والأسرار لا تترى إنْ لم تَغْلِ أولا في قِدْرِ الحياة الروحية للشاعر – الكاتب ، والكتب الكبرى التي بقيتْ في نفوسنا طويلا ، صدرتْ عن معارجَ صوفيةٍ لأصحابها ، حتى ولو لم يكونوا صُوفيين ، لأنَّ كلَّ روحٍ تطيرُ عن أرضها ،  هي عندي روحٌ طائرةٌ في الطريقِ الصُوفيِّ ،لأنَّ حالَ الشاعر هي مزاجٌ يتفاعلُ مع التصوف أو الفلسفة وليس ابن العربي أو السُّهروردي أو ابن سبعين ببعيدينَ عن ذهني .

فالتجربة تكشفُ الكثيرَ من الحقائق ،  وما يشاهدهُ الشاعرُ في حاله ،  لايستطيعُ كتابته إلا عبر تجلي الروح وإشراقها ، وليس استعارة أحوال آخرين ، لأنَّ الشاعرَ لا يستعيرُ لسانَ غيره  ، وقديما قال النفري : ” الجزء الذي يعرفني لا يصلح على غيري”.

فالثقافة والعلم وحدهما لايجعلان من الشَّاعر صوفيًّا ،لأنَّ الوصولَ والوصلَ يحتاجان إلى مجاهدةٍ وروحٍ ولدت عارفة ، تدرَّب مريدُها على المنح ، ومن ثم سنكونُ بعد ذلك أمام مقام الذوق ، كلما قرأنا عملا شعريًّا نعرف من خلاله أن روح كاتبه تخرج إلى متلقيها من كل حرف ، ولا يحتاج المرء إلى جهد ، كي يكشف الكتابة الصادرة من موقف الروح ، أو الصادرة من موقف ” نويتُ أكتبُ ” .

الروح لا تحجبُ ، بل جُبلتْ على الكشف ، وكل روحٍ هي سادرةٌ في منحها ، فقط تحتاج إلى بعض مثيراتٍ لتستجيبَ وتذهب إلى النار وحدها ، ولا تهرب منها ، هي كلما رأت نارا ، وقعت فيها باختيارها ، فهي في الكتابة تكتب ، وفي الصمت تصمتُ ولا حدَّ لشواطيها إذْ هي بلا سواحل .

الروحُ هي التي تسقي شجرةَ الكتابة ، وهي التي تفتح الباب المسدود ، وكل بابٍ مُغلقٍ تراه أمامها مفتوحًا ، هي ترى ، ولا تنامُ ، ولا يدركُها تعبٌ ، تأرَقُ وتقلقُ ، لكنها لا تصدأ ، قد توصدُ بابها أمام مبدعها المشغول اللاهي عنها ، لأنَّها كالشعر ، تُعطي ظهرها لمن يهجسُ بغيرهما ، هما لا يحبان شركاء ، يريدان الجنةَ وحدهما ، لأنَّ الرُّوحَ تغرسُ شجرةً أبديةً أمام باب كلِّ شاعرٍ ، وتمنحه بئر ماءٍ لا تنفدُ ، وتطلب منه أن يرويها ، فإن تقاعسَ عن السقاية ، نقلت شجرتها إلى باب آخر ، ليس له ، وربما قتلتها ، إنعامًا في التنكيل بالمُهمل .

الرُّوحُ ظاهرةٌ ، كأنَّها تنادي صاحبها : ” لا تزالُ تراني ” والغيبة عنها ، والذهاب نحو آخر ، يُفسد المحصول ، فما يأتي بالذوق أبقى وأهم مما يأتي بالتعلُّم ، ودومًا أثقُ في الوهْبِ لا الكسب ، وابن الروح هو صاحبُ وهبٍ وذوقٍ وكشفٍ ، والشعراء أبناء الأرواح ، هم أرباب أحوال .

الشاعر يذهبُ نحو المطلق اللامتناهي ، يتحدُ بمن يعشقُ ، ويحلُّ فيمن يحبُّ ،  يفنى ، هو دوما فوق طور العقل ، دنياه في تعبيرهِ ، وقبس نوره من السموات ، و” شبيه الشيء منجذبٌ إليه”  ، وما من فرع إلا وهو دائم الحنين إلى أصله ، والناي يبكي لفراق أمه الشجرة ،  ومن ثم تأتي لغته خاصةً لا شبيهَ لها ، ليست لغة العقل ، أو العلم ، أو الفلسفة ، الشاعر يدلُّ وليس عليه أن يدرك نتيجةً ما ، هو يحدسُ ولا يتحدثُ ، هو يرمزُ ولا يقولُ ، هو يشيرُ ولا يشرحُ ، هو يومىءُ ولا يُفسرُ ، هو يسألُ ولا يمنحك إجابةً .

الشَّاعر الحقُّ دومًا في الحال ، التي هي التجربةُ الروحيةُ ، وهي منزلةٌ سماويةٌ عليا ، لا يصلُ إلى سدرتها إلا قليلونَ ،  هي عندي ” الإشراقُ ” ، الذي تتنزلُ من سمواته النصوصُ الكبرى ، التي تبقى ، وتؤرِّقُ ، وتحثُّ وتحرِّضُ ، وتمنحُ من يتلقاها درجاتٍ عليا من الوصول والتحقُّق .

الشاعرُ ابن روحه ، هو دومًا بين نقطتين : نقطة الابتداء ونقطة الانتهاء ، وكلما وصل إلى إحديهما ، عاد إليها من جديدٍ ، لأنه يحيا ويموت بين الصفر والألف أو الواحد ، يجرِّدُ بشريته  ليفنى في الله ، ويقول : أنا أكتبُ إذن أنا أحيا وموجودٌ في إرادتي ، التي هي جوهرُ إنسانيته  الإلهية لا عقله .

كشاعرٍ سأظلُّ  من واقع حال تجربتي ، أنني كلما أردتُ النطق بما رأت رُوحي لا أقدرُ ، وستبقى لغتي دون الحال الذي أنا فيه ، لأنَّ ما فيَّ أكبرُ من اللغة ، وأسمى من التعبيرِ ، ولذا أرى العاشق دومًا عاجزٌ عن كشف حاله ،  وهو في مقام الحبِّ ، ودائما لغته إلى المحبوب ، أقلُّ وأدنى مما تكتبه روحُه في صفحاتها بقلم الدم .

والشاعر الذي لا يصدر نصه عن عاطفةٍ جامحةٍ لا يُعوَّلُ عليه كثيرًا ، حيث تكونُ نسبة عصير الدماغ فيه أكثر طغيانا من نسبة عصير الروح ، إذْ الشاعر كالصُوفيِّ  تمامًا في كونه ابن استغراقه وفنائه وحدسه اللامتناهي . فهو يكتبُ من ” عين البصيرة ” أو كما يسميها الصوفية ” اسم القلب والسر ” .

الشاعر يذهب إلى مناطقَ لا يطرقها الطارقون  ولا يعرفها أهلُ الحياة ، ولا يدركها العابرون أو كما قال النفري يومًا في مواقفه : ” دعْ عنكَ كل عينٍ وانظر إلى ما سواها ”  .

7

بالحدس والتأويل تَصلُ إلى ما تريد.

لا يمكن أن تحيا وأنتَ ظِلٌّ لأحد، أو تظلّ – هكذا – طوال حياتكَ باحثًا عن قدوةٍ، لتتبعَها، وتسير وراءها، أو تستنسخها.

ابحثْ عن أسلوبٍ جديدٍ، أو طرائق مغايرةٍ ومختلفةٍ؛ لتكونَ الذي تريده أوتطمح إليه.

فالجِدَّة، والبحث سبيلان إلى الإضافة والإنجاز، وطريقان نحو الامتياز والخصوصية.

كُن دومًا خارج المألوف، وَلاَ تَسِرْ في الطرق المُمهدة؛ لأنَّ غيرَكَ طَرَقَها وَعَبَّدها وَسَارَ فيها، ولا مجال لأن تسيرَ في المسار نفسه، أو كما كُنَّا نقول ونحن أطفال في القرية “تطبّل في المطبِّل” (حيث كان المسحراتي في رمضان يَنْسَى أَنَّه “طبَّل” في هذا الشّارع، ليصحو النائمون، فيعاود التطبيل مرةً ثانيةً ومن هنا جاءت هذه المقولة التي تشير إلى المعاودة والتقليد والتكرار والإلحاح و…).

اذهب إلى ما وراء الشئ، إلى ما وراء الرمز، إلى ما وراء المعنى، إلى ما وَرَاءَ الُّلغة، إلى ما وراء الواقع، كيْ تنجوَ من شَركِ العاديّ والمطروقِ والمألوفِ، وتفتح المُغْلَقَ على أسرارهِ.

رُحْ إلى الخفيِّ لتكشفَهُ، وإذا ما ذهبتَ يومًا إلى الظّاهر أوالواضح أوالجليِّ، تأكَّد أنّ هناك باطنًا ينتظرك لو أحْسَنْتَ الدُّخُولَ إليه.

ومثلما يفشل الشَّاعر إذا عوَّل على الظَّاهر والواقع، كذلك يفشلُ العَاشِقُ الذي لا يرى من امرأتهِ إلاّ جسدها فيغرق فيه مُلْتذًّا لذائذَ مؤقتةً لا تدومُ ولا تتعمَّقُ، لأنه لم ير ما وراء الجسد، أو لم يتعلَّم من مُعَلِّم الحبّ الأوَّل في إرثنا الإسلاميّ والعربيّ المقدَّس محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلَّم)، ومن أراد أن يعرفَ أكثر، فليذهب إلى صحيح البخاري ليدركَ كم كان النبيُّ محمد مؤسِّسًا في فنون الحبّ، عارفًا ما وراء الأسرار، ناشدًا الديمومةَ، والوصلَ ، والوصولَ إلى المنتهى بإشاراتٍ وتمهيداتٍ لا يفعلها ( أو يلتزم بها ) العاشقُ والمعشوقُ (الرجل والمرأة) ، ومن ثم لا يدوم العشقُ كثيرًا في ظلِّ الجهلِ بأسرارِ الروحِ والجسدِ التي أشار إليها الرسول – في السنين الأولى من الهجرة – قَبْلَ أن يتوصَّل إليها العلماء والمختصون في العصر الحديث.

اذهبْ إلى النقطةِ مباشرةً ، لا تترك نفسك للتداعي الحُر، لأنَّ فيه مَقْتَلَكَ.

ففي ” النقطة ” طَاقةٌ لا تُدْرَكُ ، وأسرارٌ لاَ تُمْسَكُ، وعوالم غامضةٌ لا حدود لها، لا تصل إليها إلا إذا كنتَ من العارفين والإشراقيين.

النقطةُ تَصِلُ بَيْنَ ما هو علويٌّ وبين ما هو أرضيٌّ ، وتجمع الإلهيَّ بالبشريِّ ، والمقدّس بالمدنَّس.

فالنقطة هي الحقيقة التي نبحث عنها وسنموت دونما أَنْ نصلَ إليها، وبمفهوم ” الحلاَّج ” ما النقطة الأصلية إلاَّ الأصل، أصل كلّ خطٍّ، أصل كلّ كلمة، بدءُ السّر، وَبَدْءُ سَيَلان الحِبْرِ، وسرّ العلاقةِ بين الورقةِ والحِبْرِ، وبَيْنَ العَيْنِ، أوعَيْنِ الروحِ والورقةِ.

وعن الشيخ إبراهيم بن عمران النيلي أنَّه قال : سمعتُ الحلاَّج يقول : “النقطة أصل كل خطّ ، والخطّ كلّه نقطٌ مجتمعةٌ، فلا غنى للخطِّ عن النقطة ، ولا للنقطة عن الخطِّ، وكل خطٍّ مستقيم أو منحرف فهو متحرك عن النقطة بعينها، وكل ما يقع عليه بصرُ أحدٍ فهو نقطةٌ بين نقطتين. وهذا دليل على تجلّي الحق من كل ما يشاهد وترائيه عن كل ما يعاين ومن هذا قلت : ما رأيت شيئًا إلاَّ ورأيت الله فيه “.

ولعلَّ إلحاحي الدائم على الذهاب إلى الجَوْهَر، نَابِعٌ من كوني أُومن أنَّ النقطةَ وجودٌ ومعرفةٌ وأزلٌ ، كُلُّ خَطٍّ ذَاهِبٌ إليه.

فالنقطة عِلْمٌ ليس كمثله شيء ، كما يقول شيوخنا من المتصوّفة ، ولأني بدأتُ بـ “الحَدْس” ، فإني أعودُ إليه.

فأنا أخطو به ، وأختبر أرواح الآخرين عَبْرَهُ، ودليلي في ذلك ما قاله عمربن الخطاب عن الحَدْس (الظنّ) إذْ كان يردِّد: “من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه”. فالحدس يَفْتَحُ بابَ الحقيقةِ لمن يمتلكه ، وهو وَهْبٌ لا كَسْبٌ ، تُفْطَرُ الرُّوحُ عليهِ ، فهو قَادِمٌ من مناطق الإشراقِ والحكمةِ ، وهو حسبما يراه الإمام أبو حامد الغزالي : “نورٌ يقذفه الله في القلب فتصفو النَّفسُ ويدقُّ الحسّ ويرقّ القَلْبُ وتنقشع الغمامة وحينئذٍ يحدث الإشراق”.

فمن الحدس تأتي المعرفةُ، وهو بحسب ديكارت “يصدر عن نور العقل وحده “، فمنه نَخْلُقُ، ونبتكرُ ونخترعُ ونذهبُ إلى الجديد.

فالحدس كَشْفٌ لما هو مَخْبُوءٌ وباطنيٌّ ، نَظَرٌ إلى ما وراء الأشياء . لأن الحَدْسَ لُغَةً : هو التخمين ، الظن ، التوهم، التخيُّل ، الفراسة ، السَّبْر ، التصوُّر ، التوقُّع ،…

فلا كتابةَ دون حَدْسٍ ، ولا محبَّةَ دون حَدْسٍ .

فهنا ينكشفُ لَكَ الأفقُ ، وَتُضَاءُ لروحكَ الكهوفُ ، وَتَتَنوَّرُ الظلماتُ ، وتبتعدُ عن الشّرحِ ، والإسهاب ، والإطالةِ ، والترادفاتِ ، ذاهبًا نحو المحوِ والحَذْفِ ، فَهُما رديفا الحدس ملازمان له.

والَمْرِضيُّ عنه سماويًّا من يَنْقِلُ بَحْرَ ذاتِهِ إلى الورقةِ ، دون أن يستعيرَ ماءَ البحارِ الأُخْرى ، والتي هي كثيرةٌ ومنتشرةٌ .

لأنه لا يمكن خَلْقُ شئٍ حَيٍّ من مَاءٍ مُسْتَعَارٍ.

فبالحدس نَفْعَلُ ونَصِلُ وَنَعْرِفُ بروحنا.

لأِنَّهُ ” الأداةُ ” التي تصيبُ ولا تخيبُ أَبَدَا. فهي تفوقُ العَقْلَ ، وبها سَجَّل صوفيون إشراقيون تجاربهم النادرةَ الفريدةَ ، وبها كَتَبَ شعراءٌ في مقتبل أعمارهم نصوصًا صارت علاماتٍ مُؤسِّسَةً ، وَصَارَ هم شَهُبًا في سماءِ الكتابةِ ، إذْ سرعان ما توقفوا عن الكتابةِ (رامبو مثالا)، أو ماتوا في سنٍّ صغيرةٍ (الأمثلة أكثر من أن تُحْصَى).

إنَّ الحدس كان بابي لمعرفة نفسي والآخرين .

وكم صَدَقَ حدسي منذ اللحظة الأولى في الحكم على البشر، حتَّى من اقتربتُ منهم ، أو اقترنتُ بهم.

إنَّه البابُ المفتوحُ أمام عينيَّ دومًا ، ومنه تُطِلُّ شمسُ روحي لترى وتعرفَ بفضلِ شمسٍ أخرى هي شمس الحدس.

8

الصوفيون لا يكفِّرون أحدًا من أية ملَّة .

وهم ليسوا أهل استبداد أو طغيان أو عدوان ،  إنهم فقط قريبون من الله .

لا يعرفون غلوًّا أو تعنُّتًا ، بل هم أبناء السماحة  والاعتدال ، بديعون وليسوا مبتدعين ،  متفانون في عبادته ، وزاهدون  في الثروة والمظاهر ، لا يبتغون ملذَّات الدنيا الفانية ،  ومتقشِّفُون في كل شئ ، ومكتفون بقلوبهم النقية المتطلعة إلى الحُب ، وبعيدون عن التحارُب والتقاتُل والتطاحن والتكالب والمذهبية  ، مشغولون بتصفية قلوبهم ، فهم يجاهدون روحيًّا ولا يحملون أيَّ أنواع من الأسلحة ، مسالمون بطبيعتهم ، وبحكم أخلاقهم وتربيتهم النفسية ، ويسلكون طريق الحق والهداية ، يبحثون عن الحقيقة المطلقة التي يسعون إليها ، ويطلبون الوصول إليها .

ويؤمنون أن الذهاب إلى الله وعبادته والتضرُّع إليه على عدد أنفاس البشر ، ويرشدون الخلق إلى طرق الحق ، يدفعون الشر ويستجلبون الخير .

المتصوفة في مصر أو في غيرها من  الدول مستهدفون ومُطاردون ومُحاربون من المتشدِّدين قديمًا وحديثًا ، ويسَاء الظن بهم دائمًا ، والأمر لا يختلف كثيرًا عندما سيق إلى الذبح قطبان صوفيان من أقطاب الوقت وهما الحلَّاج والسُّهروردي ، حيث تُهدم أضرحة الأولياء والمتصوفة ، أو تُحرق  مساجدهم أو يتم تدميرها ، والاعتداء على المصلين بها ، إذ يرى السلفيون بطوائفهم المختلفة أن الصوفيين كفَّار وملاحدة ، ويناهضونهم ، ويناصبونهم الكراهية والعداء ، وفي زماننا هذا يُكفِّر الوهابيون – أينما كانوا – المتصوفة ويحرقون كتبهم ويمنعونها ، ويستهدفون  المكتبات  التي  تبيعها ، والناشرين الذين ينشرونها .

ففي مصر  مثلا رأينا سلفيين متطرِّفين ضالين مُضِلِّين مأجورين ومرتزقة من داعش أو سواها من جماعات الإسلام السياسي  قتلت الأب الروحي للصوفيين الشيخ سليمان أبو حراز  السواركي الأشعري الشافعي  في سيناء ، وأحد أبناء قبيلة السواركة ، وكان ضريرًا و مُسنًّا  يبلغ عمره حوالي مئة سنة ، وخير من يمثِّل الإسلام المعتدل ، الذي يتنافى  مع أفكار الجماعات  المتطرفة والشاذة ، التي تلبس الدين رداءً خارجيًّا لها ، حيث اتهمت الشيخ الزاهد بالكهانة والسِّحر ، وادَّعاء علم الغيب ، ودعوة الناس للشِّرك  ”  وذبحته ،  وذبحت  معه الشيخ قطيفان المنصوري الذي تم قتله بالطريقة نفسها ، وبالتهم نفسها ، وقد وزَّعت داعش أو تنظيم أنصار بيت المقدس أو ولاية سيناء  ( لا فرق عندي بينها في التطرُّف والتشدُّد وممارسة الإرهاب باسم الدين )  فيديو يصوِّر مقتلهما  مصحوبًا بجُملة : ” تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين ” ، وكان ذلك في سنة 2016ميلادية .

كأن هؤلاء القتلة المجرمين  لا يدركون أن الدين – أي دين –  يُحرِّم سفك دم  الأبرياء، ويُشدِّد على حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن .

كما  فجَّرت عددًا من الأضرحة الخاصة بالصوفيين في كل من  الشيخ زويد والروضة  بسيناء ، ثم فجَّرت مسجدًا في يوم جمعة (  مسجد قرية الروضة ، وكان  مقرًّا للطريقة الجريرية الأحمدية الصوفية ، ببئر العبد في سيناء، أثناء صلاة الجمعة.

إن تاريخ المسلمين ملآن بتعذيب وقتل المتصوفة والعلماء والفقهاء والأئمة والشعراء ، ولو منحتُ نفسي فرصة الجمع والإحصاء لاحتجتُ  سنواتٍ ؛ كي أفي بملف كهذا  ،  ولكنني سأضع هنا عددًا قليلا من رموز التراث الذين اتهموا بالزندقة والإلحاد  مثل : الرازي ، والخوارزمي ، والكندي ، والفارابي ،  والبيروني ، وابن سينا ، وابن الهيثم ، وأبو حامد الغزالي ، وابن رشد ، والعسقلاني ،  وابن حيان ، والنووي ، وابن المقفع ، والطبري ، والكواكبي ، والمتنبي ، وبشار بن برد ، ولسان الدين الخطيب ، وعمر بن الفارض ، ورابعة العدوية ، والجاحظ ، وأبو العلاء المعري ، وابن طفيل ، وابن بطوطة ، وابن ماجد ، وابن خلدون ، وثابت بن قرة ، و ابن المنمر ، الأصفهاني ، والجعد بن درهم ، وأحمد بن نصر ، وأحمد بن حنبل ، وفضل الله الأسترابادي ـ مؤسِّس المذهب «الحروفي» ، والذي اتُهم بالهرطقة ، وأُعدم في عام 1393،  وعلي عماد الدين النسيمي أحد أبرز شعراء الصوفية باللغة التركية ومؤسس الشعر التركي باللهجة الجنوبية الغربية (التركمانية ـ الأذرية) ، تخلَّصت منه الدولة المملوكية في سورية ، بعدما اتهمه علماء الدين في حلب بالهرطقة ، وتشير المصادر إلى « أنه بعد أن سُلخ جلده وقُطع رأسه وبُترت أعضاؤه ، حَمل جلده المسلوخ على كتفيه وغادر حلب عبر أبوابها الاثني عشر معًا ». وتعدُّه الطائفة البكداشية (البكتاشية) أحد شعرائها السبعة المقدَّسين ” … وهؤلاء وغيرهم من الرموز قد كُفِّروا وعذِّبوا وطوردوا ونكِّل بهم  ،  وضُرِبوا بالسياط ، وأُحرِقت كتبهم أو دُفنت في باطن الأرض أو أُتلفتْ أو غُسلتْ بالماء.

9

مصر بلا موالد ينقصها الكثير من الفرح والبهجة والإشراق .

وإذا كان للمسلمين في مصر عيدان هما عيد الفطر ، وعيد الأضحى ، فإن الموالد الدينية الصوفية ، كانت أعيادًا دائمةً موزَّعةً على جغرافيا مصر المُمتدة في ريفها وحضرها .

والمولد كما عرفتُه في طفولتي وصباي طقسٌ شعبيٌّ دينيٌّ ، يتم فيه الاحتفاء والاحتفال برمزٍ صوفيٍّ ، أو بطريقةٍ صوفيةٍ رئيسيةٍ ، أو فرعيةٍ تمثِّل جُزءًا من خريطة الطرق الصوفية في مصر .

ومنذ القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) ، ومصر تحتفل بأوليائها وأقطابها من المتصوفة ، سواء من وُلدوا على أرضها ، أو من مَرُّوا بها في طريقهم إلى الحجِّ ، أو من مكثُوا فيها بضع سنوات من أعمارهم  ، ولكنَّ الحال تبدَّلت واختلفت مع هبُوب رياح المذاهب السلفية المُتشدِّدة ، وبروز الجماعات الدينية المُتطرفة والمُوغلة في سفك الدماء ، وتكفير الناس والدولة ، وإطلاق يد جماعة الإخوان ، حتى تمكَّنت من مفاصل الحياة جميعها ، وصار لها ذراعٌ طويلة تضرب وتنخُر في كل شأن .

وكل طائفة من هذه الطوائف  أرادت بهمَّة ودأبٍ أن تطرُد الصوفيين  من الساحة ، فعمدت إلى تكفيرهم ومحاربتهم بدعم خارجيٍّ من دولٍ ترى في التصوف كُفرًا ، وتريد تسييد مذهبها الذي لا محل له بين المذاهب الدينية التي يعرفها المسلمون في العالم ،  وتحضُّ على هدم مقامات أقطاب التصوف ، وتدمير مقابر الأولياء ، بحيث لا يكون في المشهد الديني – الذي هو أساسًا سياسي ، ولا يزيد على كونه صراعًا على السلطة –  غير الإخوان والسلفيين ، ومن دار في فلكهم ، ومن ثم انتشر الدم ، وبرزت إلى السطح جرائم الاغتيالات ، وقتل السُيَّاح ، وضرب المدارس ، وسكب مياه النار على النساء في الشوارع ؛ لأن لباسهن ليس شرعيًّا ، ولأنهن تاركات شعورهن تنسدل على أكتافهن ، وسرقة محلات الذهب ، والنيْل من الأقباط ، ومُهاجمة الكنائس ، واغتيال الكُتَّاب والمُفكرين ممن لهم آراء أخرى تناهض هؤلاء الأدعياء الذين نصَّبوا أنفسهم أوصياء على الدين ، وحُماة العقيدة ، ونوَّاب الله ، وأصحاب التوكيل الوحيد من السماء ، والوسطاء الرسميين بين العبد وربه .

ورأينا الأزهر والأوقاف ودور النشر تمتنع في أغلبها عن نشر كُتب التصوف ، بل إن هناك دورًا للنشر ، كانت تأخذ دعمًا سخيًّا من إحدى الدول مُقابل ألا تنشرَ كُتبًا للتصوف ، إلى حدِّ أن هذه الدار ، ارتكبت جريمةً لا تُغتفر،  حيث امتنعتْ عن تسليم أصول الكتب التي لديها حول التصوف ، ومنها كتبٌ مُترجمة من الفرنسية إلى العربية ، أنفق أصحابها سنواتٍ من أعمارهم في الاشتغال عليها ، وكان رد الدار أنها فُقدتْ وضاعت ، ولم يكن المؤلفون وقتذاك  لديهم نسخٌ أخرى كعادة هذه الأيام ، حيث وسائل التكنولوجيا الحديثة في الطباعة .

لقد مات فؤاد كامل أحد أهم مبدعي مصر في الترجمة إثر فقده لأربعمائة صفحة ، كان قد سلمها لهذا الناشر ، ترجمها عن الفرنسية لكتاب المستشرق الشهير هنري كوربان (1903 – 1978)  ” الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي ” ، والذي سيترجمه بعد ذلك صديقنا المغربي فريد الزاهي ، وهو يعتصر ألمًا ، لأنه يترجم كتابًا ترجمه قبله عظيمٌ من مصر ، أضاعه عمدًا الناشر المصري الشهير الذي كان يتلقَّى الأموال للإسهام في إماتة التصوف ، ويعيش بيننا كملاكٍ لم يرتكب إثمًا .

الموالد في مصر لا تكلِّف الدولة مليمًا واحدًا ، وليست خطرًا على الأمن الوطني أو الأمن القومي ، وما التجمعات فيها سوى تجمُّعٍ للأحباب والمُريدين الذين يبحثون عن الفناء في الذات الإلهية ، هم وقُود العشق الإلهي ، وليسوا  قتلةً ولا سفَّاكي دماء ، أنقياء أتقياء ، سمْتُهم النقاء وصفاء الروح .

وليلة المولد ليست عُطلةً رسميةً ، كما أن الأرض التي تُقام عليها الموالد هبةٌ من أهل كل قرية ، ولكن مع زحف التشدُّد الديني على أرض مصر ، اغتصبت ساحاتُ وميادين وأراضي الموالد .

 وفي حوار أجراه معي  في مونتريال “كلود ليفيك” نُشر 21 من أكتوبر 2013 بجريدة لودوفوار الكندية بلسانٍ فرنسيٍّ ، وهي من أشهر وأكبر الصحف في كندا ، وقد ترجم فقرات من الحوار إلى اللغة العربية الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب أستاذ الأدب بجامعة تورونتو الكندية  قلتُ : ” إن المتصوف كائن منفتح على العالم ، يقبل الديانات كافة. وكما قال الشيخ الأكبر والصوفي المسلم العظيم، ابن عربي، “الحب ديني وإيماني” .

“المتصوفة مسالمون، يحبون الحياة والعشق، ولا يمارسون السياسة”. إلا أن هذه السمة لم تجنبهم ويلات الاضطهاد على مر العصور. وهم يشكلون الأغلبية في العديد من البلاد الإسلامية، ومنها مصر، لكن “تم إسكات أصواتهم “

” . يؤسفني أن أقول إن الغرب لا يحتفظ (من العالم الإسلامي) إلا بصورة المتطرفين. يظن أن هذا العالم لا يقدم سوى المجرمين”

هذا جزءٌ من حواري ، لكنني قلتُ أيضًا لمحاوري إن الغرب وأمريكا دائما ما يقدمان الدعم المادي والمعنوي لكل الجماعات الدينية المتشددة ولم نرهما مرةً واحدةً يدعمان المُتصوفة أو التصوف ، أو حتى ينفق مالا قليلا لنشر كتابٍ صوفيٍّ، لأنه يدرك أن التصوف صورة مشرقة للإسلام ، وهو لا يريد لهذه الصورة أن تنتشر وتتعمَّق في نفوس العالم ، الغرب لا يريد ابن عربي (558  هـ 1164م –  638هـ – 1240م) آخر ، ولا جلال الدين الرومي (604 هـ – 672 هـ = 1207 – 1273 م) آخر ، لأنهما أبرز أنموذجين يدلان على سماحة واعتدال الدين الإسلامي .

الموالد كما شهدتُها ومارستُ الذِكْر فيها ، تعبيرٌ عن فرح القلب بالحب الذي يُعمِّر الأرواح ، ومع ذلك اعتادت الدولة المصرية دون سببٍ واضحٍ على مدي قرنٍ من الزمان أن تضحِّي بقيم وتقاليد هذه الموالد بالمنع لا بالمنح والتصريح ، حتى رأينا المصريين يزدادون خسارةً مع استفحال وتمدد إسلام الصحراء وآسيا (  ممارسة وملبسا ) ، حيث اعتادت كسر خاطر المُحبين ، وقتل  الفرحة عند المُريدين من بسطاء الناس وفقرائهم وعامتهم و الذين تركوا قُراهم ومدنهم وأتوا  للاحتفال بالمولد ، ومن ثم هناك احتقانٌ مدفونٌ في صدُور الذين حُرموا من الموالد ، لأن الدولة خذلتهم أيام حكم محمد حسني مبارك ، ولم تؤازرهم يومًا في صراعهم مع السلفيين والإخوان وطوائف ومِلَل الجماعات الدينية ، حيث غابت السعادة مع مُهاجمة الموالد وحرقها وتخريبها وتدميرها ، وهي عندي عادة مصرية أصيلة ومُحبَّبة وخاصة ، وتشير إلى محبة المصرين للتصوف ، ولآل البيت دون تزمُّتٍ أو ادَّعاء ، والموالد كنزٌ من كنوز مصر وثراوتها ، فكيف لها أن تُلغى وتُشطب من تاريخ مصر الحديث ، فلا شك أن هناك تضييقًا على من يتولون إقامة الموالد ، ناهيك عن الخسارة الروحية .

لا أريد أن يقول لي أحد إن الموالد ممنوعة بأمر من الدولة المصرية ، وأن الفرح بطقسٍ كهذا صار عادةً ذميمةً ، وأن الموالد ما هي إلا بدعة ومن يرتادها كافر وزنديق وخارج على الإسلام ، إلا إذا كان من يتولَّى الأمور سلفيون ودواعش وإخوان وجماعت الدينية .

وفقط سأذكِّر بما مضى وأقول : إن حامد محمود باشا وزير الصحة ،  هو من كان يدعم مولد طوخ ، وإن طه حُسين (1306 هـ / 15 من نوفمبر 1889 – 1393 هـ / 28 من  أكتوبر 1973م) وزير التعليم وعميد الأدب العربي ، هو من أنقذ مولد مغاغة من الضياع ، بل إن أقباط مصر في الزمن الماضي ، كانوا يدعمون الموالد الدينية الإسلامية في مصر ، بل و يشاركون فيها بالمؤازرة والتعاطف .

شعب الموالد ،  شعب وديع ومُحب وودود ، لا يحمل في يديه سلاحًا ، ولا يمارس شغبًا ، ولا يخرِّب مُنشأة ،  ولا يخلُق اضطرابات ما في أي مكان يكون فيه .

فأحدهم – في زمن ماضٍ  – سعى يومًا إلى إلغاء موالد السيد البدوي ( فاس ، 1200 – طنطا ، 1276هجرية ) في طنطا أو تأجيله إلى أجل غير مُسمَّى ، بعدما قرأ وصفًا للمولد ، من أنه يجتذب مُريدين وأتباعًا ومُحبين أكثر مما تجتذبُ مكة .

المُولد حريةٌ وبهجةٌ وتجارةٌ رابحةٌ لكل من يشارك فيه .

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *