صلاح عبد الصبور..« أبانا الذي في الأعالي.. أبانا الذي في جوفنا»


كريم عبد السلام

صلاح عبد الصبور كان رأس الحربة في جيل غيّر خريطة الشعر العربي على مستوى الشكل والمضمون، وبقدر ما نسب الفضل للجيل في الثورة الكبرى على تقاليد جمالية موروثة فقدت روحها، بقدر ما كان عبد الصبور هو حكمة هذا الجيل وطليعته الجمالية ونبرته الشعرية الباقية عبر الزمن. بين صفوف هذا الجيل الثائر على التقاليد المتحفية للشعر، كان هناك منشدون يتغنون بالقرية المصرية، وكان بينهم من حملوا لواء الاغتراب في المدينة القاهرة مثل احمد عبد المعطي حجازي وكان بينهم كذلك من قارب على استحياء، اللحظة المدنية المعاصرة آنذاك مثل كمال نشأت وعبد المنعم عواد يوسف، لكنهم جميعا كانوا رومانتيكيين أكثر منهم ثوارا، الوحيد الثائر والسائر على هدى من فكر ونظر وفهم لطبيعة التغيرات الجمالية في الشعر العالمي، والهادف إلى وصل الشعر المصري الحديث بهذه التغيرات كان صلاح عبد الصبور.

لماذا نحتفل بعبد الصبور؟
ولعلي أطرح سؤالين هامين، أولهما لماذا نحتفل بصلاح عبد الصبور؟ وأود الإشارة إلى أن استعادة عبد الصبور عمل لا يحتاج حشدا تقليديا ولا استعراضا وبهرجة، ويختلف مثلا عما قام به المجلس الأعلى للثقافة عندما نظم مهرجانا تقليديا عن الشاعر الراحل ودعا له النقاد والشعراء العرب على نهج «اذكروا محاسن موتاكم» بالدراسات المكررة والنظرات الباهتة والكلمات العقيمة، وقلت ساعتها، إنكم، أي منظمي المهرجان، لا يحق لكم الاحتفال بعبد الصبور وقد تنكّبتم طريقه وحدتم عن منهجه ووأدتم روحه الشاعرة ونسيتم معاني كلماته التي ترددونها ترديدا، فكيف يحتفل النقاد المتكلسون والشعراء الأصوليون والحفظة المرددون بغير فهم وعبدة الأوثان، بصاحب الروح الثائرة، بالشاعر الحق، بصاحب أول ضربة معول موجهة لأوثان الشعر والنقد المتحفيين في عالمنا العربي؟
أفهم أن يكون احتفالنا بصلاح بعبد الصبور أولا احتفالا بأنفسنا، نحن الذين ابتلعناه مثلما يفعل بعض قبائل الهنود الحمر بآبائهم، كي تحل قوة الآباء في الأبناء والأحفاد، نحن الذين هضمنا منجزه الشعري والمسرحي، وتجاوزناه إلى آفاق أبعد، ونحن على علم ووعي بموضع ما هضمناه في جسدنا الجمالي، لا نحتفل بعبد الصبور على غرار المدرسين الحفظة، الذين يدمنون الوقوف بالأطلال وعبادة الأسلاف على غير إرادة الأسلاف بالطبع، لمجرد أنهم عاجزون عن التهام أسلافهم والصعود إلى أكتافهم لرؤية بقعة جمالية أبعد، نحتفل بعبد الصبور طامحين لأن نبقى في لحظة مقبلة مثله تماما، ربوة إبداعية يقف عليها أجيال طالعون ينشدون أرضا جمالية جديدة.
هذه هي روح عبد الصبور التي ميزته منذ ديوانه الأول «الناس في بلادي» عن جميع أقرانه ورفقاء دربه، روحه الوثابة المدركة لمعنى الثورة، ورغم أنه كان أول الراحلين بين أقرانه، إلا أنه ظل الأكثر بقاء وتأثيرا بينهم، عكس الآخرين الذين نفدت ذخيرتهم بعد شوط قصير، وانحدروا إلى الوهدة الأولى، التي صارعوا في بداياتهم للخروج منها، وصاروا أصوليين جماليين صغارا رغم شيخوختهم التي يمرحون في منافعها الرسمية.
المسرح
منذ أعوام عدة أقامت جامعة أوكسفورد الشهيرة مؤتمرا علميا، دعت إليه خمسين ناقدا وباحثا متخصصا، لاختيار أهم مئة شاعر خلال القرن العشرين، ونال عبد الصبور حظه من التقدير باعتباره أحد المئة الأعظم بين شعراء القرن الماضي على مستوى العالم، مع نيرودا ولوركا وإليوت وويتمان وإزرا باوند وريتسوس وغيرهم من الشعراء الكبار. وجاء في تقرير المؤتمر الذي نشرته مجلة «أوان» الإلكترونية أن الاختيار وقع على عبد الصبور باعتباره شاعر «الحياة اليومية»، ورائد التفاصيل وواحداً من الذين كسروا رقبة البلاغة العربية، ونزل بالشعر من عليائه إلى مستويات وآفاق جديدة وغير مطروقة، كما كان رائدا للمسرح الشعري، فأبدع خمس مسرحيات من عيون المسرح العربي: «مأساة الحلاج، الأميرة تنتظر، مسافر ليل، بعد أن يموت الملك، ليلى والمجنون». طالعوا معي ما كتبه عبد الصبور في مجلة «المجلة» عام 1958 حول موقفه من الشعر، يقول: «الشعر الحديث يريد أن يغيّر من تقاليد الشعر العربي في ميادينها الثلاثة، ففي البناء، يريد أن يتبنى أشكالا شعرية جديدة غير القصيدة، أشكالا متكاملة يكون فيها البيت لبنة حية متآزرة مع غيره من الأبيات (….) وهو يريد أيضا أن يكتب الدراما الشعرية الحقيقية التي تتشخص فيها الأبطال وتتمايز ولا تعتمد على المنولوجات الغنائية مثل مسرحيات شوقي وخلفه عزيز أباظة، وهو يعلم أن الشكل البنائي المأثور لا يسعفه على تحقيق كل ذلك، لذلك فهو يكسر عنق البلاغة العربية باستبعاد حتمية التفاعيل واللجوء إلى أبسط صور القيد العروضي وهو التفعيلة الواحدة (….) أما في ميدان التصور الشعري، فهو يرجع بالتشبيه إلى أصله، ذلك الأصل الذي وضح في أقدم شعر روي لنا، حين يقول الشاعر المصري القديم يناجي إلهه «اجعل حبيبي طبقا من تفاح». هكذا سعى عبد الصبور، وحقق إلى حد كبير ما سعى إليه، ونحن بدورنا سعينا إلى تجاوز الخطوط الذي التزم الشاعر الراحل بالوقوف عندها، فلم نشأ إلزام أنفسنا بأية قيود على الإطلاق، على وعي بأن الحرية في الفن أصعب من الالتزام بالتقاليد، تعني الخلق من عدم دون الاستناد أو الارتكاز على وسائل وقوالب تهيمن على مسار القول الشعري وتشكله، وتدفعه دفعا إلى الأرض المطروقة المعتادة التي جاسها الآباء وابتنوا فيها قلاعهم وأحاطوها بأسوارهم وعلاماتهم المميزة. بالنسبة لنا كان تجاوز صلاح عبد الصبور أمرا حتميا حتى نكون أمناء لروحه الوثابة وتمرده الجمالي الأصيل، وحتى يحق لنا استعادته أو الاحتفال به، وأظنه، أي عبد الصبور، لو كان حيا يسعى بيننا، لوافقني دون مجايليه، في ما قلت.
خيمة
كان عبد الصبور إذاً خيمة يحتمي تحتها أقرانه ومجايلوه، كان يكفيهم عناء الابتداع تاركا لهم الاتباع والتقليد، كان يعبد ويمهد الطرق الجمالية فيسيرون فيها من دون أن تنجرح أقدامهم الناعمة، يقعد للفكرة ويؤسس المنهج الذي يسبغ ظله على مرحلة كاملة من التطور الشعري، تاركا خلفه أعلام الريادة الزاهية ليحملها ويدافع عنها من يريد، هو العارف أن الأفكار العظيمة والإلهامات الجمالية لا يمكن أن يتصدى لها أو يحمل عبئها إلا أرواح منذورة لها، معذبة بالبحث عنها والإضافة إليها، وإلا أصبحت الأفكار قوالب فارغة لا تمتلئ، وباتت المناهج أوثانا جديدة تحتمي بها الأرواح الخائرة، وعندما رحل صريعا بسهام أبناء جيله في الحادثة الشهيرة المعروفة، انكشفوا، وظهرت عوراتهم، فالثائر الحق الذي سعى إلى كسر عنق البلاغة العربية الموروثة والعودة بالشعر إلى نبعه الصافي الأول وابتداع أشكال غير القصيدة التقليدية رحل، عن إرث كبير، وترك اللاهثين في فضائه الواسع يبحثون عن موضع قدم لهم أو مبرر لوجودهم الجمالي المشكوك فيه.
لذلك أقول، نحن أبناء الجيل الحالي، أحق بصلاح عبد الصبور وأعرف به وأكثر انتسابا له بالمعنى الإبداعي، من أقرانه وتابعيه الذين سقطوا لضعف منهم تحت سنابكه القوية، لا نعبده ولا نقدسه، ولا نقف به وقوف القدماء بالأطلال، وإنما نلتهمه التهاما ونمزقه نتفا وأشلاء، نلوكه ونهضمه ونتجاوزه ونقف على كتفيه العاليتين ونحن نعرف مواضع أقدامنا، قطعنا أشواطا أبعد مما قطع في اتجاه التخفف من البلاغة العربية التقليدية التي سعى إلى كسر عنقها، وحلقت قصائدنا في فضاء الدراما الأشمل من المسرح الذي اقترحه خيارا جماليا، وقبضنا في أحيان كثيرة على ذلك الصفاء الذي تمنى عبد الصبور أن يعود الشعر الحديث إلى ينابيعه.
السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *