هواجس عمر -قصة قصيرة

(ثقافات)

هواجس عمر

(قصة قصيرة) 

 

هدى أحمد علاوي*

إكتملتْ رؤية القمر، كان ثمّة عرسٌ في السماء في حين ظلّ القمر يسقي قلوباً عطشى لياسمين السهر، وفي ذلك الركن الهادئ جلس عمر  الشاب العشريني الذي تحكي عيناه عن ألف حكاية تدور في رأسه، وكلّ أمله أن يعقد هدنةً قصيرةً ليريح آلامه المزمنة التي حرمته فجأة من النوم  حتى جعلته يهيم وحيداً من مقهى إلى مقهى، فيا ترى كيف يتسنى له أن يستريح هنيهةً إذا ما كان يحمل في رأسه حجراً ثقيلاً؟

تخرّجَ عمر في كليّة الهندسة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، فالمشكلة إذاً تكمن في جوهرها العميق والذي يفسر لنا أنّ مع كلّ هذا التفوّق المرموق الذي أحرزه عمر فأنّه ربما يرى أن هناك ما يقف حائلاً دون وصوله إلى مرماه لينال حقّه الطبيعي في أن يصبح معيداً في الكلية، ولربما القصّة كلّها بسبب أن أحدَ أبناء أساتذته الذي استلب منه حقّه ظلماً، حيث جرت عملية التدليس والغش علناً وأصبح ابن الأستاذ المومأ اليه متفوّقاً عليه بفارق ضئيل جدّاً، فلم يكن ذلك الشاب في الواقع مؤهّلاً كعمر، ولكن لمن يشكي ولمن يبوح بهمه الثقيل مثل جبل؟ فوالده قد أدلى دلوه ليرتقي ابنه لكي يتعلّم جيداً ويصبح ذات يوم معيداً في الكلية، كان عمر يحلم أن يصبح  أستاذاً في كلية الهندسة كي يدخل السعادة على قلب والده الذي خارت قواه وهرم وكان أمله الوحيد أن يتفوّق ابنه، ولكن يظهر أنّ هناك أيديَ تعبث لا بالأوراق وتتحكم في المصير المهني فقط، بل تعبث حتى بالقلوب وتسقيها حزناً، كذلك الأستاذ الفاسد الذي قدّم مصلحة نجله الذي لا يستحق الوظيفة على مصلحة ذلك المسكين صاحب الحق والذي لم يكن ذنبه إلّا أنه لم يكن له ظهرٌ يحميه..

خطا عمر شارد الذهن صوب بيته ليستقري الوضع ويسترجع الاحداث،  وحالما جلس على سريره بدأ يتنفس الصعداء ويتنهّد كالذي تتجسّم على ظهره أطنانٌ من الحجارة،  شرع يفكر في فراديسه حتى غلبه النوم وفي الصباح الباكر حاول الخروج خلسةً خشية ألّا يراه  أحد، مع أن الأب كان مصرّاً على محادثته بتؤدة مع أنّ الدمع كان يسّاقط من عينيه والخجل يضيء وجهه ويفرش على تقاطيعه وروداً حمراً، خاطب الأب ابنه بحنو وحكمة الأستاذ ثم أردف قائلاً:

–      فلترفعْ رأسك في الشمس

–      فطأطأ الابن رأسه هنيهةً وكأنّما غطّت قلبه سحابةُ بردٍ فأطفأت نيراناً مشتعلة، ثم قال من صميم قلبه:  لعلّ الحلم لا يتحقّق إلّا بعد إزالة كلّ ما يثقل ظهرك

–      ردّ الأب ردّاً هادئاً كلّه ثقة: أملي في الحياة أن تشرق شمس الحرية

أثلجت كلمات الأب قلب ابنه ما جعله يملك من العزيمة الصلبة ما يكفي لمواجهة أيّ طارئ، نزل مسرعاً يقصد الكليّة، وحين وصل إلى هناك وجد أحدَ أساتذته كان في انتظاره، وهو كما يراه كان شخصاً نقياً لم تلوّثه المناصب، ولم تعبث به  الشرور، ومن الطبيعي أنّ رجلاً كهذا لا بدّ من أن يمثّل صورة الإنسان المثالي الذي لا يرضى لنفسه أن يظلم أحداً في حضرته، إذ يعرف جيداً أنّ الحق لعمر، خاطبه بكلّ ثبات وثقة..

ـ قال بوضوح تام: لن أسمح لأيّ شخص أن يسلب حقاً لمتضرر/

ستنال غداً هدية انتصارك في المعركة المصيرية، صمت قليلاً ثم قال هلُمَّ بنا نذهب.

خرجا معاً قاصدين مكتب رئيس الجامعة، وعندما دخلا تحدّثا بكلّ وضوح وطمأنينة، والحقيقة كان الرجل منصفاً جداً في تقديراته، ما دام لم يرض ضمناً التجاوزات، ولكنه في الأخير أمسك العصا من منتصفها ثمّ قال منشرحاً:

 ــ حيث تُقام مسابقةٌ بين فريقين، ويعيّن الفائز حينئذ بالاختبار من فوره، فرح عمر كثيراً

فرحاً شديداً، وقد جرى الاختبار بالفعل، كان هذا المعطى سبباً كافياً لينال استحقاقه.

ـــــــــــــــــــــــــ

*  كاتبة من مصر نشرت بعض أعمالها في الدوريات العربية وتستعد لطبع مجموعة قصصية 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *