ديكتاتورية المستنيرين ضد الإنسان

  • سعدون يخلف

في الحقيقة، إلى وقت قريب كنت لا أقرأ مثل هذه الكتب؛ الكتب التي تصوّر بأن كل ما يحدث في العالم من حروب وأزمات، عبارة عن مخططات خبيثة تقوم بها أيادٍ خفية، أو جماعات سرية، تريد السيطرة على العالم، والتحكم في الإنسان.
تملك هذه الحركات مخططات شيطانية جهنمية، وقدرات عجائبية فائقة، تناهض الله والأديان والإنسان، لهذا سعت منذ البداية إلى تغييب الله «الله قد مات» نيتشه، ومحاربة الأديان بتشويه الكنيسة ورموزها (مع وجود مبررات لهذا التشويه، لكنها استبدلت ديناً سماوياً بآخر أرضي أشدّ تطرفاً، وبدلا من أن تحرر الإنسان من المطلق، أوقعته في قفص النسبي) لكي تحقق بعد ذلك الهدف النهائي في السيطرة على الإنسان وقولبته وإعادته إلى حالته الأولى، حالة الطبيعة؛ حيث تمتزج الثنائيات، ويتحد المختلف، لا وجود للشر والخير، ولا للحق والباطل. ينتصر الشّر، لينتشر الفساد، وبذلك تنتقل القوة من السماء إلى الأرض، أو كما يسميها المفكر طه عبد الرحمن «المرحلة السابقة على التخلُّق» مفسراً إياها بأنها «حالة الإنسان قبل دخوله في عملية التخلُّق» أي قبل أن يأكل آدم وحواء من تلك الشجرة الملعونة، التي كانت سبباً في طردهما من الجنة، إذ أنّ كل شيء كان مباحاً في الحياة، وكان الإنسان في تلك المرحلة يعيش في طمأنينة وسكينة.
يعبّر طه عبد الرحمن عن هذه المرحلة بكون الإنسان فيها: «لا يزال غير قادر على التفريق بين خيره وشره، والرّاجح أنها تمثل الوضع قبل تلقي الإنسان النّهي عن الأكل من الشجرة» غير أن «قبل» في هذه المرحلة ليست خروجاً عن الفطرة، لأنها تتسق مع تطور الوجود، أما من يحاول اليوم إحياء تلك المرحلة على الأرض، بإنتاج مسوخ هو خروج عن الفطرة، لأنها تعارض حقيقة الوجود.
وبعد، لقد قلت إني كنت لا أقرأ مثل هذه الكتب، لأنها تستدعي نظرية المؤامرة في تفسير أي شيء، ونظرية المؤامرة، كما هو معلوم، تنطوي على جملة من المغالطات، وتستند إلى أوهام وحقائق زائفة، وإلى رؤية تفسيرية اختزالية؛ كما أن صاحبة الكتاب أولغا تشيتفيريكوفا مؤرخة وباحثة روسية، والروس، كما هو معروف في هذا الشأن، كالعرب، مغرمون بـ»نظرية المؤامرة» فضلا عن ذلك، وهذا هو الأهم، أن مثل كتب كهذه تساهم في بثِّ اليأس، وتثبيط العزائم، وتعزيز روح الاستسلام والعجز أمام الأعداء؛ إذ تجعل مقاومة هذه المشاريع الشيطانية، أو صدِّ هذه المخططات الجهنمية من المستحيلات، لأننا أمام حركات تتميز بأنها كلية القدرة والقوة؛ أشعلت حروباً، واحتلت دولا، واستطاعت أن تهجّر شعباً، واختلقت دولة بناء على أساطير وأوهام؛ لما لهذه الحركات من تأثير قوي في المؤسسات الدولية، ومن سطوة على حكام الدول، بل هؤلاء الحكام ما هم، في الأخير، سوى أدوات وظيفية لهذه الجماعات الخفية، وما كان لهم أن يحلموا بالحكم، لو لم يعقدوا ميثاق الولاء والطاعة معها.
وقد عالج المفكر عبد الوهاب المسيري هذه الحركات في كتابه «اليد الخفية: دراسات في الحركات اليهودية الهدامة والسرية»؛ حيث توصل إلى أنّ محاولة تفسير كل ما يحدث في العالم، ماضياً وحاضراً، ولليهود يد فيه، استخفاف بالعقل، وجناية على الحقيقة، وتزييف للوقائع والحقائق، الهدف النهائي من ذلك هو جعل اليهود قوة خارقة، لا نفع من مقاومتهم، ولا فائدة ترجى من مواجهتهم، وهكذا، فالحرب ضدهم خاسرة، ولا مخرج من هذه المعضلة إلا القبول بهم، وعقد اتفاقات سلام معهم، قائمة على الخنوع والاستسلام، مع أنّ الانتفاضة الفلسطينية، أسقطت هذه الأسطورة، وكشفت زيف هذا الادعاء، بل أظهرت اليهود كغيرهم من الأجناس الأخرى، وبينت ضعفهم البائن؛ حيث انهزم الجيش الإسرائيلي المدجج بمختلف الأسلحة المتطورة أمام أطفال لا يملكون سوى قوة الإرادة، وفي مواجهة شعب لا سلاح له غير الحجارة.

الصراع المقبل صراع خطير، بين من يريد الاحتفاظ بإنسانيته وفطرته من جهة، ومن نزل إلى وحل الهمجية والوحشية وما دون البهيمية من جهة أخرى

لكن، بعد ظهور فيروس كورونا، وما صاحبه من تضليل مفضوح، ومبالغة في التخويف وزرع للرعب.. إجراءات مبالغ فيها قامت بها حكومات العالم، من إغلاق لحدود الدول، وفرض للحجر على الناس الأصحاء والمرضى، ثم إخراج اللقاح في وقت قياسي، وما رافقه من لغطٍ وصخبٍ، بين مرحب به ورافض له، ثم ظهور متحورات كورونا كـ»ألفا، بيتا، دلتا، وأوميكرون..» وغيرها، يقف الإنسان عاجزاً عن إيجاد تفسير منطقي لما يجري. والأدهى من ذلك أن العالم المتطور صار يحتفي ببعض السلوكات الممقوتة للنفوس السوية بطريقة غير مسبوقة، لن تجد له، في واقع الأمر، من مبرر سوى أنّه هجوم على الطبيعة البشرية، وتشويه للفطرة الإنسانية السليمة.
وعليه، نطرح هذا السؤال: هل ما يجري اليوم مؤامرة لاستكمال المشروع المخطط له منذ زمن طويل من طرف هذه الحركات؟ ربما؛ غير أنّ ربما هنا قريبة من تخوم اليقين، بعيدة عن حدود الشك.

ضد الإنسان

يتناول كتاب «ديكتاتورية المستنيرين: روح الإنسانية العابرة» مخططات الطغمة العالمية الحاكمة، من أجل السيطرة على الإنسان، مستغلةً فتوحات العلم، وما توصلت إليه التكنولوجيا من تطور مذهل، كسلاح لإخضاع الإنسانية واستعبادها. تسعى، كما يبدو، إلى تحقيق الهدف الأخير المتمثل في إيجاد الإنسان الإله أو الإنسان المتفوق، لكنه هدف، بلا شك، ينطوي على تدمير الإنسان نفسه، عبّر مخطط خطير ومرعب، يتضمن ما يأتي:
– إفساد الطبيعة البشرية، بتشجيع الشذوذ، وتأسيس مجتمع السدوم، ولن يتحقق لهم هذا المشروع إلا بهدم الأسرة؛ فالأسرة هي موطن الود والأنس ومنبت الأولاد، و»المثلية الجنسية، كما تقول أولغا، في تفسير (العصر الجديد) ليست مجرد تحدٍّ للمجتمع وأخلاقه التقليدية، بل هو التحضير للإعلان عن (دين سدوم) والموافقة عليه».
– إنقاص عدد السكان، من أجل تحقيق التوازن في الأرض، إذ أن الموارد صارت غير كافية، وعدد سكان الأرض في ارتفاع كبير، وقد تطرقت أولغا إلى العديد من التصريحات، التي أدلى بها قادة هذه النخبة، لعل أبرزها تصريح بيل غيتس الذي يربط تخفيض عدد السكان بضرورة إيجاد لقاحات؛ حيث يقول: «هناك 8.6 مليار شخص في العالم اليوم، وعدد سكان العالم يقترب بسرعة من 9 مليارات، وإذا كنا نعمل بشكل جيد حقاً على لقاحات جديدة ورعاية صحية ورعاية للصحة الإنجابية، فقد نتمكن من خفض السكان بنسبة 10% إلى 15%» في حين يقول بول إرليخ، مستشار العلوم للرئيس بوش الابن: «كل شخص يولد الآن يجلب خللا في توازن البيئة وأنظمة دعم الحياة في هذا الكوكب».
– تفكيك الدولة الاجتماعية: إن تفكيك الدولة الاجتماعية من شأنه أن يزيد في عدد الفقراء والمحرومين، الذين لا يجدون من يمد لهم يد العون والمساعدة، ما يؤدي، بالضرورة، إلى انخفاض عدد البشرية، في هذا الصدد تقول أولغا: «سيكون ما تبقى من البشرية، والمعروفة باسم (الموارد البشرية) محرومين من مساعدة الدولة بسبب التفكيك الكامل لـ»الدولة الاجتماعية» ويتحولون إلى كتلة مطيعة، ما يؤدي إلى انخفاض حاد في تعدادها».
– غرس شرائح إلكترونية في دماغ الإنسان أو في جسمه للتحكم فيه أو السيطرة عليه.
توضح أولغا تشيتفيريكوفا هذه النقاط المختصرة عندما تقول: «وانطلاقاً من زرع الرقائق الإلكترونية في أدمغتهم، سيكونون تحت السيطرة الكاملة، وتحت ستار المساعدات الإنسانية، ستفرض برامج تنظيم الأسرة، وتوزع وسائل منع الحمل والإجهاض والعقم عليهم، ثم تحول هذه الكتلة البشرية إلى سيبورغات (Cyborgs) قادرة على تنفيذ أي طلبات، وتقديم أي خدمات» وعند الضرورة استبدالها بـ»روبوتات» تضيف الكاتبة.
إن أقل ما يوصف به هذا المشروع الجهنمي هو الجنون الممزوج بالعبقرية، لأنها عبقرية تهدف، كما تقول أولغا، إلى «تبرير نظرية شعب الله المختار، فالبشر الفائقون/ الخارقون، يمكنهم وحدهم فقط التحول إلى بشر مستنيرين».
تجدر الإشارة ختاماً إلى أنّ الباحثة في كتابها تفضح العديد من الأسماء الفكرية، والمؤسسات الدولية، كاليونسكو مثلا، المنخرطة بصفة أو بأخرى في هذا المشروع المدمر، ربما تكون عن قصد أو عن غير قصد. وعلى هذا الأساس، فإن الصراع المقبل هو صراع خطير، لأن إنسانية الإنسان على المحك؛ صراع لا تهمّ فيه الجغرافيا، ولا الأيديولوجيا، ولا الدين، ولا اللغة؛ لأنه، ببساطة، صراع بين من يريد الاحتفاظ بإنسانيته وفطرته من جهة، ومن نزل إلى وحل الهمجية والوحشية وما دون البهيمية من جهة أخرى.

كاتب جزائري

عن القدس العربي

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *