*هيثم حسين
هل يمكن للبشر التداوي من جراحهم وغربتهم ومنافيهم الداخلية؟ سؤال تبحث له السلوفاكيّة أورشولا كوفاليك عن إجابات في روايتها “امرأة للبيع”، وتقدّم مقترحاتها عبر قلب الحالة المستعرضة، كأنها في لعبة مرايا عاكسة، تحوّل الشخصيّة التي كانت تعرض صداقتها للبيع إلى شخص يحتاج المساعدة ممّن كانت تساعدهم.
توظف كوفاليك في روايتها -التي نشرتها دار العربي بالقاهرة مؤخرا بترجمة خالد البلتاجي- حالة التخبط في المراحل الانتقالية للبشر، وبخاصة مع التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى -كما في تشيكوسلوفاكيا وأوروبا الشرقية- وظهور مترسبات كان يتم التعتيم عليها وإغفالها.
وتحاول الروائية السلوفاكية تفكيك قطبَي معادلة النبذ والاندماج أو الاحتواء، لتظهر كيف أن إيقاع الحياة الرتيب لا يبقى على حاله حين الانتقال من الريف إلى المدينة، ومن مدينة صغرى إلى العاصمة، فلكل مكان طقوسه المختلفة وإيقاعه الخاص، وهذا ما يرغم الشخصيات المتنقلة من فضاء إلى آخر على اتباع سلوكيات تلائم المكان الجديد، وينعكس ذلك على الذين تلقي بهم المصادفات في مواجهات لا بد منها، بحيث يكون لكل امرئ تعامل خاص يتوافق مع عاداته وذهنيته.
مسارات كاشفة
تتناول كوفاليك حكاية فتاة قادمة من مدينة نائية إلى العاصمة (براتيسلافا) تبحث عن طريقة لتثبت بها ذاتها ككائن اجتماعي فعال، وهي التي تعتمد غالبا على المعونة الاجتماعية مما يصنفها كعبء على الآخرين، وتنال منها البطالة بحيث تفقدها الثقة بنفسها وتضعف إرادتها في مواجهة المخاطر المحتملة، ويتراجع لديها الإحساس بالقوة لدرجة تبدو فيها ضعيفة متهيبة من كل شيء.
ترصد الكاتبة عبر مسارات بطلتها “تشابيكا” الفروق الشخصيّة من جهة، والفروق الاجتماعية والطبقية من جهة أخرى في بلد شهد تحولا في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كسلوفاكيا (تشيكوسلوفاكيا السابقة).
لا تنفك “تشابيكا” تعزز من آلياتها الدفاعية كامرأة تريد بلورة هويّتها وتحقيق ذاتها وطموحاتها، لكن الظروف العصيبة التي تمرّ بها المدينة تبقي تأثيرها محدودا، فتضطر إلى اكتشاف عمل غير مسبوق، وهو افتتاح شركة لبيع الصداقة والرفقة، تعرض فيه خدمات الصداقة والمرافقة والإصغاء.
ويكون دورها محصورا في الاستماع إلى العميل المفترض، والترويح عنه بالاستماع لأحاديثه، بحيث تكون صديقة مؤقّتة، تكتم أسرار زبائنها، وتتعامل معهم بموجب عقد واضح.
تُبرز كوفاليك كيف أن الصدمات المتلاحقة تترصد لأي وافد جديد إلى العاصمة التي تكون وعاء ينضح بكل مختلف وغريب، وترغم على التحلي بالقوة والاستقواء دوما بالمهارات الذاتية وتطويرها.
تتعرض “تشابيكا” لسلسة من الصدمات حين انتقالها من حياتها البسيطة من عالم البطالة إلى عالم العمل، يرافق ذلك تغير في المزاج والسلوك والتصرفات، تلاحقها لعنة والدها المدمن، وبحث محموم عن أخ غير شقيق من أبيها عرفت عن وجوده بالمصادفة، ثم تكون الصدمات التالية أكثر تأثيرا وإيلاما.
“تشابيكا” التي تعرض خدماتها للبيع، تنوه عند كل لقاء عمل أو اتصال أنها ليست بائعة هوى، إنما هي تبيع الصداقة وتتفانى في عملها. تنهض بدور الطبيب المداوي لجراح الأرواح، وذلك بإحسانها الإصغاء، بحيث تبرز من خلال ذلك الاغتراب الذي يسكن أرواح البشر في العاصمة، إذ لا يجد المرء فيها أحدا يصغي إلى همومه أو يبدد وحشته ووحدته. كما تظهر حالة الغربة والمنفى وسط أمواج من البشر ينشغلون عن بعضهم بعضا بطريقة تودي بهم إلى حافّة اليأس والجنون.
تسليع القيم
“العمارة، موريل، كورنيل، بيبي، الأنا المغتربة”. نقاط أساسية في خريطة المدينة للبطلة، وعلامات فارقة في خريطتها النفسية. وتبين الحلقات التي ترسمها الروائية لتحركات بطلتها ولقاءاتها حجمَ البؤس المغلف ببهرج المدنية. أولى تلك الحلقات العمارة التي تسكن فيها وانغلاق الناس وتوجسهم من بعضهم بعضا.
ثم تأتي حلقة عملائها، وهي التي تبين أوجه المدينة الحقيقية، فعميلتها “موريل” امرأة ذكية ومديرة ناجحة في عملها، لكنها تعيش كآبة فظيعة وهي مدمنة على الخمور، ولا تني تثير المشاكل في السهرات، وهي المسكونة بجرح لا يندمل.
وكذلك يكون عميلها “كورنيل” المقعَد نموذجا للفرد الذي يتخلى عنه المحيطون به إثر إصابته بعاهة دائمة، وانتظاره الموت البطيء، وإدمانه المخدرات كوسيلة للهرب من الأوجاع إليها. كما تكون عميلتها الأخرى “بيبي” -الفتاة العشرينيّة التي تزوّجت رجلا يكبرها بأربعة عقود- مثالا على استغلال الشباب والطريقة الخاطئة في تحقيق المكاسب، وخطورة الانسياق وراء صرَعات الموضة التي تودي بالمنساقين في عمائها تاليا.
تعالج كوفاليك ظاهرة العيش بشخصيات مزدوجة كدليل على الهرب من مواجهة الذات، كما تشير إلى حالات مؤسفة من سفاح القربى تتواجد في المجتمعات التي تسير نحو الحياة الاستهلاكية، وتتجاهل القيم الاجتماعية وضرورة الالتفات إلى الجانب الإنساني.
تحضر لديها الحالة في أكثر من نقطة، كحالة موريل ووالدها الذي ابتزّها طيلة خمس سنين ما خلق لديها عداء تجاه جميع الناس وأثار لديها بغضا لا ينتهي. ثم تكون اللقطة الأخرى في حالة “تشابيكا”، التي تحاول الانطلاق لتلبية رغبتها بمصادقة عابرة، فتفجَع لاحقا أن ذاك العابر كان الشقيق المفقود الذي تبحث عنه.
تكتشف البطلة عمق الصداقة التي ظنت أنها كانت وهما وسلعة لا غير، وذلك حين تتعرض لحادثة سيّارة، فتقدّم لها موريل مساعدة غير متوقّعة، دأبت على عيادتها في المشفى، وكذلك كورنيل وبيبي.
ثمّ في الملتقى يتعرّف عملاؤها إلى بعضهم بعضا، تخبر الجميع في لحظة مكاشفة أنها احتفظت بأسرارهم عندها ووفّت بعهدها والتزمت بعقدها معهم. ثمّ يكون عيد الميلاد إيذانا ببدء مرحلة جديدة بالنسبة للشخصيّات كلّها، وكأنّها ستنطلق في دورة زمنية جديدة بعد استشفائها من عللها بالبوح والمكاشفة.
________
(الجزيرة)