الراحة المضنية
حسن م. يوسف
ذات يوم، قبل تسعة أعوام من بدء هذه الحرب الإجرامية التي تشن على بلدنا الحبيب سورية كنت منهمكاً بكتابة عمودي “عقل في الكف ” في جريدة تشرين، عندما اقترب مني الصديق الشاعر والإعلامي الراحل أحمد تيناوي لروحه السلام وعطر الياسمين. لم يكن مبتسماً كعادته عندما يراني. ونظراً لأنني كنت ولا أزال أحبه كثيراً، فقد ابتسمت له مرحباً به قبل أن أسأله عما يكدره، لكنه لم ينتظر سؤالي بل نظر إليّ بجدية بالغة وسألني: “متى ستيأس؟”
فاجأني السؤال حقاً، لذا ظننت أنه يمزح لكنه كرر السؤال بالجدية البالغة نفسها.
لست أذكر على وجه الدقة ماذا قلت له آنذاك، لكنني أذكر آخر كلمات قلتها له: لن أيأس إلا عندما أموت. يومها لم يجلس أحمد تيناوي معي وخرج دون أن يقول شيئاً.
بعد أيام، جاء أحمد تيناوي إلى الجريدة حاملاً لي نسخة من ديوانه “أندلوثيا”، قدم لي النسخة مبتسماً وراح يراقبني وأنا أقرأ الإهداء الذي كتبه على الصفحة الأولى. كان الإهداء كما يلي بالحرف الواحد: “إلى حسن… أنت يا صديقي تصنع الحب… لمن يا حسن؟ لقد فقدت ثقتي بهذا الكائن البشري. عذراً منك”.
قرأت ديوان أحمد تيناوي بجلسة واحدة وانتهيت منه قبل كتابة هذه الكلمات، والحق أنني ضحكت بعد الانتهاء من قراءة المجموعة، لأن كل كلمة فيها يفوح منها عطر الإنسان الأخاذ، وهي بالتالي تتناقض جوهرياً مع الإهداء المتشائم المقبض الذي يعلن فيه أحمد تيناوي فقدان ثقته بالكائن البشري. في اليوم التالي كتبت زاوية قلت فيها: إن من “يشعل المساء بفوانيس العرب المنطفئة” ويقول إن “دمشق لا تكشف رأسها للغرباء.” لا يحق له أن يفقد ثقته بالنوع الذي ينتمي إليه!
لو أن أحمد تيناوي فقدَ ثقته بالإنسان كما قال، لما باح للقارئ كما لو أنه صديق حميم: “بعد القبلة الأولى عرفت نبوغ الكلام بلغة أخرى” ولما كشف له حقيقة نفسه: “بكل حرية أقول لك إنني لست رجلاً حراً”. ولما باح بحساسية مدهشة بما قاله لحبيبته الأندلسية: “كنت سأخسرك على أي حال/ فأنا لم أتعلم أن أساوم على غيرتي / وأنت لم تتعلمي أن تساومي على حريتك”
أعتقد أن من “يعد بائع الورد منذ خمسة وعشرين عاماً أن تكون الوردة آخر هزائمه” لا يمكن أن يكون جاداً عندما يعلن فقدان ثقته بالكائن البشري! نعم يا أخي أحمد، لا بأس أن نفقد ثقتنا ببعض الكائنات الرديئة، لكن أستاذنا المفكر الحكيم أنطون مقدسي علمنا أن أي يأس من الإنسان هو خطأ لا يغتفر!
ويومها أنهيت الزاوية بالعبارة التالية: أحمد تيناوي أيها الشاعر الإنسان، إنني أثق بك!”
يعلم قارئي المتابع أن الأيام الأربعة الماضية كانت من أقسى أيام حياتي، فقد فقدت يوم الجمعة الماضي، الصديق والزميل وليد معماري الذي رضَّ غيابه روحي، فكتبت زاوية في جريدة الوطن بعنوان “أخي في الحبر والأحلام وليد معماري”. والحق أن اعتراف الناس بفضل وليد “الذي يصح فيه قول رياض الصالح الحسين: “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس” قد واساني الى حد ما.
من بين مئات التعليقات التي نشرت على الزاوية هزني تعليق كتبه زميلي وصديقي الغالي الروائي والسيناريست المبدع قمر الزمان علوش. يقول قمر الزمان في تعليقه الذي فاجأني: “منذ أربعين عاماً وانا أحسدك… من أين تأتيك طاقة الحب هذه كلها؟ اشتهيتك أن تستريح ساعة واحدة من هذا العبء… عبثاً!”
عندما قرأت هذا السؤال المربك الذي يأخذ شكل المجاملة، فكرت أن أتجاهله، لكنني عدلت عن ذلك لأن السؤال يتيح لي الفرصة كي أثبت لصديقي الجميل قمر الزمان علوش، أن الندم أسوأ بكثير من التعب، فقد علمتني الحياة أن التعب ينغسل بالراحة، لكن بعض الأشياء لا تكوي الروح وتبقى راسخة كالوشم في ظاهر اليد.
طوال علاقتي بالصديق الناقد السينمائي الكبير سعيد مراد لم أقصر يوماً عن إيصاله بسيارتي السلحفاة إلى بيته في دمر سوى مرة واحدة، بعد الحفل الذي نظمناه لمناسبة مرور أربعين يوماً على رحيل أبهى أبناء جيلنا فواز الساجر في مسرح الحمراء بدمشق.
كنت قد بذلت جهداً كبيراً قبل الحفل وخلاله، وعقب الحفل، جئنا إلى بيت فواز كي نأخذ بخاطر زوجته، وأطلنا الجلوس، وقد كنت شديد الإنهاك عند انصرافنا، فطوقني سعيد مراد بذراعه ونحن ننزل الدرج مغادرين بيت فواز قائلاً: “دور من يا أبا الحسون؟” ثم أردف قائلاً:” اذهب ونم يبدو عليك التعب.” يومها تواطأت مع تعبي ولم أوصل سعيد مراد الى بيته، ومنذ ذلك الوقت وهذه الذكرى تكويني لأن سعيد مراد توفي بالجلطة، مثل فواز الساحر، بعد أقل من شهرين.
نعم يا صديقي قمر بعض أنواع الراحة مضنية أكثر من التعب! فتعب الجسد يزول أما آلام الروح فلا تزول إلا بانعتاقها.
- عن موقع “فينكس”