“رتابة مميتة” و “نمو النبتة”: قصّتان مترجمتان لآنا ماريا سيمو

رتابة مميتة *

 ” آنا ماريا سيمو” *

ترجمة ” إفلين الأطرش”

واستمرّ صوت المذياع.
” أكاذيبك، أكاذيبك المُغرية …”

كان لصوت المذياع وقعَ علبة الصفيح. لو أنها تستطيع أن تبيعه. لم تكن تدري ماذا تفعل بهذا المذياع المُبارك! الذي يحتاج إلى التصليح دائما. “أكاذيبك، أكاذيبك المغرية…” ألا يتعب هذا المغني يا أمّاه؟ ضحكت الفتاة. ما أسخفني. إنه مجرّد تسجيل.. حَدرت ماريا روزا الكرسي. كان المذيع يقرأ الدعايات الآن. فكّرت بأن هذه الدعايات لا تتغيّر أبدا. إنها تذكُرها منذ بدء الزمن. ترك حذاؤها آثاراً متربة على الكرسي، فنظّفته ماريا روزا بطريقة ميكانيكية. ستُخلي طاولة الطعام الآن. بدأت نقل الأطباق القذرة عن الطاولة مُكوّمة إياها في حوض الغسيل في المطبخ. “لن أغسلها اليوم”..

كان من المدهش أنها لم تسمع صوتها الأجشّ. المرأة العجوز تلحّ عليّ دائما: “لا تقفي في مجرى الهواء، يا فتاة، وإلا ستصابين ببرد”… إنها كثيرة الاهتمام بي. لا، إنه لم يكن اهتماما فقط، إنها تعرف ذلك؛ إنه اضطهاد، مراقبة أبدية، جزء من أنانية أمّها السلوكية. أنهت تكويم الأطباق في الحوض. توقّف المذياع، يجب أن تضربه بيدها حتى يعمل من جديد. اتجهت إلى غرفة الطعام ورفعت صوته.

عندما أصبح صوته عاليا جدا، ذكّرها صوت المذيع بصوت إميليو. فكّرت به. حاولت إقناع نفسها: كان يجب أن يتزوّجا. شعرت بلا شيء. لم يكن لديها أيّة مشاعر تجاه أحد الآن. خرج الأصدقاء القدامى من حياتها وعلى إميليو أن يبقى بعيدا أيضا. هكذا أفضل، أن تكون وحيدة. كانت دواخلها تَعبة. تخيّلت بأن التعب إذا ما ظهر، فيجب أن تُخرج ضوءاً ضعيفا من حياتها، كامرأة عجوز صغيرة.. امرأة عجوز خائبة.. اجتازت الشقة إلى غرفة الطعام. تطلعت خارجا من النافذة. كان صوت المذياع عاليا جدا.. ماذا سيقول آل فراغاس؟ ماذا سيقول آل مارتينيز؟ ماذا سيقول آل سانتوز؟ لا تهتمّي لما سيقوله آل فراغاس من يكونون على أية حال؟ شعرت أنها تَعبة من جديد. وقفت أمام النافذة ونظرت إلى الخارج. هناك في مدخل البناية المسقوف يجلس آل فراغاس. إنهم يفعلون ذلك كلّ ليلة. المذيع يفعل نفس الشيء أيضا. وكذلك هي..

غادرت النافذة واتجهت صوب المرآة المعلّقة على الحائط ونظرت إلى نفسها. كانت المرآة مكسورة. كان يجب تغييرها. كانت تعرف بأنها لا تقدر؛ فهي ذكرى عائلية، كأي شيء آخر في البيت. تفحّصت نفسها قائلة: ” أعتقد أن لدي شعراً رماديا”.. ثم نظرت إلى التقويم المعلّق فوق المرآة، أي يوم هذا؟ لا يهُم. كلّها سواء.. ضَحِكت. اليوم، البارحة، غداً، غداً لن يكون نفس الشيء. ماذا سأفعل الآن.. كانت تعرف بأنه سؤال عظيم. هي ماريا روزا بيرموديز ستفعل نفس الأشياء كما فعلت سابقا. كلّ واحد هناك كان يفعل ذلك. لن تذهب إلى دار السينما المحليّة.. لقد رأيتُ الفيلم المكسيكي مرتين… فكّرت أن تنضمّ إلى آل فراغاس في المدخل. نتحدّث. أستطيع التحدّث.. كانت تعرف أن هذا مشكوك به. من الممكن أن تثرثر مع آل فراغاس، أن تمازحهم كما آل سانتوز، وبيريز، لكن أن تتحدّث معهم؟ يقدرون أن يتحدّثوا عن أنفسهم فقط، عن حياتهم الرمادية الكالحة، ويفعلون ذلك برضى تام عن أنفسهم وبكبرياء أيضا.

تذكّرت المذياع. لا يزال يعمل. سأهدر كثيرا من الطاقة.. كانت في طريقها لإغلاقه ولكنها لم تفعل. فكّرت كيف ستكون الأشياء لو أنها تزوجت إميليو. كلّ شيء سيكون مشابها لما هو عليه الآن، أو أسوأ. ستكون زوجة بدينة، مخلصة وراضية. نظرت إلى الساعة لشعورها بتعب أكبر. كانت قد جاوزت الثامنة. سيكون آل فراغاس والباقون في أسرّتهم خلال نصف ساعة. ربما عليها أن تذهب مع إحدى جاراتها للتفرّج على واجهات المحال. لا، إنها دائما رتيبة. أكوام من الملابس، واحد فوق الآخر، أكوام مملّة من الملابس. دائما نفس الشيء. واجهات المحال، السينما، المذيع، البلدة، الناس، وهي نفسُها. كان المذياع لا يزال يضجّ بموسيقى حادّة. الثامنة والنصف. دخل آل فراغاس، وأُغلقت الأبواب.

بدأت هي إغلاق النافذة. يجب أن يتغيّر كلّ شيء. يجب أن يتغيّر. ثم فتحت الباب. أضاءت غرفة المعيشة. هدرٌ للطاقة. دخلت غرفة النوم وأضاءتها أيضا، لا تكترثي للطاقة. قالت أمها بأن الكهرباء مرتفعة الثمن. ذهبت إلى غرفة الطعام، يجب أن تخفّض من صوت المذياع، لأن الوقت متأخر. يجب ألا تفعل ذلك. قلبت المذياع. غيّرت محطة البثّ فسمعت نفس الصوت كالسابق. ” أكاذيبك، أكاذيبك المغرية.. أكاذيبك المغرية.. أكاذيبك المغرية…” دائما نفس الشيء. ضحكت. أكاذيبك، أكاذيبك المغرية…نفس الشيء، نفس الشيء، نفس الشيء. إنها خائبة، بائسة.
غمغمت: نفس الشيء، ثم صعدت فوق الكرسي. نفس الشيء، دائما نفس الشيء. قفزت عن الكرسي. تأرجح جسدها متدليا من الحبل. ” أكاذيبك، أكاذيبك المغرية…” كانت الأضواء تشتعل في البيت كلّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** ـــ آنا ماريا سيمو: من مواليد كوبا العام 1943 . كتبت مجموعتها القصصية الأولى قبل التاسعة عشر من عمرها، ولها عدد كبير من القصص القصيرة. كما كتبت في الرواية والمسرح. آخر رواياتها صدرت العام 2018.
** ــ رتابة مميتة: إحدى قصص مجموعة للمترجمة بعنوان ” مختارات من القصة الكوبية الحديثة” الصادرة عن دار منارات العام 1987 ، صارت تحمل اسم هذه القصة في طبعاتها اللاحقة مع تغيّر اسم دار النشر. وللكاتبة قصة أخرى بعنوان” نموّ النبتة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“نموّ النبتة”

1
كانت أمي هي التي أحضرتها، مخبأة في طيّة فستانها أو بين أوراقها الموسيقية. لا بدّ أن تكون قد وقعت في زاوية رطبة، معتمة من الحمّام، إذ لم تكن قد أعلنت عن وجودها الحيّ لعدة أشهر. كان الحمام هو المكان الوحيد الذي لا يصل إليه ضوء الساحة القوي؛ حيث لم يكن لبلاطه أيّ نقش يمكن لأرجل الصغار أن تدور حوله، أو أشكال من البورسلين تنتظر اللحظة المناسبة لتُكسر فيبدأ والدي التوبيخ بسبب الضجة. لا، لم يكن ثمّة أخطار في الحمام. إذ إن بابه هو الوحيد الذي له قفل في البيت كلّه. فيمكنك أن تغلق على نفسك وتستلقي في حوض الاستحمام لتقرأ. في نصف الظلمة هذه، نظّف النمل شقوق البلاط، وكانت هناك العناكب المعششة في قماش القنب الذي تدلى من سطحه الخشبي، والسحالي الشاحبة التي تبصبص في الداخل من مفاصل النافذة. كانت النافذة عالية، ومحمية بقضبان صدِئة وضعت هناك ليلتصق بها وجهك لساعات من غير انقطاع. هنا فقط، ما بين القرميد البارد، والذي لم يكن يبالي به أحد، استطاعت البذرة البقاء.

كانت ملامحها غير واضحة تماما، ولكنها بدت تافهة تماما بقشرتها المخطّطة الوَسِخة. ومن شقّ الأرضية حيث كانت مدفونة، كان باستطاعتها أن ترى فقط حائطا عاليا من الآجر الأبيض ينتهي بمرآة. في الليلة الأولى شعرت بغبار خفيف يسقط بجانبها. دارت حولها مئات الأرجل، بعضها لزج وبعضها طويل. ثمّ كانت لحظة امتدّ فيها لسان فطواها وكان هذا مؤشرا على أنها ستُبتلع. ولكن قشرتها كانت قاسية ومرّة، فانسحب اللسان بسرعة. استلقت البذرة دون حراك وداسوا عليها؛ لعبوا بها حتى غُطيت تماما بالغبار الذي أسقطه النمل الأبيض من السقف. ثم لم يزعجها مزيد من الأقدام، الأعين أو الألسن الواخزة لليال كثيرة.

2
اكتشفت الآن عالم التربة والرطوبة أسفل رأسها. اختفى كلّ من الحائط الأبيض والضوء الضعيف المصفّى الآتي من النافذة. أراحت ظهرها تحت قناع من حبيبات سوداء أسقطها النمل الأبيض. وعندما حفرت لها الديدان البيضاء سريرا، بدأت تشعر البذرة بأنها قد ابتُلِعت.
انفجرت ذات مساء هازّة العالم السفليّ كله؛ انفجر من جانبها خيط رفيع قوي. في البداية لم تدرِ ما تفعل بهذا المِجسّ، القادر على التحرّك ليجد له مسكنا في الأرض. بعد فترة تعلّمت كيف تستخدمه من أجل إبعاد الديدان عندما تقترب منها. تضاعفت المِجسّات. انهارت التربة تحتها حيث كانت تَدفع بقوة. وصلت تماما مستوى الماء الدائم الجريان، وعندما بدأت تنمو للأعلى، اقتربت من السطح في كلّ دقيقة. حطّمت الحجارة الصغيرة بينما كانت تنهض، وسحقت النمل الذي ركض بحريّة فوق جسدها قبل عدة أسابيع. وبوصولها الهواء شعرت بعطش شديد.
كانت لا تزال ساقا شاحبة، ولكن المخلوقات لم تجرؤ على الاقتراب منها ليلا. عندما ظهرت الأوراق وامتدّت وقوي نموّها، انزلقت العناكب إلى الأسفل لتفحّصها. رأت السطح القرميدي كسطح ساذج يعكس لونها، الذي أصبح أخضر داكنا الآن.
احتاجت المساحة كلها لنفسها. فتلاشت السحالي والنمل، والجنادب من الحمام في وقت قصير. استقرّت قشورها نصف المتآكلة على الأرض، وأطبق الصمت. كانت النبتة وحيدة.
3
” ما يتحلّل من جسد الإنسان يصبح جزءا من روح نبات الأرض” .
كانت أمي أول من اختفى. لم يلحظ ذلك أحد في البداية، حتى أصبح تطاير أوراقها الموسيقية في أرجاء البيت نادراً، وقلّ عدد الأكواب المهشّمة، كما توقّف تلميع الأثاث. تمنّى والدي دوما أن يجدها في أية لحظة داخل درج صغير من أدراج خزانة الملابس، أو تخترع لعبة مذهلة للأطفال ، أو تجلس أمام مراياها النحاسية. فكّرت أنا وأخي بأنها قد جعلت من نفسها شيئا خفيا، غير مرئي، لتكون قادرة على المشي فوق السقف. نسينا غيابها تدريجيا، ولا حتى والدي أظهر حزنه بمزيد من المشي على رؤوس أصابعه هامسا لنفسه. بدأ تعنيفه من جديد. ركضنا في كلّ أرجاء البيت متحاشين يده المخيفة، التي تستطيع الوصول إلى أي مكان.
تدبّرت أمري بأن أختبئ في الحمام. انتظرت هناك حتى اتجهت خطواته إلى غرفة أخي. ثم نظرت بثبات إليها؛ تابعت نموّها، غطّت الحمام تماما. انتظرني أخي في الخارج. كان يبكي، وذراعاه مزرقان من الضرب. لم يكن سريعا في اختبائه، كونه ابن ثلاث سنوات. لكنه فهم المسألة عندما أريته قفل باب الحمام وسلة الملابس الوسِخة حيث لن يخطر على بال أبي البحث.

4
في اليوم الذي سقط فيه أخي عن الرف العلوي ومعه وعاء الحساء الزجاجي، لفّ والدي حزاما جلديا ضخما حول قبضته. نادى أخي بصوت ناعم مشوب بالحنق، ممسكا بالحزام خلف ظهره. مشى في كلّ أرجاء البيت، دون أن يتوقّف أبدا. عندما بدأ بهدوء يضرب أحد مقاعد غرفة الاستقبال كانت قد أظلمت تماما. استمرّ في ضرب المقعد حتى وقع على الأرض منهكا. بقيتُ مستيقظة، أرقب القطط تعبر خزانات المياه على السطح. مع بزوغ الشمس اتجهت إلى الحمام لأخرج أخي. ذهبت مباشرة إلى سلة الملابس الوسِخة. كان هناك صرصور في القاع فقط، يقضم أفضل قمصان والدي. سمحت له بأن يحدث ثقبا كبيرا في القماش. ثم رفعته من إحدى أرجله ووضعته على البلاط. ركض إلى النبتة واختفى ما بين أوراقها.

5
في منتصف كل يوم كان والدي يَظهر للعيان باحثا عن أخي في كل أرجاء المنزل. وقفت في طريقه، واستمرّ يبحث بعناية خلف كلّ سرير. ذات صباح وجد الكتب الممنوعة التي احتفظت بها في غطاء البيانو. أضرم فيها نارا كبيرة في ساحة البيت، ونثر الرماد.
في اليوم التالي راقبني. رآني أذهب إلى الحمام، فانتظرني حتى أخرج ثم دخل هو نفسه بحزامه الجلدي الطويل. سمعته يضحك في الداخل وعرفت أنه كان ينتظر أن يُمسك بي. لم أرجع. أمضيت كلّ ما بعد الظهر والمساء أخطُر فوق أشكال بلاط غرفة الاستقبال. مكث في الحمام بنفاذ صبر، دون أن يصدر عنه أي صوت. حاولت النظر من تحت الباب لأرى قدميه اللتين يجب أن تكونا قد خدرتا الآن. لم يكن هناك شيء على البلاط سوى فاكهة سوداء صغيرة جدا وابزيم الحزام. كنت وحدي. تنفست بعمق، بلطف، وبلطف شديد، دفعت الباب. كانت النبتة الضخمة تنبض بسرعة في العتمة. اتجهت إليها. كانت محززة بعروق وعُقد جميلة. كان نَفسُها دافئا. كانت تنبض بالحياة. ولكي أشعر بها أفضل، وجب علي خلع حذائي. كانت اللمسة الأولى لواحد من سيقانها ناعما جدا. سمحت لها أن تجذبني باتجاه مركز نموّها. التفّت الجذور حول كاحليّ، غطّت الأوراق ذراعيّ تدريجيا.
الآن تنمو النبتة كلها بعذوبة، لتنغلق حول رقبتي وتدخل عيني وأذني. إننا نتنفّس معا هي وأنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *