الفيلسوف و البكتيريا

  • عمر البوغانمي

لكل فيلسوف ولع بحيوان معين يكرر ذكره في مؤلفاته أو يرتبط لدى قرائه به كلويثيان هوبز و كلب أو ذئب أفلاطون، نسر و أفعى نيتشه، كلب شوبنهاور، سلحفاة زينون الإيلي, صرصار كافكا…..إلخ. و جيل دولوز ليس إستثناء لكن حيوانه الذي يتماهى معه لا يعدو أن يكون البكتيريا.

هل يجوز تشبيه جيل دولوز بالبكتيريا؟

يجب أولا تسجيل إعتراض دولوزي على صيغة السؤال ذاته: عبارة ” يجوز” تعني فيما تعني العودة إلى مرجعية ما, التحرج من السؤال و تعويمه بالبحث عن قواعد و قوانين سابقة عنه و غالبا متسامية عنه. ربما أهم ما يمكن تعلمه من دولوز هو تجاوز المرجعيات المسبقة, فالسؤال هو سؤال دفعة واحدة أو لا يكون, لا حاجة له لرخصة أو لتبرير, ابن الصدفة, ابن العنف, ابن العفوية, هو ” النجم” ذلك العشب الذي ينبت هكذا أينما اتفق دونما حاجة لزارع أو لبستاني يعتني به.

   البكتيريا, ذلك الكائن الأولي البسيط الذي لا يهم إلا باحثا بيولوجيا أو فيلسوفا متطرفا كدولوز, يمتلك فضيلة يندر وجودها عند غيره. فهو ينتقل ببساطة و عفوية إلى أي مجال: قشرة برتقال, تجويف فموي, قطعة “خبز حاف”, لعاب ” كلاب الحراسة”….إلخ و بمجرد العثور على أبسط شروط الوجود, حرارة مناسبة مثلا, يستقر, ينتج نفسه. يتكاثر, ” يتبكتر” إن أمكن القول, يستقر كما يليق به, يمتد و يصنع مجاله الحيوي في انسجام تام مع ذاته : ينفعل مع محيطه, أي مع العناصر التي تعنيه و تهمّه مهملا كل ما يتجاوزه أو يتنافى مع طبيعته ( الأزمات الاقتصادية, فوز اليمين أو اليسار, جائزة نوبل, تسعيرة الوقود, الفرقة الناجية…و كل ما نحشو به جدران الفيسبوك الوهمية من أفكار أكثر وهمية), ينصب خيمته و يرسم حدود بريّته بسرعة و عفوية. ما أريد قوله هو أنه يحل بأي فضاء/مجال يحتويه بسلاسة كأنه مجاله الطبيعي و يرحل عنه إلى آخر بنفس البساطة و العفوية, لا حنين, لا ارتباط, لا كراهية, بل ربما قليل من الامتنان.

ما علاقة هذا بجيل دولوز؟ حقا؟ ألم تر كل هذا التشابه؟

دولوز يحمل أسئلته بعيدا عن مضارب الفلاسفة, أينما وجد مقومات التفكير يفتح حقيبته و يركّب آلته الفلسفية ليصنع المفاهيم : صالة سينما, حلقة نقاش حول أديب أمريكي, بحث حول أساليب تواصل سلالة طيور إستوائية, جدال بين لغويين… إنه يتغذى من أي مسألة تقريبا, يجد أينما حل فرصة سانحة للتفكير. ربما هو بذلك زاهد كديوجين و متمرد لا يبحث عن المعنى ضمن ممالك الفلسفة أو تحت سماء المثل الصافية بل يعلن ضيقها عنه و ضيقه بها, فما همّت به و ما همّ بها. ربما هذه هي ردة فعله تجاه السرديات الكبرى و المفاهيم التي تحولت إلى كلّيات تمارس جبروت الترويض و التنميط. ربما, بحدس سياسي خفي يعلن ضرورة الهرب من وجه الخطاب الجامعي و العولمة و أسطورة الإجماع و الإتفاق التي تتوسع و تحد مجال الحركة. ربما بهذا المعنى ينادي بالعودة إلى الأشياء ذاتها ( عفوك هوسرل  فدولوز مثل البكتيريا لا يحترم الملكية الفكرية : يسطو على المفاهيم و يحولها و يظهر فيا جوانب أخرى, كالبكتيريا التي تحول قشرة البرتقال إلى الأزرق) و إلى الذات ذاتها و إعادة البدء في القول الفلسفي خارج الأطر التقليدية. ” أهربوا بفلسفتكم, أنجوا بأسئلتكم” هكذا يصرخ. يغزل الأسئلة و المعارف و ما تيسر من تاريخ الفلسفة ليصنع خيمته الفكرية, يلاعب المعاني و ينتج المفاهيم الهجينة من كل ما يتوفر تحت يده و يصنع إكتفاءه الفكري/الذاتي بعيدا عن ممالك الفلسفة ( المثالية, الفينومينولوجيا, الماركسية, التحليلية…), و إذا ما إحتاج يوما الفلسفة الأكاديمية فإنه لا يأتيها من بواباتها الكبرى بل يؤم أطرافها القصية خلسة و يتزود بحاجته من ضواحيها القصية ( كيركغارد, وايتهاد…). يفكر في فلسفته بعيدا عن التيارات الكبرى و حالما يكتفي يلملم آلته المفهومية و يرحل إلى مجال جديد. ” لا مجال لل”فلسفة” بل نحن التفلسف”. ربما, في خضم حواره الباطني يتلذذ بالتلاعب بقول نيتشه المهووس بالقمم العالية ” على الفيلسوف إمتلاك فضيلة البقرة: أن يجترّ مليا أفكاره” ويحولها إلى التالي ” على الفيلسوف إمتلاك فضيلة البكتيريا: أن يترحّل أبدا”.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *