عمران عبد الله
من بين أعمال الشاعر الفلسطيني محمود درويش، تنتمي قصيدة “أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي” إلى فئة تراجيدية خاصة مليئة بالتوتر والإسقاطات وثنائيات الحضور والغياب والماضي والحاضر، وكأن الأندلس كانت بالنسبة للشاعر حضورا زمانيا ومكانيا آخر للشتات واللجوء الفلسطيني وفقدان الأرض.
في هذه القصيدة التي يستحضر فيها الشاعر مشهد الخروج من الأندلس، يقول درويش في ذكرى مرور 500 عام على سقوط غرناطة:
وعَمَّا قَليلٍ سَنَبْحَثُ عَمّا
كانَ تاريخَنا حَوْلَ تاريخِكُمْ في الْبلاد الْبَعيدَة
وَسَنسْأَلُ أَنْفُسَنا فِي النِّهايَة : هَلْ كَانَتِ الأَندلس
هَهُنا أَمْ هُنَاكَ ؟ عَلى الأَرضِ … أَمْ في الْقَصيدَة ؟
ويقارن درويش (1941-2008) -الذي عاش النكبة الفلسطينية والثورة والشتات- بين المحنتين الأندلسية والفلسطينية، وكتب قصيدته عام 1992، أي بعد عام واحد من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام.
ويرى أستاذ اللغة العربية بجامعة النجاح الوطنية عادل الأسطة أن درويش لم يكتب قصيدة عن الأندلس فحسب، بل كتب عن الأندلس وفلسطين معا.
ويضيف الأسطة للجزيرة نت أن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات اعترض على عبارتين وردتا في القصيدة، هما “إِنَّ هذا السَّلام سَيَتْرُكُنا حُفْنَةً مِنْ غُبار”، و”كُلُّ شَيّءٍ مُعَدٌّ لَنا، فَلِماذا تُطيلُ التَّفاوُضَ، يا مَلِكَ الاحْتِضارْ؟”.
ويتابع الناقد الأدبي الفلسطيني أن من الواضح وجود زمنين في القصيدة، مما يجعل منها “قصيدة قناع”، ويردف “صحيح أن الشاعر كتب عن خروج العرب من الأندلس، ولكن روح الحاضر -كما لاحظ المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد- تسللت إلى القصيدة، وبان فيها التشاؤم واليأس”.
وقسّم درويش قصيدته إلى 11 مقطعا متمثلا الكواكب الأحد عشر التي استوحاها من القرآن الكريم في رؤيا النبي يوسف عليه الصلاة والسلام، وقال بكلمات حادة في ثنايا القصيدة “لَمْ تُقاتِلْ لأَنَّكَ تَخْشى الشَّهادَةَ، لكِن عَرْشَكَ نَعْشُكْ فاحْمِلِ النَّعْشَ كَيْ تَحْفَظَ الْعَرْشَ، يا مَلِكَ الاْنتِظار”.
وفي مقاله “تلاحم الشعر”، يعتبر إدوارد سعيد أن درويش تنبأ بحدث توقيع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إعلان مبادئ سبتمبر/أيلول 1993، الذي تطور لاحقا لاتفاقية أوسلو للسلام.
يقول درويش في قصيدته:
لا حُبَّ يَشْفَع لي
مُذْ قَبِلْتُ (مُعاهَدَةَ الصُّلْحِ) لَمْ يَبْقَ لي حاضِرٌ
كَيْ أَمُرَّ غَداً قُرْبَ أَمْسي. سَتَرْفَعُ قَشْتالَةُ
تاجَها فَوْقَ مِئْذَنَةِ اللهِ. أَسْمَعُ خَشْخَشَةً لِلْمَفاتيحِ في
بابِ تاريخنا الذَّهَبيِّ، وَداعاً لتِاريخنا، هَلْ أَنا
مَنْ سَيُغْلِقُ باب السَّماءِ الأخيرَ؟ أَنا زَفْرَةُ الْعَرَبيِّ الأَخيرَةْ
وبين مؤتمر مدريد سنة 1991 واتفاقية أوسلو سنة 1993، كتب درويش قصيدته التي تحاكي الرواية التاريخية الشهيرة لوقوف أبي عبد الله محمد الأحمر آخر ملوك غرناطة ودموع الحسرة تنسكب وهو يلتفت آخر مرة إلى غرناطة التي سلم مفاتيحها إلى الملكين الكاثوليكيين إيزابيلا وفرناندو، قبل أن يرحل عنها إلى غير رجعة.
الحضور والغياب
تدور قصيدة درويش بين التاريخ والمخيلة، فهو يصطحب القارئ في رحلة خاطفة داخل فساد الحاضر، كي يقتاده بعد ذلك نحو التوسيع الأهم للرحلة: “التجواب البانورامي المفصّل والجراحي في ميادين انقضاض الماضي على المستقبل، أو في احتمالات ذلك اللقاء ومضاعفاته”، بحسب تعبير الناقد السوري صبحي حديدي.
ويرى حديدي في بحث نشره مركز الدراسات الفلسطينية (شتاء 1993) أن تكرار امتلاك العناصر (المكان والزمان) يخلق إحساسا بالتواصل داخل الغياب، وبنسق غير منقطع هو نقيض الفناء أو الاندثار الذي يقترن بالغياب.
ويقول درويش في أحد مقاطع القصيدة:
مَرَّ الغَريبْ
حَامِلاً سَبْعَمئَةِ عامٍ مِنَ الْخَيْلِ. مَرَّ الْغَريبْ
ههُنا، كيْ يَمْرَّ الْغَريبُ هناك. سَأخرُجُ بَعْدَ قَليل
مِنْ تَجاعيدِ وَقتي غَريباً عَنِ الشَّامِ وَالأَنْدَلُسْ
هذهِ الأَرضُ لَيْستْ سَمائي، ولَكِنَّ هذا الْمَساءُ مَسائي
والمفاتيحَ لي، والْمآذِنَ لي، والْمصَابيحَ لي، وأَنا
لِيَ أيْضاً. أَنا آدَمُ الْجَنَّتَيْنِ، فَقدتُهُما مَرَّتَينْ
فَاطرُدوني على مَهَلٍ،
واقْتُلوني على عَجَلٍ،
تَحْتَ زَيْتونَتي..
وتحتفي القصيدة بموسيقى غنائية متنوعة ذات إيقاعات متعددة يلعب بها درويش، ويلفت الأكاديمي اللبناني ماهر جرار إلى أن قصيدة درويش لم تعتمد أي مقطوعة على صيغة الموشّح على غرار العديد من الإيقاعات الأندلسية في دواوينه اللاحقة.
ويلاحظ جرار التوحد بين فلسطين والأندلس في قصيدة درويش، إذ تصبح “غرناطة” محل الأشواق في مشابهة مع القدس الفلسطينية، أي أن الحاضر هو مرآة مزدوجة ترى الماضي الأندلسي من ناحية والمستقبل الفلسطيني من ناحية أخرى، بحسب دراسة جرار المنشورة بالإنجليزية بواسطة الجامعة الأميركية ببيروت.
أبو عبد الله بن الأحمر
ويتمثل درويش موقف أبي عبد الله الأحمر الذي وقع معاهدة تسليم غرناطة، ويتمثل دراما الرحيل محاكيا مشاعر إنسانية هائلة في وقت قريب من توقيع اتفاق مدريد، ويتساءل درويش في مقاطع من القصيدة “مَنْ سَيُنْزِلُ أَعْلامَنا/ وَمَنْ سَوْفَ يَتْلو عَلَيْنا مُعاهَدَةَ الصُّلْحِ/ مَنْ سَيَدْفِنُ أَيّامَنا بَعْدَنا/ وَمَنْ سَوْفَ يَرْفَعُ راياتِهِمْ فَوْقَ أَسْوارِنا”.
ورغم أن الشاعر الفلسطيني يتعمّد ترك مسافة بين “أنا الشاعر” وبين شخصيّة أبي عبد الله في قصيدته، فإن التساؤلات المريرة قبل السقوط والخروج والفقد والغياب الطويل تكاد تجمع المحنتين الفلسطينية والأندلسية، ويقول بأسى “سوف أسقط من نجمةٍ في السماءِ إلى خيمةٍ في الطريق.. إلى أَيْن؟ أَيْنَ الطَّريقُ؟”.
وفي حواره مع مجلة الآداب اللبنانية (يوليو/تموز 1974)، يعتبر درويش أن علاقة الشعوب “بفردوسها المفقود” هي علاقة ارتباط بالماضي الذي يحدّه القدر، إنه حنين مجانيّ وبكاء للذكرى والعزاء، ومع ذلك فهي أيضا “فرح بقدرة ماضية على إنجاز جميل مضى”.
ويتجنب درويش الوقوع في أسر الحنين المحض، فهو القائل “لا تكتبِ التاريخَ شعراً، فالسلاحُ هُوَ المؤرِّخ”، “وليس للتاريخ عاطفةٌ لِنَشْعُرَ بالحنين إلى بدايتنا، ولا قَصْدٌ لنعرف ما الأمام وما الوراء”.
وربما لهذا السبب رفض درويش في الحوار الذي أجرته مجلة الآداب المشابهة مع فكرة الفردوس المفقود لأنها “تسليم بحالة وجودية بلغت حد النهاية”، فالجنة الفلسطينية ممكنة بحسب درويش.
ويتابع درويش “فلسطين ليست ذكرى” إنها وجود مستقبلي أو “أندلس الممكن”، مشيرا إلى علاقة الماضي والحاضر والمستقبل التي لا تزال مفتوحة على احتمالات الماضي والمستقبل في ظل الصراع الملتهب. ويقول درويش في القصيدة “يا غَريبْ ؟ خَمْسُمئَةِ عامٍ مَضى وَانْقَضى، وَالْقَطيعَةُ لَمْ تَكْتَمِلْ بَيْنَنا، ها هُنا، والرَّسائِلُ لَمْ تَنْقَطِعْ بَيْنَنا، وَالْحُروبْ لَمْ تُغَيِّرْ حَدائِقَ غَرْناطَتي”.
ويرى عادل الأسطة أن الشاعر بدا في هذه القصيدة متشائما، ولاحظ إدوارد سعيد كذلك روح الانكسار فيها ونزعة اليأس.
ورغم أنه لطالما ربط الشاعر بين الأندلس وفلسطين، فإنه لم يكن متشائما كما في هذه القصيدة، ومع ذلك يستدرك الأسطة أن “نزعة التشاؤم بدأت تنحسر. وفي قصيدته في رثاء ماجد أبو شرار، ربط درويش بين الأندلس وفلسطين ولم يكن فاقدا للأمل”.
ويقول درويش في تلك القصيدة “أتحسبها الأندلس؟ ولكنها طائر في يد مزقتها الرماح ولم تنبسط”.
- عن موقع الجزيرة نت