(ثقافات)
ملحمة جلجامش : مشكلات القراءة والتفسير في الخطاب النقدي العربي .
* د. عاطف الدرابسة
١. لا يمكن أن يطمئن الباحث على مستوى المنهج ، والقراءة إلى الدراسات العربية المتعلقة بملحمة جلجامش ، على المستويين : التاريخي ، والأدبي ، فكل الدراسات هي إعادة استنساخٍ للدراسات الغربية ، ابتداءً من جورج سميث ، وانتهاءً بستيفاني دالي ، وما جاء بعدها من قراءاتٍ نقدية ، خلطت بين مفاهيم النقد التاريخي ، ومفاهيم النقد المقارن ، والنقد البنيوي ، والنقد الوظيفي .
وهنا لا بدَّ أن أُحيل إلى دراسات فراس السَّواح ، التي هي استنساخ واضح لما جاء به كي ماتفيف ، وأ. سازانوف ، وما جاء به صموئيل كريمر في كتابه (طقوس الجنس المقدس) ، وكتابه (الأساطير السومرية) ، وكتابه (ميثولوجيا العصور القديمة) ، وما جاء به باخوفين حول دونيسيوس وطقوس الجنس الجماعي ، كما أنه استنسخ فكرة كلود ليف شتراوس حين تحدث عن الأسطورة الأولى ، التي جعلها تحت إطار نظرية البؤرة الواحدة ، كما يظهر من قوله : “إنَّ نظريتنا في هذا الكتاب تقوم على القول بنشوء ديانة مركزية واحدة واسطورة أولى في العصر النيوليتي
Neolithic : العصر الحجري الحديث
كانت ذات تأثير مباشر على الأشكال الدينية والاسطورية لدى جميع الثقافات اللاحقة بدءاً من المجتمع المدني الأول ، في وادي الرافدين ، وانتهاء بالديانات الكبرى للحضارات اللاحقة” . لغز عشتار ص24 .
٢. أما كتاب (ملحمة جلجامش : ترجمة النص المسماري مع قصة موت جلجامش ، والتحليل اللغوي للنص الآكادي) للدكتور نائل حنون ، فإنه هو الآخر لم يأتِ بشيء يتجاوز فيه تلك المصادر وغيرها ، فضلاً عن أنه اعتمد في دراساته على آندرو جورج في كتابه (ملحمة جلجامش) ، وعلى صموئيل كريمر في كتابه (موت جلجامش) .
٣. إنَّ هذه الدراسات لم تتعامل مع ملحمة جلجامش وفق المنهج التاريخي ، الذي يتعامل مع الأساطير المكتوبة بحسبها وقائع مادية ، تُعرف بالحواس من نحو ، وبحسبها وقائع ذات طبيعة نفسانية من نحوٍ آخر لا يدركها إلا الشعور .
إنَّ التعامل مع النصوص التاريخية العتيقة المنقوشة على الحجر ، أو على الألواح الطينية ، ينبغي توثيقها بالاستناد إلى علم الجيولوجيا ، أو الاستناد إلى علم الآثار ، والتأريخ الإشعاعي ، لأنَّ مسألة توثيق النص تبعده عن الدراسات الناقصة والسطحية .
وكما هو معلوم ، فإنَّ الطقوس الدينية إذا عُرضت على أنها نوع من الوثائق ، فهي ليست إلا صورة من النقل الشفوي ، كما هو حال ملحمة جلجامش ، التي مرَّت بالطور الشفوي ، ثم تحوَّلت عبر أجيال من الرُّواة إلى طورٍ مكتوب .
٤. إنَّ فراس السواح وحنُّون لم يأخذا بالمحاذير المنهجية التي أشار إليها محقِّقو ، ومترجمو ، وقارئو ملحمة جلجامش ، من مثل :
أ. أنَّ هذه الألواح الطينية لم تصل بشكل متماسك ، نظراً لتعدد الرواة ، واختلافهم ، وتغيُّر الزمن .
ب. ملحمة جلجامش لم ترتبط بشخصيات تاريخية حقيقية ، فكلُّ القصائد عموماً لا تروي فتوحات لملوك عرفناهم في التاريخ ، باستثناء سرجون ، وزيميري ، ونبوخذ نصَّر ، وهي قصائد مرتبطة بتطوُّر الفعل الكتابي ، وتقع ما بين منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ، و٦٢٠ قبل الميلاد ، وهو أمر يمكن للباحث أن يطمئن إليه .
ج. ملحمة جلجامش هي في الأصل أدب شفوي ، أو شفاهي ، والأدب الشفوي عُرضة للنَّحل ، وعُرضة للزيادة ، والتغيير ، فهذه الملحمة وجدت مكتوبة باللغة السومرية ، ضمن ثلاث مجموعات قصصية مكتوبة عن ملوك أوروك ، غير أنها قصيرة جداً ، ويمكننا أن نجدها في قصص ألف ليلة وليلة ، وحين انتقلت إلى اللغة الآكدية أدخلت عليها تعديلات كبيرة ، ما عدا واحدة فقط ، خصوصاً قصتي : (جلجامش والشجرة الحلوب) ، و(جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي) .
يوجد من هذه القصة نصان سومريَّان ، أضيف قسم منها إلى اللوح الثاني عشر من الملحمة الآكدية بعد وقت من نظم الملحمة ، وخلال عملية الاقتباسات والزيادات تغيَّرت القصة كثيراً ، والأجزاء التي رُكِّبت ما تزال ناقصة ، نتيجة للتجزئة والتشويه ، بحيث أن القراءة الفاحصة لها تؤول إلى أنها ليست ملحمة واحدة .
د. في القرن السابع قبل الميلاد ، ونتيجة للتواصل الحضاري ، فإننا نلمح أنه في أواخر القرن السابع ، وأواخر القرن الثامن ، أضيف عليها من ملحمة الأوديسا لهوميروس ، وهنا يمكنني أن أُحيل إلى دراسة الدكتور أدير كوريه ، ودراسة ستيفاني دالي ص72 .
ه. رُويت هذه الملحمة بغير لغة قديمة ، وفي كل لغة كانت تختلف ، ويحدث عليها بعض التغيير ، هذه الزيادات والتغيرات تجعلنا نقطع بأنَّ النص الذي بين أيدينا على صورته الآن فيه تعالق مع الإلياذة ، والأوديسة في بعض الأجزاء ، فأوجه الشبه واضحة بين واوديسيوس والسندباد وبوليقيا كما وردت في روايات ألف ليلة وليلة ، علماً بأنَّ هذه الأحداث تجري في الوقت الذي كان الأدب الإغريقي فيه مكتوباً ، فالملك الشاب بوليقيا مثلاً قد يكون اسمه اسم تحبُّب للاسم السومري أو الحوري بلكامش .
كما أنَّ قصة أوديس وكالبسو في الجزء الخامس من الأوديسا ، تشبه بعض الشيء الجزء المُتعلق بجلجامش ، وصيدوري .
٥. وأمَّا دراسة الاستاذ ناجح المعموري ، الموسومة ب (المسكوت عنه في ملحمة جلجامش) ، والمنشورة عام 2014 ، فهي دراسة نصية نقدية ، تنتمي إلى مجال النقد الأدبي ، غير أنها على مستوى المنهج جاءت لتؤكد فكرة الشذوذ الجنسي ، والمثلية في علاقة جلجامش وإنكيدو ، مستندة على الجزء المتعلق بإنكيدو وشمخات التي أُرسلها إليه جلجامش بنصيحة من الصياد ، ويُلحظ هنا أنَّ الباحث قد استند على ترجمة واحدة (وهي ترجمة الاستاذ طه باقر) ، ولم يأخذ بترجمة فراس السواح ، أو ترجمة نائل حنون ، الذي قدَّم له دراسته (تقشير النص : قراءة في اسطورة إنانا جلجامش وشجرة الخالوب) الصادرة عن دار المدى 2012 .
كما لم يأخذ المعموري أيضاً بترجمة ستيفاني دالي ، أو ترجمة سامي سعيد الأحمد ، أو ترجمة سبيسر ، لأنَّ ترجمة طه باقر فيها السطور التالية :
– (اجعليه يصعد على الظهر ويتمتع)
– (سيضغط صدره بقوة على ظهركِ)
– (وضغط صدره بقوة على ظهرها)
– (لم تخف عندما مارس معها الحب على الظهر) .
– (وجعلته يمارس عمل المرأة) .
ووردت عند فراس السواح باللغة العربية ، وهي ترجمة دقيقة عبارات :
– (عرِّي صدركِ ، حرري ثدييكِ ، لأقطفَ ثمركِ)
– (اطرحي ثوبكِ ينحني عليك)
– (علِّمي الرجل الوحش وظيفة المرأة) .
إنَّ ترجمة طه باقر أبعد ما تكون عن ترجمة النص باللغة الانجليزية أو الفرنسية أو اللاتينية ، فالمعموري هنا يريد مفردة الظهر ، بينما كل الترجمات الأخرى كانت تتحدَّث عن الصدر ، كما يظهر من نص ستيفاني دالي :
– (ها هو يا شمخات ، اكشفي عن صدركِ ، افرجي ساقيكِ ، ودعيه يستوعب مفاتنك ، لا تنفري منه ، استغلي جموحه)
– (سوف يراكِ ويقترب منك ، ابسُطي رداءكِ ، ودعيه يتمدد فوقكِ)
– (اعملي له ، للرجل البدائي ما تقوم به النساء)
لعله من الواضح أنَّ ترجمة طه باقر المستندة إلى فكرة الظهر ، وتغيير الضمير ، تخدم فكرة الدكتور ناجح في إثبات فكرة الشذوذ الجنسي ، عند إنكيدو ، وهو أمرٌ يتضاد ما كل الترجمات ، وان ينبغي عليه العودة إلى ترجمة المتحف البريطاني ، أو أن يعود إليها بالنص اللاتيني ، لا أن يعتمد على ترجمة غير دقيقة لطه باقر .
٦. والأمر الآخر الذي ينبغي أن أشير إليه أنَّ الاستاذ المعموري ينطلق من فكرة أن انكيدو يُقلد الحيوانات في الممارسة الجنسية ، وقد غاب عنه أنَّ شمخات أُرسلت إليه لتعلمه الجنس الحقيقي ، لتنقله من الطور الوحشي إلى الطور الحضاري ، ولو أنَّ المعموري تنبه إلى منهج شتراوس الذي يوازن فيه بين العقل الوحشي ، والعقل الحضاري ، لما وقع في هذا الأمر ، وهو أمرٌ ينسجم ما بنية النص المترجم أو المكتوب ، على مستوى بنية الخطاب ، وعلى مستوى حركة السرد ، فشمخات وفق منهج بروب جاءت لتنقله إلى طور حضاري ، فكيف تُمارس الجنس معه على طريقة العقل الحيواني ، علماً أنَّ الطبيعة التكوينية للحيوان لا تُساعده على التمدد والانحناء ، إنَّما تساعده على القفز وامتطاء الظهر .
٧. ويبدو أنَّ الاستاذ المعموري يستنسخ ما جاء به (توماس رومر) حينما أشار إلى العلاقة المثلية بين جلجامش وإنكيدو ، كما يُعيدُ فكرة (سوزان أكرمان) حول القراءة السلبية لملحمة جلجامش ، وهنا يمكنني أن أُحيل المعموري في هذا السياق إلى دراسات من مثل : كارولين بروير حول الجنس والحضارة ، ولويس كرو ميبتون .
٨. ويبدو لي أن الاستاذ المعموري لم ينتبه أنَّ الحضارة الوحيدة التي يمكن أن نستبعد منها الشذوذ الجنسي ، هي حضارة بلاد ما بين النهرين ، لأنها حضارة قامت على أساطير الخصب والبعث والولادة ، وكنت أتمنى على الاستاذ المعموري أن ينفذ إلى قضية أعمق في ملحمة جلجامش ، فهذه الملحمة فيها أصول لجميع الأديان ، وإنَّ قراءتها بهذا الاتجاه يجعلنا نُعيد النظر في النصوص المقدسة ، ولن أتحدث هنا عن العلاقة بين جلجامش والقرآن ، وبين الكتاب المقدس وجلجامش ، ولن أتحدث عن تجليات الرقم سبعة والخصوبة ، ففي هذه الأسطورة تقول إن انكيدو أمضى معها ستة أيام وفي اليوم السابع ، انتقل إلى أوروك حيث المدنيَّة والبناء ، وفي الكتب المقدسة تقول أن قصة الخلق كانت في ستة أيام ، وفي اليوم السابع بدأت السيطرة على هذا الكون ، ونقله إلى الفعل الحضاري .