قراءة في رواية ” علبة الحذاء” لصونيا خضر

(ثقافات)

*بسام جميل

“كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين”، لعل هذه الجملة الشهيرة من احدى قصائد محمود درويش، تختصر حكاية البلاد الأسيرة، لكنها لا تنصف حكاية الانسان الفلسطيني كحالة لربما كانت هي الاستثناء، في عالم لم يتبقى فيه للاستعمار مكاناً، الا على هذه الأرض التي قد يكون درويش خصّها بعبارته أن عليها ما يستحق الحياة، فيما الأحياء من الفلسطينيين، لاجئين ومغتربين ومواطنين يتعثرون بحيواتهم وهم يلهثون خلف حقوق مسلوبة بالعيش بكرامة على الأقل.

إن تغيرت الظروف تتغيّر المصائر، هذا هو المنطق الذي لا لبس فيه، إذ لا يمكن للإنسان الا أن يمتثل للتغيير، ولعل خير دليل على ذلك مراحل نمو الجسد من الطفولة للشباب ثم الكهولة، ما لا يترك مجالاً للشك أن التغيير والتأثر ثابت ولا مفر منه، تماماً كما القدر والمصير.

تحاول الروائية سونيا خضر في روايتها الجديدة ” علبة الحذاء” الصادرة عن منشورات دارابيدي في مصر 2021، أن تعيد تذكرينا بهذه المفاهيم و هذا الناموس الكوني، لتعيد لبعضنا رشده ربما، فلا نرى البلاد كوجه واحد، ولا أقصد الجغرافيا،بل المتغيرات الأخرى التي ساهمت ولا تزال في اعادة تكوين مفهوم الانسان، كفرد مستقل، يعايش ظروفاً مشابهة أو مختلفة عن الآخرين، ليمضي إلى مصيره الخاص، كخلاصة لهذه الأحداث و التفاعل معها.

تطرح خضر في روايتها ثلاث شخصيات فلسطينية، لاجئ، مغترب و مواطن، تجمعهم الصدفة في مدينة برشلونة الاسبانية العريقة. ليكون الحدث العالمي الاستثنائي جائحة كرونا و الذي اصاب العالم بشلل شبه تمام، فرصة لقاء فريدة، تعيد رسم خارطة الفهم لتجارب تتقاطع و تشكل هوية جمعية لوطن محتل، لكنها تعرّي أيضاً  معظم المفاهيم الانسانية، و تطرح الاسئلة الوجودية، و قلق الهوية الفردية و تأثرها بجغرافيا التجربة و جغرافيا الأحلام أيضاً.

تجتمع الشخصيات الثلاث بمعضلة الحب و جدواه، رغم ارتباك الفهم و تباينه لمخرجات هذا الحب و تداعياته. لكنهم، وهذا من الطبيعي، يختلفون على فكرة الوطن، الذي رغم وحدة مفهومه الجغرافي، لا يقدم خلاصاً واحداً متماثلاً، ولا نجاة تدركها الشخصيات، كلٌ من موقعه و تجاربه.

لا يتوقف سرد الكاتبة و طرحها اسئلتها عن هذا الحد، فيبدو التساؤل عن جدوى الأمومة، مكانتها، واحقيتها بالقداسة، إّن صح التعبير، لتعيد الاشتباك ما بين المفاهيم، و لتعيدنا للنقطة الأولى ، من خلال هذه المقاربة ما بين قداسة الأم و قداسة الوطن، نجد أن نقطة الاختلاف، رغم وجود هذه الفرصة لتقاطع مصائر الشخصيات في مدينة واحدة، إلا أنها لم تكن كافية ليحسم الخلاف و تتوحد الروئ نحو القضايا المطروحة.

تحاول الكاتبة أن تستشهد بأحداث سياسية معينة ، مثل أوسلو و سواها، لتبيان أثر هذه الأحداث على الشخصيات، كلاجئ و مغترب و مواطن، و تستعيدها بتشريح الأبعاد من خلال تصاعد الأحداث تاره و هبوطها تارة أخرى، وفق المتغيرات و المجريات حينها، فنتنقل بينها و بين الألفية الجديدة لنستعيد مفردات عصر كورونا الجديد.

وكما تعودنا على صونيا خضر، كراوية متخصصة بالجوانب الإنسانية للقضايا التي لا يعدو دور الإنسان  فيها كأكثرمن موظف لخدمة تلك القضايا والحفاظ على قدسيتها والثوابت فيها، مقابل حياة واحدة لا يملك غيرها، فهي لم تتردد بالكشف عن الوجوه الحقيقية للمنتفعين من تلك القضايا، المتسلقين على أكتاف العامة من الشعب لرفع رايات انتصارات وهمية، على حساب المسحوقين والمشردين واللاجئين، مجتثين لثمار الأشجار العالية التي لن تطالها أذرعهم لولا ذلك التسلق الخسيس على حيوات وأحلام ومصائر اولئك الضحايا.

وفي مقلب آخر، تناولت الراوية الجوانب المسكوت عنها لمعاناة العشاق ومرضى السرطان والعلاقات العاطفية بشكل عام ، كأن تجاوزت تفاصيل العشق وذهبت الى أسباب فشل العشاق المكبلين بالعادات والتقاليد، وتجاوزت آلام مرضى السرطان وذهبت الى أسباب رفضهم للتعاطف الذي يجعل منهم كائنات مثيرة للشفقة، كما ورصدت تداعيات السعي وراء تحقيق أحلام الآخرين وما يرسخه من انفصام في الشخصية الواحدة التي ومهما برعت فيما آلت عليه خلال ذلك، لن يغادرها ذلك الشعور العميق بالنقص وبالخذلان وبأن الصورة التي تبدو عليها لا تشبه الصورة الحقيقية على الإطلاق.

” علبة الحذاء” الرواية الثالثة بعد روايتي ” كلب الحراسة الحزين” و ” باب الأبد” و عدة دواوين شعرية للكاتبة سونيا خضر، تعيد فيها جميعها، تعريف مفاهيم عديدة ك: الحب، الوطن، الحلم، الهوية، الأمومة، الموت و غيرها من المفاهيم الانسانية في قالب سردي ماتع، تواصل تقديمه ليكون محط اهتمام عدد واسع من شرائح القراء في العالم العربي باختلافه عن السائد و تميزه.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *