ثقب في الحذاء


وفاء مليح *

كعادتي كل صباح استيقظت على صراخ أمي. صراخها يصم أذني وكلماتها تنفث السم في مسام جلدي:

“نوض، قرانك راهم فشغالهم!”…

أهرول إلى سروالي وقميصي متحاشيا اصطدامها بي. أرتديهما وأنا على عتبة الباب. أخرج وحذائي في يدي. أتعثر في خطاي. أغلق الباب بكل حذر حتى لا تتبعني كلماتها النابية التي تنطلق رصاصا يخترق شرايين قلبي. أنحني لأشد ربطة الحذاء. ثقب بارز على جانبه يذكرني بتاريخ شرائه. منذ سنوات لم أشتر سواه. فقط الإسكافي الذي ينقذه من التلف. يحتوي الحذاء قدمي. أجر أذيالي. تجرها خطوات تائهة وسط شارع محموم بصخب نداءات الباعة المتجولين.
 

تجرني قدماي إلى محل بيع الجرائد. العناوين تختلط أمامي. أسافر عبرها جوالا. تائها. لا أدري إلى أين؟!.. ألتقط جريدة. لا أكثرت لاسمها. أمد للبائع ثلاثة دراهم. على الجانب الآخر مرآة كبيرة الحجم تعكس ملامح شخص قريب مني. أتأمل سحنتي. وجه تعلوه مسحة حزن دائم ورجولة محطمة تغلغلت في أعماق الذات.

على ناصية الشارع الرئيسي. في المقهى القابعة هناك. اعتدت أن أتخذ لي مكانا منزويا في ركن من أركانها… على طاولة المقهى نشرت الجريدة بعدما أرحت جسمي على الكرسي. عيناي تشردان في الأفق المترامي. تعبران الناس والفضاء ولا تستقران على شيء. أشعلت سيجارة. وضعتها بين شفتي. أمتصها بشبق وأزفرها في الفراغ. أسلي نفسي في لعبة الكلمات المتقاطعة. هي تسلية أتوه بها عن حياتي المتقاطعة المتشابكة. وأقتل بها وقتا من عمري الضائع. نظراتي تنتقل بين سطور الجريدة وبين اللواتي يعبرن الممر المحاذي للمقهى. أتابع خطواتهن. هذه سمينة سمنتها في حوضها، وتلك نحيفة نحافة تثير في نفسي الغثيان، وأخرى بين هذا وذاك تختال في مشيتها. تهز ردفيها اهتزازا لا يترك من يتأملها في حياد، بل ينقاد لها. مستسلما لدعوتها ولدلالها. صوت يقطع خيط تأملي. زي .زي. ذبابة تحوم حول رأسي المثقل. تحط فوق أنفي تطير ثم تعود. أحاول رفسها بيدي لكنها تنفلت بين أصابعي. يرميني النادل بنظرات شزرة. رغبتي شديدة في احتساء فنجان قهوة ساخنة. أبتسم في وجهه عله يستجيب لابتسامتي. يدير وجهه عني. بصوت خافت أقول له:

“مالك كتعبس في وجهي كلما شتني؟!”…

وجه لي نظرات تقذف حمما ثم أضفت:

“بغيت كاس ديال القهوة!” لم أتمم جملتي ليصرخ في وجهي:

“فين الفلوس لي كنسال ليك ما حشمتيش؟”.

في أعماقي فار غضب تجشأته سعالا وعدت لطاولتي أتصفح الجريدة، تغطيها خطوط لم أتبين سوادها من بياضها. اختلطت الأوراق في ذهني، لم أعد أعرف ما أنا فاعل بحياتي. صراخ النادل زاد من ثورة البركان في نفسي.

اللعنة على عالم يغتصب كل شيء حتى الأحلام! بذلك ترنمت النفس المضطربة.

على الجانب الآخر من الشارع. أراقب فتاتي. تمر كل يوم في مثل هذا الوقت. كلما رأيتها تزداد نبضات قلبي وتستيقظ أشواقي، لكني لا أستطيع التقرب منها والتودد إليها. ماذا سأقول لها، أخوك عاطل!… مع ذلك لم لا أحاول وأجرب حظي. ربما أصيب وربما أخيب، في كلتي الحالتين لن أندم على خطوتي. المهم أن أصارحها وأترك الخيار لها.

أتجه نحوها. أهمس في أذنها كلمات الغزل والإطراء. أبث لها لواعج الشوق والحنين. تبتعد وتسرع في خطوها وأنا أقترب ثم أقترب ليلتصق جسدي بجسدها. لم تكلف نفسها عناء النظر في وجهي. فقط حدقت في حذائي وباشمئزاز ظاهر قالت:

أتتجرأ وثقب في حذائك بحجم رأسك المهشم!..

تسمرت في مكاني أحملق في حذائي الملعون. أتصبب عرقا باردا تموج له جسدي بالصخب والذهول. انتبهت فإذا هي قد غابت وأنا مازلت في مكاني. عدت أدراجي إلى المقهى غريبا كنورس البحر الخافق في سماواته. بهدوء وحزن. يزقو بنواح دائم. أتمدد في جلستي. أشعر وكأني شاهد يعبر الدنيا على صفيحة جليد عائمة. أغمض عيني تاركا للمفاجأة فسحة صغيرة…

تركت ضوضاء المقهى ورائي. أبحث عن حديقتي السرية. أمشي بين الأزقة. أبحث هنا وهناك. ربما أجدها في هذا الزقاق. لا في الزقاق الذي يليه.. أطرق الأبواب التي تصادفني مرات ومرات لعلها تفتح. تهت عن باب حديقتي كما تهت عن نفسي. .رغبة تحدوني في فك العزلة. أتوه وسط زحمة الناس. أتأمل الوجوه. أجدها وجوها بدون ملامح. متوترة. يعلوها الغبار. لا أعرفها ولا تعرفني. كلما خطوت نحو أحد يبتعد بل يفر هاربا. أتأمل الأرصفة. الشوارع. أشعر ابتعادها. اغتراب ثم اغتراب ثم اغتراب. أغوص في زحمة الناس لأذوب وأذوب وأذوب. أخطو خطواتي. غائبا. حاضرا. وأحيانا غائبا وغائبا….

تبا.. لماذا هذا الغباء؟ الناس هنا يمشون على رؤوسهم؟!…

 
* قاصة وروائية من المغرب

( الاتحاد الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *