فرجينيا وولف ورسالة الانتحار

(ثقافات)

إبراهيم أبو عواد

     وُلِدت الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف ( 1882_ 1941) في لندن ، باسم ” أديلين فرجينيا ستيفن ” .

     كان والدها ليزلي ستيفن مُؤرِّخًا مرموقًا، وكاتبًا، وناقدًا ، ومتسلق جبال. وكان المحرِّر المؤسِّس لمعجم السِّير الوطنية، وهو عمل تأثرت به لاحقًا وولف في سيرتها الذاتية التجريبية.

     تعلمت وولف على يَدَي والدَيْها في بيت مثقف ومترابط . كان كِلا الوالدين قد تزوَّج وترمَّل مُسبقًا، وبالتالي كان البيت يجمع أطفالاً مِن الزيجات الثلاث . تزوَّجت وولف في عام 1912 من ليونارد وولف ، الناقد والكاتب الاقتصادي .

     تُعَدُّ مِن كُتَّاب القصة المؤثِّرين. كانت روايتها الأولى ذات طابع تقليدي ” الليل والنهار ” ( 1919) . واتَّخذت فيما بعد المنهج المعروف بمجرى الوعي أو تيار الشعور ، كما في “غرفة يعقوب” ( 1922)، و” السيدة دالواي” ( 1925)، و” إلى المنارة ” ( 1927) ، و ” الأمواج” ( 1931) . ولها روايات أخرى ذات طابع تعبيري، منها رواية ” أورلاندو ” ( 1928) .

     اشتغلت بالنقد، ومن كتبها النقدية ” القارئ العادي” ( 1925)، و” موت الفراشة ومقالات أخرى ” ( 1943) . وكتبت القصة القصيرة ، وظهرت لها مجموعة قصصية بعنوان ” الاثنين أو الثلاثاء ” ( 1921) . وقد انتحرت غرقًا مخافة أن يصيبها انهيار عقلي .

     بعد أن أنهت روايتها ” بين الأعمال ” التي نُشِرت بعد وفاتها ، أُصيبت وولف بحالة اكتئاب حادة، وزادت حالتها سُوءًا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية ، وتدمير منزلها في لندن، والاستقبال البارد الذي حَظِيَت به السيرة الذاتية التي كتبتها لصديقها الراحل ( روجر فراي ) ، حتى أصبحت عاجزة عن الكتابة .

     تُعتبَر وولف سَيِّدة الرواية الإنجليزية الحديثة ، ومِن أهم الرموز الحداثية في أدب القرن العشرين . وقد صدرت كتب كثيرة عن حياتها وكتاباتها . ولا أحد يُقارَن بها مِن حيث إسهامها في تطوير الرواية والنقد الإنجليزيين .

     وجدت ضالتها مُنذ عام 1922 ، في تيار الوعي الذي جَرَّبته في روايتها ” غرفة يعقوب ” . واستبدلت بالسردية التقليدية التدفق العفوي للأفكار في وصف الحياة الداخلية لشخصياتها . وقد تميزت أغلب كتاباتها بصفة رُؤيوية تكاد تصدم القارئ .

     تتجلى قوة وولف الأدبية في ثراء لغتها وشاعريتها، فرواياتها خالية تقريبًا مِن الأحداث، ومن الحبكة التقليدية ، لكنها تعتمد على تداعيات شخوص الرواية وذاكرتهم . فعلى سبيل المثال ، تقوم رواية ” السيدة دالواي ” على استرسال السيدة دالواي في أفكارها بينما هي تُحضِّر لحفلة عَشاء في مَنْزلها. أمَّا ” إلى المنارة ” فتقوم الرواية كلها على قيام أفراد عائلة بنزهة عادية ، و استرسال كل فرد منهم في أفكاره الخاصة أثناء ذلك . وفي إحدى رواياتها ، تستخدم لغتها لتتقمص مشاعر كلب منزلي تجاه أصحابه ، وشعوره بالود أو الكره أو الغَيرة تجاه أفراد العائلة التي تمتلكه . في 28مارس 1941، ارتدت وولف معطفها،وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر   ( أوس) القريب من منزلها . ووُجِدَت جثتها في 18 أبريل 1941. ودَفن زوجها رُفاتها تحت علم في حديقة مونكس هاوس .

     في رسالة انتحارها كتبت لزوجها : (( عزيزي ، أنا على يقين بأنني سَأُجَن ، ولا أظن بأننا قادران على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى ، كما ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة ، لقد بدأتُ أسمع أصواتًا، وفقدتُ قدرتي على التركيز . لذا ، سأفعل ما أراه مناسبًا . لقد أشعرتني بسعادة عظيمة ، ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة ، كما شعرنا نحن الاثنين سَوِيَّة إلى أن حَل بي هذا المرض الفظيع . لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن ، وأعلم أنني أُفسِد حياتك، وبدوني ستحظى بحياة أفضل . أنا متأكدة من ذلك ، أترى ؟ ، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد ، لا أستطيع أن أقرأ . جُل ما أُريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي . لقد كُنتَ جَيِّدًا لِي وَصَبُورًا عليَّ . والجميع يعلم ذلك . لو كان بإمكان أحد ما أن يُنقذني فسيكون ذلك أنت . فقدتُ كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيِّد . لا أستطيع المضيَّ في تخريب حياتك ، ولا أظن أن أحدًا شعر بالسعادة كما شعرنا بها )) _ انتهت الرسالة _ .

     هذه الرسالة المؤلمة والمؤثِّرة ينبغي تحليلها بشكل تفصيلي ودقيق ، والوقوف على ألفاظها ومعانيها والأفكار الكامنة بين السطور :

[1] (( عزيزي ، أنا على يقين بأنني سَأُجَن )) : إن الكاتبة تحمل مشاعر الحب والاحترام تجاه زوجها، وتُدرِك تمامًا أنه الشخص المخلِص لها ، والقادر على تفهُّم معاناتها . إنها مُتأكِّدة أن الجنون مصيرها ، وأنها تفقد قواها العقلية شيئًا فشيئًا ، وهذا يدل على حجم الاضطراب في داخلها ، والانهيار الشامل في أعصابها ، وكأنها تسير إلى الجنون بِرِجْلَيْها ، دُون وجود أي أمل . إنه ذهاب بلا عودة .

[2] (( ولا أظن بأننا قادران على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى )) : لا تستطيع الكاتبة العودة إلى الماضي ، وعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء . لقد تعذَّبت كثيرًا في السابق ، وتعذَّب زوجها معها . وقد فَقدت القدرة تمامًا على تكرار التجربة السابقة ، لأنها في حالة انهيار كامل ، ولا تُريد تكرار العذابات السابقة.

[3] (( كما ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة)): مِن الواضح أن هذه المرة مختلفة عن المرة السابقة. فالكاتبة غير مُقتنعة بإمكانية شفائها ، ولا تظن أنها ستتعافى مِن مرضها الذي يُهيمن على عقلها وبدنها .

[4] (( لقد بدأتُ أسمع أصواتًا، وفقدتُ قدرتي على التركيز )) : إنها تغرق في الوساوس والهواجس والهلاوس. هناك أصوات تتردد في داخلها ، وتسمعها بوضوح . وهذه الأصوات الداخلية تُهيمن على عقلها ، وتمنعه من التفكير ، لذلك فقدت قُدرتها على التركيز، لأن الجبهة الداخلية مُنهارة ، ومعنوياتها مُحطَّمة ، وإرادتها مكسورة ، وبالتالي ، لا تستطيع أن تُواجه الحياة ( الجبهة الخارجية)، ولا تقدر على التعامل مع الناس.

[5] (( لذا ، سأفعل ما أراه مناسبًا )) : بعد انهيارها الشامل ، وانكسارها الكامل ، اتَّخذت قرارها الشخصي عن قناعة ، وبدون ضغوطات. لقد فقدت الأملَ، وخسرت معركتها مع الحياة ، لذلك ، ستفعل ما تراه مُناسبًا لحياتها ، وهو وضع حد حياتها ، والإقدام على الانتحار . وهذا هو الحل الوحيد _ وَفْق تفكير الكاتبة _ .

[6] (( لقد أشعرتني بسعادة عظيمة )) : لا تُريد الكاتبة أن تكون وحيدةً . إنها تُخاطب زوجها ، وتعترف بأهميته في حياتها ، وتُقدِّر دَوره الكبير في إسعادها ، وجَعْل حياتها مُفعمة بالجمال والفرح والتفاؤل ، وهذه المشاعر الجيَّاشة لا تُنسَى ، وهي مزروعة في ذهن الكاتبة ، وتُمثِّل مصدرًا للطاقة الإيجابية في حياتها .

[7] (( ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة ، كما شعرنا نحن الاثنين سَوِيَّة إلى أن حَل بي هذا المرض الفظيع )) : إنها تعود بالذاكرة إلى الوراء ، إلى السعادة والهناء والحب والتوافق بينها وبين زوجها . كانا أسعد زَوجين _ وَفْق تقييمها لحياتها الزوجية _ ، وقاما ببناء آمال عريضة على المستقبل الذي كان يبدو مُشرقًا وسعيدًا ، إلى أن هاجمها هذا المرض المرعب فجأةً ، ودمَّر كيانها ، وأحالَ حياتها إلى جحيم لا يُطاق . لقد نسف هذا المرض القاسي كل مشاعر السعادة ، وحطَّم كُل الآمال بلا رحمة . وهكذا ، انتهى معنى حياتها الزوجية .

[8] (( لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن )) : هذا هو إعلان الاستسلام ، والتسليم بالأمر الواقع . لقد رَفعت الرايةَ البيضاء أمام المرض الفظيع ، ولَم تعد قادرة على مُقاومته . لقد خسرتْ إرادتها وقُدرتها أمام هذه المشكلة الرهيبة .

[9] (( وأعلم أنني أُفسِد حياتك )) : تتعذَّب الكاتبةُ بسبب زوجها ، وتُحمِّل نفسها المسؤوليةَ ، وتعتبر نفسها السبب في إفساد حياة زوجها . ووَفْق هذه الرؤية ، فإن زوجها ضحية لها . وهي تُريد أن تُريحه مِنها ، كَي يَشعر بالسعادة والهناء . تُريد أن تُضَحِّيَ بنفسها مِن أجله . تعتبر وجودها حجر عثرة في طريق زوجها ، لذلك قرَّرت أن تزيح نفسها مِن طريقه ، وتترك له الحياة كي يستمتع بها . ما ذَنْبُه كي تنهار حياته بسبب زوجته ؟ .

[10] (( وبدوني ستحظى بحياة أفضل . أنا متأكدة من ذلك )) : هذه قمة التضحية_ وَفْق منظور الكاتبة _، عليها أن تُنهيَ حياتها كي يحظى زوجها بحياة أفضل ، وهي متأكدة مِن ذلك . إنها تحب زوجها وتحترمه ، ولا تُريد أن يدفع ثمن بقائه معها . تُريد أن تدفع الثمن وَحْدَها ، وأن تُضَحِّيَ بحياتها من أجل راحة زوجها .

[11] (( أترى ؟ ، لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيِّد ، لا أستطيع أن أقرأ )) : إن عجز الكاتبة عن الكتابة بشكل جيِّد هو انتحار معنوي لها ، وبقي عليها أن تُحوِّله إلى انتحار حقيقي على أرض الواقع . إنها عاجزة عن الكتابة والقراءة ، وهي الكاتبة العالمية الشهيرة . هذا يعني أنها دخلت في نفق مُظلِم ، ولا يوجد ضوء في آخره ، وبما أنها فقدت القدرة على الكتابة والقراءة ، فلا معنى لحياتها ، ولا جدوى مِن بقائها ، لأنها كانت تستمد شرعية وجودها من الكتابة والقراءة . والآن ، سقطت هذه الشرعية إلى الأبد .

[12] (( جُل ما أُريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي )) : تتمسَّك بزوجها حتى آخر لحظة ، وتعترف بأنه سبب سعادتها في الحياة ، وأنها مدينة له بالمشاعر الجيَّاشة ، والأحاسيس الجميلة . تُريده أن يَعرف _ قبل رحيلها النهائي _ أنها تعترف بفضله ودَوره المركزي في حياتها ، وهي تُقدِّر مكانته في حياته ، ولا تُنكِر تضحياته من أجلها ، وهي الآن تُريد وضع حد لهذه التضحيات ، كَي تتعذَّب وَحْدَها ، وتتركه للسعادة والهناء في الطريق الذي سيمشيه وَحْدَه بدونها .

[13] (( لقد كُنتَ جَيِّدًا لِي وَصَبُورًا عليَّ . والجميع يعلم ذلك )) . تُعدِّد صفاته الرائعة وأخلاقه الحميدة . كان جَيِّدًا بالنسبة إليها، وساعدها في حياتها ، ولَم يُسبِّب لها أيَّة مشكلة . كان رفيقًا لها في السَّراء والضَّراء ، قاسمها لحظات السعادة ، ومَد لها يد العَون في فترات التعاسة ، وما أكثرها !. وكان صَبورًا عليها ، ولَم يُضايقها . تَحَمَّل جميع مشكلاتها الذهنية بصدر رحب، ولَم يُشعِرها بنقصها ولا مرضها . ووقف إلى جانبها كي تقف على رجليها بقوة وثبات، وتتحرَّر من كل مشكلاتها وأزماتها ووساوسها ، وهذا هو معنى الرجولة الحقيقي.

[14] (( لو كان بإمكان أحد ما أن يُنقذني فسيكون ذلك أنت )) : لقد أنقذها زوجها مِن أزماتها السابقة ، وساندها في أصعب الظروف ، ولكن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعَودة ، ولو كان هناك مُنقِذ ومُخلِّص فسيكون زوجها،ولكن القضية حُسِمَت ، وانتهى الموضوع . وهي الآن تمشي وحيدة إلى الموت بلا مُنقِذ ولا طَوق نجاة.

[15] (( فقدتُ كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيِّد )) : زَوجها هو الاستثناء . فقدت ثقتها بكل العناصر مِن حولها ، وخسرت كُل شيء . والشيءُ الوحيدُ الثابت في قلبها ووجدانها هو اليقين التام بأن زوجها شخص جَيِّد، عاملها بحب واحترام وتقدير ، وهي لَن تنسى له هذا المعروف في طريقها إلى الانتحار .

[16] (( لا أستطيع المضيَّ في تخريب حياتك )) : تُحاول الكاتبة إيجاد مُبرِّر لتصميمها على الانتحار . إنها تعتبر نفسها عقبة في طريق زوجها ، ونقطة سَوداء في صفحته ، فقد دمَّرت حياته ، وزرعت الخراب في تفاصيل وُجوده ، وعليها أن تُكفِّر عن هذه الخطيئة بالتخلص من نفسها ، كي تصبح حياة زوجها بلا مشكلات.

[17] (( ولا أظن أن أحَدًا شعر بالسعادة كما شعرنا بها )) : هذه العبارة هي السطر الأخير في الرسالة التي أقرب ما تكون إلى وصية قبل الموت ، أو استعادة للذكريات قبل الوداع . إنها تُلخِّص حياتها مع زوجها بأنها قمة السعادة ، التي لا تظن أن أحَدًا وصل إليها . ومشاعرُ السعادة كانت تملأ حياتهما . أمَّا الآن ، فقد انتهى كُل شيء ، ويجب وضع نقطة في نهاية السطر . إن الكاتبة قرَّرت الانتحار ، وهذا القرار لا رجعة فيه ، وها هي تكتب النهاية بملء إرادتها ، ودُون ضغط مِن أحد . ولكل بداية نهاية . وهذه هي النهاية المأساوية .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *