مع احترامي لك

(ثقافات)

مع احترامي لك (قصة قصيرة)

*فراس ميهوب

 

 

لا أحد يذكر على وجه الدقة والتحديد، كيف صار قاسم شخصا آخر، لا يشبه ذاته، وغريبا عمَّا اعتاد أهل بلدته.

 يعتقد ابنه كمال، أنَّ نقطة التحوِّل الكبرى، تزامنت مع تقاعده من سلك الشرطة، حين بلغ الستين عاما.

قضى قاسم معظم خدمته في مخافر صحراوية، لم يؤثر يوما في سير الأحداث، ولم يكن حوله أصلا ما يستحق التغيير، فعمله كان شكليا، وحتى حياته لم تكن تهمُّ أحدا.

هذا الصيف، استيقظ الرجل شبه الصامت، و أضحى محور اهتمام البلدة بأكملها.

استحال إلى آلة كلام لا تعرف التوقف، حتى أثناء النوم.

قال لابنه كمال:

– مع احترامي لك، يا بني، توقف عن خلط الحليب بالماء، وإلا فعليك أن تبيع بسعر مُخفَّضٍ تبعا لنسبة الإضافة.

لو أنه قال ذلك على انفراد لكان الأمر معقولا، ولكن الحديث جرى أمام الجميع، ووصل الخبر سريعا، إلى مسامع تاجر الألبان الرئيسي في البلدة، الذي رفض شراء الحليب نهائيا من كمال، فاضطر لبيعه في المدينة المجاورة، وتخلى مجبرا عن مزجه بالماء.

في صلاة الجمعة الماضية، وقعت كارثة أخرى، ختم الخطيب موعظته المؤثرة، قام قاسم إلى المنبر، وقال على الملأ:

– ما أجمل خطبتك، يا شيخي الجليل، ولكن المشكلة، مع احترامي لك، أنك تنصح الناس بالتقوى، ولا تفعل شيئا منها.

يعلم الجميع أن ابنك قد ترك البيت نهائيا، أنت بخيل لا تصرف على أهل بيتك.

عمَّت الفوضى في الجامع، واختلف الناس بين مؤيد ومعارض، خجل الشيخ، ولم يعد إلى عمله، حتَّى أكدَّ له المصلُّون، أن قاسم غير مسؤول عن كلامه!

وقعت الطامة الكبرى قبل يومين، وصل إلى مقر الناحية وفد وزاري.

كال وزير الإدارة المحلية المديح لمدير الناحية، وبلدته، أجمل بقاع الوطن.

أشاد الوزير بخدماتها الممتازة، ونظافة طرقها!

تدخل قاسم دون دعوة، وقال للوزير المتحمس:

– عن أي إنجازات تتحدث يا معالي الوزير، مع احترامي لك، نظفت اليوم فقط طرقات البلدة احتفاء بزيارتكم، أما الخدمات فهي غير موجودة، إلا في مخيلتك الواسعة.

المياه مقطوعة منذ أسابيع، ولا نرى الكهرباء إلا برفقة مسؤول زائر للبلدة، الشباب عاطلون عن العمل، ويقضون أوقاتهم في المقاهي.

أحرج الوزير، وغضب مدير الناحية، وقرر حبس قاسم، حتى يتخلى عن صراحته المبالغ بها.

توسط أبناء قاسم وأصدقاؤه لدى المسؤول المحلي، وتعهدوا بعلاجه.

طلبوا مهلة بضعة أسابيع، وبدأوا رحلة البحث عن طبيب، أو حكيم.

استجوبه الطبيب بهدوء، روى له قاسم ماضيه المهني، و الشخصي.

كان معزولا في خدمته، لديه أشياء كثيرة، ليقولها إلى رؤسائه، لكنهم لم يطلبوا رأيه يوما.

كبر أولاده وهو بعيد عنهم، لم يشرف على تربيتهم.

عندما تقاعد، قرر أن يقول كل شيء، لم يكن يعلم أن الكذب قد صار لغة رسمية، اتفق المجتمع على النفاق الجماعي!

لم يكن الرجل مريضا، لكنه فقد النطق باللهجة الدارجة، في البداية كان متحفظا وقليل الكلام، وعندما تغيَّر، طلبوا منه أن يسكت، أو يكذب مثل الآخرين.

احتار الطبيب أمام حالة قاسم، هل يعيد تأهيله ليتحدث لغة العصر، أم يحاول علاج المدينة من داء الكذب؟

 كان علاج شخص واحد أسهل بكثير.

أدخل الطبيب قاسما إلى المشفى، استدعى أولاده، اقترح علاجه بجلسات لحرق الوعي، حدَّثهم عن مخاطره المحتملة، وافقوا دون تردد.

جاء المعالجون إلى غرفته، لم يجدوا المريض، كانت النافذة مفتوحة.

حزن أولاد قاسم أيَّاما قليلة على اختفاء والدهم، عاد كمال بعدها لإضافة الماء إلى الحليب كل صباح.

استعاد المصلُّون فرحهم بسماع خطبة الجمعة، أمَّا مدير الناحية، فاستمر بتنظيف الشوارع، وإنارتها قبل كل زيارة وزارية، ولم يشاهد أحد في البلدة قاسما منذ اختفائه المفاجئ.

سمع الناس بظهور رجل لديه نفس الأعراض في مدينة أخرى، ظن البعض أن قاسم استأنف نشاطه، واعتقد آخرون أنه شخص غيره، أصابه ذات المرض العضال.

2020/11/21

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

تعليق واحد

  1. أبدعت و أبلغت …مع احترامي لك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *