*نبيل قديش
( ثقافات )
وصلوا إلى الصحراء تحت ستار الليل، منشدين لحنا سحريّا كالذي يتحصّن به المرتحلون في الفلاة كتعويذة ضدّ الوحشة. كان اللّحن غريبا غير مألوف، تميمة من وحي الصحراء والليل فهما الوحشة وهما التعويذة أيضا.
نصبوا خيمتهم في الأحراش تحت تلّة كبيرة من كثبان الرمل، حيث توقفت شاحنة “زيناوي” المهرّب على مشارف المحرّم وتخوم المجهول. للظّلمة تركهم وللظّلمة عاد. تهادت الشاحنة تمزّق السّكون وتتلمّس طريقها في الرّمال الرطبة، مبتعدة حتى استحالت كتلة من الضّوء المتحرّك في بطء. اختفت أخيرا وانصهرت في الأضواء المتلألئة بعيدا حذو الأفق، حيث كان تجمّع صغير للبدو جوّابي الآفاق. تناثر صوت محرّكها في الصحراء حتى ضاع ولم يعد يصل منه سوى صوت لهيجها وهي تسرع في قضم المدى. ثمّ ضاع تماما وران صمت القبور .
عاد الصوت الأجشّ يهزّ عرش الصحراء بحماسته :
– أصبح عندي الآن بندقية… إلي فلسطين خذوني معكم….
– مخلوق غريب، وحش، له رأس ضبع وجسد ثور، ظهر في هذا الامتداد اللاّمتناهي. هوى قلب أسامة إلى القعر السحيق…اتسعت حدقتا عينيه، أصبحتا بلوريّتين، ترمقان حبيبات الرمل في شرود. وشوش في نبرة من يكاشف نفسه بسرّ خطير:
– إنه هو…وحش “السواكرة”، طالب الثأر المشئوم…
انتبه له القائد، قال :
– ماذا تقول يا أسامة؟ كأنّي سمعت شيئا مثل: وحش… وطالب ثأر؟!
– لا لا أيها القائد، لا تلقي بالا لما قلته. عاد ودفن بصره في الرّمل، انطلق يذرع الزمان والمكان عائدا إلى موطنه حيث نمت قصة غريبة كما تنمو نباتات النّجم البريّة.
ضحك طلال وأحمد والقائد تباعا…أردف طلال بنبرة تناغم وقع المفاجأة التي فجّرها القائد:
– وحش؟!
انهالت كل الأنظار على أسامة ترمقه بنظرات غريبة متوجّسة. واصل الأخير دفن عينيه بين حبيبات الرمل المذهّبة.
قال أبو ياسمين الغزّاويّ ذو الخمسة والعشرين ربيعا وقد اتسعت حدقتاه وتوقف عن الإنشاد :
– ما سرّ هذه المخلوقات؟ هل هي كلاب ؟ ضباع ؟ أسود؟ فهود ؟؟؟أم ماذا ؟
– لا هذا ولا ذاك… إنّها فصيلة غريبة من الوحوش، إنها أشرس من الأسود والفهود، لم يتعرّف إلى جنسها مخلوق.
خيّم الوجوم على الوجوه المضاءة بعضها بلهيب النار المشتعلة أمام الخيمة، تأكل بعضها وتلسع إبريق الشّاي النحاسيّ المصلوب على أطرافها. نظر أبو نضال قائد المجموعة في عمق النّار وكأنّه يستلهم منها البوح، لا زال لثامه البربريّ يحجب كامل وجهه، باستثناء عينيه. ظلّ على امتداد الرحلة متنكّرا عن المهرّبين الذين خفروهم من رفح المصرية إلى هذه النقطة القصيّة من الصحراء. قال مستطردا بصوت زاده اللثام رجولة وصفاء:
– أعدادها بالمئات، رؤوسها كبيرة مخيفة، قد يزن الواحد منها مائة رطل، مع ذلك قيل أنها سريعة وفاتكة!
قال الجميع في صوت واحد امتزج بكل الأحاسيس:
– وماذا أيضا ؟
قال أبو نضال بشيء من الصّرامة مشوبة بحنوّ أبويّ مفتضح:
– أخبرتكم لتحاذروا لا لتفزعوا. أنتم أبنائي ورجالي، ما أعلمه من حقّكم أن تعلموه. كونوا رجالا كما عهدتكم. لا أسود غيركم فوق هذه الصحراء وتحت هذه السّماء!
عاد الصوت الأجشّ، صوت أسامة (منشد المجموعة)، منشدا، محفّزا للهمم :
– يا بني الصحراء أنتم في الوغى حاملي المشعل في الدرب الطويل، اصنعوا الثورة في أمتنا أسلكوا من أجلها هذا السبيل. أقطعوا رأس الدخيل! أقطعوا رأس الدخيل!
ردّد الكل :
– أقطعوا رأس الدخيل… اقطعوا رأس الدخيل…
تابع القائد كلامه، كان يجلس القرفصاء أمام النّار. أخذ حفنة من الرّمال المذهّبة. طعن اللهيب بخنجره الحربيّ الطويل. ترك حبيبات الرمل تفلت من راحتيه إلى جهنّم. بدا على هيأته تلك كزراداتشي من عبدة النّار. قال:
– أخبرني أحد المهربين من بدو سيناء أن الحيوان يطحن فريسته برمّتها، حتى العظام يلوكها.
قال أحمد الذي يتقلّد صورة ابنيه التوأمين الذين لم يرهما منذ عامين:
– أتيت هنا لأعبر أو استشهد لا ليأكلني وحش كاسر وتقف على بقاياي الغربان والضباع!
ردّ طلال التونسي “الطبرقي” ذو العينين الملوّنتين بلهجته الشماليّة الجميلة التي لم يتخل عنها رغم كل شيء. كان عليه أن يعيد على مسامعهم كلّ ما قاله بجنس من العربيّة الهجينة فيها شيء من الدارجة التونسية :
– ذكّرتني بفصيلة الكلاب المقاتلة المستوردة التي أطلقها الدرك التونسي في أدغال ببوش وحمّام بورقيبة ليوقف المهرّبين.
قال أبو نضال:
– هي مختلفة يا بني لا تصدّق كل ما يقال لك. تلك مخلوقات ما لم تشاهد عين ولا سمعت أذن.
غرس خنجره في الرمل بطعنة صمّاء ثم أردف قائلا محاولا محاصرة الفضول والقلق في الأعين الحائرة:
– هلاّ سكبت لنا أقداح الشّاي يا أسامة!
قال طلال متهكّما:
– منذ متى ونحن ننتظر ؟هيا صبّ لنا شايك الموعود.
تلفّت المصري إلى طلال. لم يكن يبدو أنه ينصت. كان ساهما. انتشل بصره من بين حبيبات الرمل المذهبة، طفحت عيناه ببعض الحنق، لكنّه رسم على شفتيه ابتسامة أسف. اعترف بإهماله لإبريق الشّاي حتى فاض وتجشّأ مائه واحترق. جذبه بغصن يابس من اللهيب، سكب فيه الماء، طوّحه في الهواء في شكل دوائر صغيرة ثم قلبه على رأسه وأخرج كل ما في أحشائه. وضع فيه الماء مجدّدا، أضاف إليه حشيشة الشاي الأحمر التركيّة وبعض سكر ودفع به مجدّدا إلى صهد النّار .
قال وهو يتفادى أن تنزلق بندقيّته المسترخية فوق فخذيه. أخرج من طيّات ثيابه صورة بالأبيض والأسود لشيخ بدوي مجلل برداء “سيناوي” سميك. قال وهو يقلّبها كما نقلّب قطعة من معدن نفيس:
– أنه والدي الشيخ الحاج مصطفي متولي…
اشرأبت الأعناق تحاول أن ترى الصورة من خلال اللهب لم يعلّق أحد. قال مستطردا:
– أظنّكم سمعتم بالراعي الذي فقد خمسمائة رأس غنم بين خرفان وماعز في بوادي سيناء، ولم يكتشف ذلك إلا حينما انحصر عددها إلي مائتين أو أكثر بقليل.
صاحت الأصوات في بلبلة وصخب :
– غير معقول! أمر لا يصدق، إنها خرافة…لم نسمع عن ذلك من قبل…
تابع طلال وهو يبتسم من زاوية شفتيه ويتوقّع هجمة من أسامة :
– ألم يكن يجيد العدّ؟ هل كان نائما طوال ذلك الوقت؟
تابع أسامة يقول:
– بالفعل لم يكن يجيد العدّ. ثم لماذا تراه يعدّها؟ لم يكن يشاركها فيها أحد، ولم يكن يبيع منها ولا رأس واحد. كان يشرب من حليبها، يأكل من لحمها ويلبس من صوفها. أنه كما لو كان الإنسان المكتف، جدّنا البدائيّ الذي حدثّنا عنه “روسو”.
تعالت الأصوات متذمّرة… قنا شرّ فلسفتك الآن، ماذا بعد أن أكتشف هذه الخسارة في قطيعه ؟ قال أسامة في فضول:
– طفق يبحث في الأحراش والأودية والجرف عن خيط يوصله إلى حلّ اللّغز. لم يكن هناك أيّ أثر لذئب أو ضبع، فهي الوحيدة القادرة على افتراس الخراف والماعز. لم يعثر على أيّ دليل.
قال القائد وهو يحاول أن يبدو في مستوي الذكاء والحنكة التي وجب أن يكون عليها قائد مجموعة من الفدائيين:
– القاتل دائما يترك ما يشي به في مسرح الجريمة. ألم يكن هناك من أثر؟ جثة مختنقة؟ آثار دماء؟ بقايا بعر أو براز أو رائحة ؟
– بلى، استمرّ في البحث، عسكر ليال طوال مصوّبا بندقيّتيه إلى مدخل الزّريبة حيث يأوي القطيع. استمرت الحراسة لشهور. أتت بعض الثعالب وبنات آوى ولقيت حتفها لجرم لم ترتكبه. لم يكن هناك من سارق ولا قاطع طريق. من تراه يجرؤ على رعي الشيخ متولي؟ من تراه يجرؤ على الاقتراب من عرين الأسد؟ في يوم كان يتبع قطيعه في سهل أجدب تحوم به هضاب صخريّة وتتوسّطه شجرة طلح كبيرة، حصل شيء غريب أشبه بحكايا الزّمن الغابر.
فغرت الأفواه و اتسعت الأحداق كفناجين الشاّي الفارغة:
– ماذا حصل؟
تابع المصري حكيه:
– جلس تحت شجرة الطلح ذات البراعم الملتفّة والأزهار الغضّة البيضاوية الرؤوس. كان قد دغدغ بطنه الجوع، وقف يهزّ أعرافها حتى تسقط أوراقها وبراعمها فيقتات منها. حينذاك سقط جسم غريب من أعلى الشجرة وارتطم بالأرض.
قال سيف أصغرهم جميعا، القادم من غدامس أرض الأهوال. والذي يشاكس حتى الموت:
– أكمل بالله عليك، بدأت خرافتك تستهوينى!
قال أسامة :
– عليك بجدّتك إذا كنت تبحث عمّن يقص لك خرافة، ويمسّح على شعرك حتى يغلبك النوم.
انطلقت القهقهات تمزّق جوف السكون. نعقت بومة في الخلاء غير بعيد عنهم. كانت على الأرجح تسامرهم وتنصت للحكي مثلهم تماما. تابع سيف الإسلام متصنّعا جديّة لا قبل بتقاسيم وجهه المرحة بها:
– أنا أيضا أريد أن أحكي لكم حكاية.
قال الكل في تأكيد :
– عليك اللعنة!اتركه يكمل ما بدأه، لديك الليل بطوله لتحكي لنا حكايتك.
قال سيف وهو يرفع يده ويحني رأسه ناحية أسامة و يبتسم مخاتلا :
– أستسمحك يا رفيقي العزيز. ثم أردف وهو يتصفّح الوجوه التي أصبحت ينابيع من ضوء النّار القاني:
– لن أطيل عليكم. استمعوا إلى هذه القصّة الغريبة!
– لا نريدها ساذجة بليدة ، إذا كانت كذلك قنا شرّها عليك اللعنة!
تابع أسامة :
– تعرفون أنني من غدامس، المدينة الصحراوية القديمة قدم التاريخ، لكنّكم لا تعرفون حتما سرّ تسميتها بذلك الاسم. هل لأحدكم أن يخبرني ما معنى غدامس؟
أطبق الصمت، تبادلوا نظرات استفهام قال قائدهم :
– أخبرنا أنت أيها الفطن.
تابع سيف الإسلام حيث لمعت عيناه بمكر:
– قديما توغّلت قافلة من البدو في صحراء إفريقيا في طريقهم إلى تجارة ورعي. أناخوا جمالهم بعد مسيرة يوم كامل في وهج الشمس. جلسوا، أكلوا وشربوا وأخذوا قسطا من الرّاحة. تابعوا المسير مرة أخرى ولكنّهم تذكّروا أنّهم نسوا قصعة الطعام في المكان الذي تغدّوا فيه أمس.
أكمل عنه طلال وكأنّه يقرأ عنه ما تبقّى من نفس الصحيفة. عرّاه أمام الكل:
– عادوا أدراجهم يبحثون عنها في المكان الذي أكلوا فيه، وبينما هم يبحثون تفجرت عين ماء فسمّوها عين غدامس، أي حيث غداء الأمس، فأصبحت غدامس من ذلك اليوم!
قال أسامة مشدوها :
– ثكلتك أمّك، من أخبرك بها؟ أأكون أنا من أخبرك و نسيت؟
– هذه حكاية من حكايات “غوغل” البائسة.
– طوبى لك، لقد كشفتني….
ضحك الجميع ملء القلب. تبدّدت ضحكاتهم في الصحراء الشاسعة. كانت لحظة صفاء مسروقة في غفلة من الليل والصحراء. سرعان ما عادت العيون تطفح بالترقّب. عادوا إلى أسامة وحكايته الغريبة. قال القائد مرة أخرى :
– أكمل، ثم ماذا؟ أكمل يا أسامة دعك من سيف. دعك من نكاته البليدة!
رمق سيف بنظرة انتصار. قال مذعنا للفضول الذي حاصره من كل الجهات:
حين رأى جثّة الجدي وقع على الأرض. خطا خطوات إلى الخلف وهو يصوّب فوهة بندقيّته إلى الجسم الأسود المكوّم أمامه. اقترب بعد ذلك متحفّزا. حرّك بعقب البندقية الجسم الذي تعرّف عليه من بعيد ولكنه أراد أن يتيقن منه. كان يرتعش كغصن شجرة أراك في مهبّ عاصفة صحراوية. كان الجسم الأسود لأحد جداءه البالغة. تفحّصه، كان يحمل في عنقه آثار نابين أو مخلبين عملاقين. لم يكن يدري تحديدا. كانت الجثة دافئة، فارقتها الروح منذ وقت قصير جداّ. نظر إلى الأعلى من حيث سقطت. أحسّ بأعين تحدّق فيه من خلال الأغصان والبراعم المتشابكة بعضها في بعض. سمع زفير أنفاس لكائن خرافيّ لا ينتسب إلى عالم الإنس. نظر إلى الخلاء الممتدّ من حوله. تركّزت عيناه على الفرس التي حمحت وجفلت تضرب يمينا وشمالا بعد أن مزقت الرسن. تبعها الكلب هاربا في أعقابها. زاده ذلك يقينا من أنّه لم يكن في حضرة إنسيّ. بالعادة لم تكن الفرس لتجمح لو لم تشعر بوجود مخلوق غريب. هربت مع الكلب وتركاه يواجه مصيره لوحده.
صمت أسامة أخذ نفسا عميقا من سيجارته. تعقّب الدّخان المنبعث من فمه وأنفه في شكل دوائر تتسع وهي تصعد نحو السماء حتى تختفي تماما. أعاد الصورة إلى طيّات ثيابه مرّة أخرى. همّ أن يتكلّم. في تلك اللحظة غير المتوقّعة كانت يد القائد أسرع. رفعها في وجه أسامة. أشار إليه أن يصمت. أرخى الكلّ السمع إلى الخلاء. كانت هناك حشرجة آتية من أكمة غير بعيد من خيمتهم، أنفاس ولهاث وضرب حوافر في الرمل. كان هناك مخلوق يقترب بثبات ويقتحم خصوصيّة مكان بدت بعيدة المنال في حماية ليل لا بدر فيه وصحراء كبحر. تبادلوا نظرات محمومة متعجّلة. صاح فيهم القائد:
_ إنّه هو…
خلال وقت وجيز، ثانية أو ثانيتين، حيث تقوّض السكينة التي كانت تغلف المكان، وتعمّ فوضى خلاّقة صغيرة، يبدأ فيها الكلّ بتلمس سلاحه، وتشرأب الرؤوس نحو مصدر الصوت، ويظل آخرون محنطين، غير قادرين على إتيان أي فعل، ذلك لأنه يلزمهم المزيد من الوقت لاستيعاب المفاجأة، كان أسامة قد اختفى. فعل ذلك بحركة ساحر، أتقن فعل الاختفاء دون أن يراه أحد. تبخّر في الظلمة، وكأن يدا من السماء امتدت وانتزعته، السماء التي كثيرا ما شهدت طقوسه تلك، وأصبحت تشاركه إياها. فهي تمنحه ستار الساحر الأسود، الذي يحيك من وراءه ألاعيبه القاتلة… وبينما كان شريكه الذي كان هو في صورة ذلك المفترس، يرمقهم وقد تقاطر لعابه من شدقيه، كان هو يقصّ عليهم تلك الحكاية، وصورة أبيه بين يديه تتمّة لذلك القصّ المخدر، وقبل الانقضاض، كان كل مرة يذعن لسطوة القاتل الأكبر الساكن فيه، ذلك أنه يريد غمس فريسته في الذعر والذهول ليشتد قتارها. وحين يأزف ميعاد الالتقاء من جديد، اللحظة التي تلتحم فيه روح القاتل المدنسة، بجسده الممسوخ، الالتقاء والإتحاد من أجل الفتك، يلبّي هو نداء القتل دون تأخّر، كما لبّاه عشرات المرات قبل هذه الليلة الهادئة المقمرة..
_______
*قاص من تونس