-
د. جهاد العمري
من الصعب جداً ان تكون من جيل الستينات او السبعينات في اربد ولا تكون الشام او دمشق حاضرة في تفاصيل شتى من الحياة اليومية فالشام (دمشق) كانت رئة الشمال الاردني ابتداءً من “جهاز العرايس” و “شهر العسل” الى محلاتها ودكاكينها ومطاعمها والجار الاقرب، وانا من ذاك الجيل الذي تعود على فكرة ان إربد استقبلت الشوام منذ بداية القرن الماضي، والعائلات الشامية جزء من نسيج المجتمع الاربداوي وتاريخياً كانت الناس تقصد الشام للدراسة والتجارة وبقيت الهجرات الشامية ترفد الشمال الاردني حتى وقت قريب وهناك عائلات كثيرة هي اربداوية وشامية في آن واحد استطاعت وعلى مدى عشرات السنين وقدرتها على مزج الثقافتين المتقاربتين والمختلفتين هو مصدر اعجاب بالنسبة لي، وما يميز اربد تحديداً هي قدرتها على صهر المكونات المختلفة الاصول في هوية اربداوية اصيلة تحترم الاصول والمنابت وما يسري على الشوام يسري على التركمان والاكراد على سبيل المثال لا الحصر.
فكرة الانتماء والهوية والهويات المتعددة هي فكرة في غاية الصعوبة بالنسبة للمجتمعات المنغلقة ولكنها فكرة في غاية السهولة بالنسبة للمجتمعات المنفتحة والمتقدمة ومصدر ثراء، وهي فكرة الراوية التي تكرمت القاصة “نور ارناؤوط” باهدائها لي، وكم كنت مسروراً بقراءة هذه الرواية السلسة المشوقة والتي تقع بنحو ١٢٠ صفحة من القطع المتوسط، والحقيقة انني قرأت الخمسين او الستين صفحة بجلسة واحدة محاولًا ان اعرف من هي هذه “فردوس” والتي هي مصدر “اللعنة!!!”
وهذا كله يحسب للقاصة “نور ارناؤوط” في ابقاء القارئء مشدوداً للرواية طيلة الخمسين او الستين صفحة الاولى، وتزداد الدهشة اذا عرفنا انه هذه هي روايتها الاولى .
لست مداحاً ولا أجامل اذا قلت ان “نور ارناؤوط” هي مشروع “روائية اردنية” من الصف الاول في السنوات القادمة، وهي تقدم لغة بعيدة كل البعد عن التكلف باسلوب سردي جميل يشدك من الصفحة الاولى فهي تبقيك على اعصابك مع كل صفحة وأنت متعطش لسبر اغوار شخصيات الرواية وخلفياتهم ومن اين أتوا والأهم من ذلك كيف يرتبطون ببعضهم البعض، وكل هذه التشابكات بين العائلات الاردنية المهاجرة التي جمعتها مدينة عمان من مناطق مختلفة، وهي بذلك تقدم للقاريء الاردني (والعربي) جانباً مهماً من تاريخ عمان الحديثة والتي نعرف جميعاً أنها تأسست بالاغلب من مهاجرين جاءوها لكن هذه الحقيقة في تأسيس عمان تبقي مغيبة أو مسكوت عنها أو يتم القفز عن حقائقها بدون سبب وجيه.
سمير هنا هو بطل الرواية وهو المحرك الاساسي لكلّ احداثها، وآجلاً أم عاجلًا سوف ينتاب القاريء الشعور ان سمير ليس الا “نور” نفسها في مواقع مختلفة، وسمير هنا يقدم لنا بعضًا من جوانب صراع الهوية التي يمر بها الجيل الثالث او الرابع من المهاجرين، وهو ما يغيب عن بال الكثيرين بوجوده وهو شخصيا ما شكل نوعاً من المفاجأة بالنسبة لي، واعتقد جازماً ان الرواية تقدم اسهاماً مهماً في موضوع الهوية الاردنية ومشاربها وتنويعاتها وهذا ايضاً ما يغيب عن بال الكثيرين، ولو ان الوقت حالياً يبدوا مأروماً في اي نقاش عن الهوية الوطنية الجامعة ولكن برأيي عندما يحين الوقت ويكون ملائماً فمجموعة الافكار والطروحات والاجابات التي تقدمها القاصة “نور ارناؤوط” ناتجة من صراع طويل ومرير وعميق وفلسفي من الممكن ان يقدم لاعمال مماثلة في المستقبل سواء من “نور ارناؤوط ” او اخرين عاشوا تجارب مماثلة ولديهم طروحات واجابات من الممكن ان تثري اي نقاش حول موضوع الهوية.
ليس من عادتي ان اعطي الحبكة، واقدم تلخيصا عن الرواية فهذا برأيي يفسدها على القاريء لكن دعوني اقول إن معظمنا سيتعاطف مع شخصيات الرواية، وهناك شيء اخر فانا اول ما قرأت العنوان قرأته “لعنة الفردوس” ب “ال التعريف” وليس “لعنة فردوس” ومع ذلك فان اختيار الاسم فردوس لم يكن عبثياً وكما اكدت لي الكاتبة فان غياب ال التعريف لم يكن ايضاً عبثيا.
أمنيتان فقط هو ان لا تكون هذه المحاولة الاولى والاخيرة للكاتبة، وأن نقرأ المزيد من كتابات شركس وشيشان وتركمان واكراد الاردن، وحسبنا ان اكبر الشعراء احمد شوقي كان من اصول شركسية او كردية وتركية
شاهد أيضاً
فرويد وصوفيا في جلسة خاصة
(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …