لويز جلوك ..حاكَت ألمَها بإبرةِ الانتظار
وحكَتْ وجعَها بلغة الوصْل
فقدت الكلام كشهيتها
لويز جلوك تحذف وتكتب ما لايقال
أحـمـد الـشـَّهـاوي
ليست لويز جلوك مجهولةٌ ولا سرية ، كما قال البعض بذلك ، بل هي شاعرة لها اسمُها ، ومكانتها في بلدها الولايات المتحدة الأمريكية ، ونالت في الأغلب كل الجوائز الأمريكية ، التي يمكن أن تُمنحَ لشاعرٍ ، كما أنها نالت منصبَ شاعرة أمريكا المُتوَّجة ، وهو المنصب ذاته الذي ناله كُبراء الشِّعْر في أمريكا .
و قد تكون مجهُولةً لدي البعض ، والجهل بها يعُود إليهم فقط ، فهي موجُودةٌ في اللغة العربية منذ سنواتٍ ، وهناك قصائد متفرقةٌ لها تُرجمتْ إلى العربية ، لكنَّ هناك كتابًا شعريًّا عنوانه ” عجلةٌ مشتعلةٌ تمرُّ فوقنا ” وهو مختارات من أربعة كتب شعرية للشاعرة ، ترجمه لها سنة 2009 ميلادية صديقي وأخي الشَّاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هوَّاش ، الذي كان له الفضل في نقل شعر أسماء كثيرة ومهمة من الشِّعر الأمريكي إلى العربية ، وقد بدأ مشروعه بالترجمة والنشر على نفقته الشخصية ، إلى أن وجد مؤسسة ” كلمة ” الإماراتية و” دار الجمل ” الألمانية العراقية اللتين نشرتا ما كان قد نشره هو ، وزاد عليه بعد ذلك الكثير من الكتب الشعرية الأمريكية ، وهو من الشخصيات العارفة والمطَّلعة بعمقٍ على مشهد الشعر الأمريكي الحديث .
وسبقه إليها الناقد الكبير والمترجم السُّوري الذي يعيش في باريس صديقي الحبيب صبحي حديدي ، حيث قدمها وترجم لها ، وهو العارف الأكبر بالشِّعر ، والذي دلني يومًا ما على الشَّاعرة H.D هيلدا دولتيل Hilda Doolittle (10من سبتمبر 1886 – 27 من سبتمبر 1961ميلادية ) ، وهي شاعرة تبكي قصائدها وحدتها ، مثلما نجد في شعر لويز جلوك ، حيث عاشت معاناة انفصالها عن زوجها الشَّاعر ريتشارد ألدنجتون Richard Aldington صاحب كتاب ” لورانس في البلاد العربية ” الذي صدر في القاهرة بترجمةٍ مصرية.
وكان لدي هيلدا – التي زارت مصر يومًا – ولعٌ واهتمامٌ عميقان بالأدب اليوناني القديم، كما وظَّفت الميثولوجيا اليونانية ، وإرث الشُّعراء الكلاسيكيين في شِعْرها ، وهذا ما اتبعته حرفيًّا لويز جلوك في شِعْرها بعد ذلك .
وما فاجأني أن لويز جلوك (Louise Glück) لها قصيدة عنوانها ” أغنية بنيلوب ” تأثرت فيها بشكلٍ كبيرٍ بقصيدة هيلدا ” البُستان “، وهي واحدةٌ من أقدم وأشهر أشعارها، التي نُشرتْ للمرة الأولى في مختاراتٍ سنة 1919ميلادية :
« دُرْ، أيُّها البحرُ –
دُرْ صوب أشجار الصنوبر.
رش أشجارَ الصنوبر العظيمة
على صخورن.
ارمِ أخضرَكَ فوقنا
غطِّينا ببركٍ من التنوب.»
هيلدا كانت تعاني من ” جنُون الارتياب ” ، ويعالجها سيجموند فرويد ، و في ربيع عام 1946ميلادي عانت من انهيار عقلي حاد ؛ الأمر الذي جعلها تبقى في مصحة حتى خريف ذلك العام ، وعانت لويز جلوك أيضًا من مرض ” فقدان الشهية العصبي ” ، مثل عانت الشاعرتان كارول آن ديفي ، وإيفان بولاند من المرض نفسه .
وقد ” صادقت هيلدا دولتيل سيجموند فرويد في الثلاثينيات من القرن العشرين، وأصبحت مريضته ؛ لأنها تدرك أنه يؤمن بأن ” الشِّعر أساسيٌّ لعمل اللاوعي ” ؛ و لكي تتمكَّن من الفهم والتعبير عن ازدواجية ميولها الجنسية، وبقايا صدمتها من الحرب، وكتابتها، وتجاربها الروحية. تزوجت هيلدا مرةً واحدة، ومرَّت بعدد من العلاقات مع كل من الرجال والنساء. وكانت غير آسفةٍ عن حياتها الجنسية، وبالتالي أصبحت رمزًا لكل من حقوق LGBT والحركات النسوية عندما أعيد اكتشاف قصائدها، ومسرحياتها، ورسائلها، ومقالاتها خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ” .
وكانت علاقاتها الجنسية كثيرةً ومُتعددةً وغريبةً مع شخصياتٍ شهيرةٍ في الشِّعر والرواية مثل إزرا باوند الذي كانت خطيبته يومًا ، ودي إتش لورانس ، وكذلك مع نساءٍ أخرياتٍ في عصرها .
وأعود إلى لويز التي تأثَّرت كثيرًا بشعر هيلدا وتتبعت خُطاها ، وقرأت نتاجها ، وذهبت نحو مصادرها الأولى ، ومتونها الأساسية في المعرفة وتشكيل الرؤية الشعرية.
…
للويز مفاتيح كثيرة لقراءتها شعريًّا ، ولا ينفصلُ بابُ اللغة الحميمة الدافقة الدافئة والحادة معًا ، والإيقاع الخفي المُستتر الذي تفضِّله ، عن باب الحياة المرتبكة التي عاشتها ” المرض ، الزواج ، الطلاق ، العشق … ” ، والتي جعلت بحر دموعها سهلا عند أبسط موقفٍ يواجهُها ، سواء أكان مُفرحًا أم مبكيًا ، كأنَّها لم تعرف في مسيرتها سوى الأسى والوجع :
” فعلتِ أشياءً ما كان ينبغي
أن تناقشها القصائد “
تخاطب رُوحها هكذا ، تلك الرُّوح التي قادتها نحو محاولة معرفة الذات ، والذهاب إلى الأساطير ، ثم المكوث طويلا في أرضِ أسطورتها الشخصية :
” وهكذا هبطتِ الآلهةُ لتأخذَ هيئةَ البشَرِ، الطافحين بالشَّوقِ.
وفي الحقلِ، في غيضةِ القصبِ،
صرفَ أبوللو الحاشية ” .
ثم الباب الثالث ، وليس الأخير ، وهو باب الموت :
” في ختام عذاباتي
كان ثمة بابٌ.
أنصتوا إليّ: ذاك الذي تطلقونَ عليه اسم الموت “
ليز جلوك حاكَت ألمها بإبرة الانتظار ، وحكَت وجعَها بلغة الوصْل ، حيث البساطة العميقة والاحتفاء بالموسيقى الخفية في الشِّعر :
” أفكاري عميقةٌ وذاكرتي طويلةٌ،
لماذا أحسدُ حريةً كهذه
حين أملكُ كُلَّ ما هو بشريٌّ؟ “
فهي صاحبة نصٍّ يكرهُ المباشرةَ والزعيقَ ، تكتبُ مثلما تعيشُ في الظلِّ الذي أرادته لنفسها ، على الرغم من أنَّها نالت كلَّ الجوائز التي يمكن أن ينالها شاعرٌ أمريكي ، قبل أن يُتوَّج بجائزة نوبل في الآداب ، التي هي كبرى الجوائز .
هذه الرُّوح التي تنشد نشيدَ الذَّبح الذي استمر طويلا معها ، وتُغنِّي نشيجًا لا يدركُه إلا أهلُ البصيرةِ ، تدرك ليز بفطرتها فرادة هذه الرُّوح ، فتصفها أو قل تحدِّد ملامحها :
” بأغنيتكِ المُظلمة، الطامعة،
أغنيتكِ غير المألوفة، الجيّاشة “
إذْ هي شاعرةُ المشهدِ والحال والفكرة ، لا شاعرة الوصف .
ليز جلوك شاعرةٌ مشغُولةٌ بالأوان في متنِ القصيدة وأرضها التي عادةً ما تواصلُ الحرثَ فيها – ربما لأنها مشغولةٌ كثيرا بالزهور – كأنها تنسج سجادة شرقية تختزلُ رواية حياة في شخُوصها وكائناتها في وحداتٍ صغيرةٍ تتعدَّد وتتنوَّع بحيثُ تمثل في النهاية قطاعًا من سيرتها ، ومهجُوسة بإقامة علاقات تبدو مستحيلةً داخل النصِّ ، لكنها تفرح بهذا اللعب المستمر في تزويجِ المتناقضات ، كأنها تهاجرُ مع طيورها إلى أماكن مجهولةٍ تبحثُ عنها ، كأنَّ الشِّعر عندها سفرٌ دائمٌ إلى الغامض والخفيِّ ، وهو بالفعل كذلك ، حرثٌ في أرضٍ لم تطأها قدمُ كائنٍ من قبل .
شاعرةٌ تعزِّي روحها كأنها تعتذرُ عمَّا فُعِلَ فيها ، وعمَّا نكبَتَها الحياةُ به ، كأنها الزهرةُ التي قفزت ” من دم الجرح النازف ” .
عاشت الشاعرةُ الموت ، تدركه وتنتظره وفزِعَتْ منه
” وتلقت جلوك العلاج النفسي خلال خريف عامها الأخير في مدرسة جورج دبليو هيوليت الثانوية في هيوليت في نيويورك. ثم أُخرجت من المدرسة بعد بضعة أشهرٍ للتركيز على إعادة تأهيلها، ولكنها تخرجت في عام 1961 ميلادي دون أي تأخير” ، وكتبتْ إثر ذلك : « أدركتُ أنني سأموتُ في مرحلةٍ ما. لكن ما كنتُ أعرفه بشكلٍ أكثر وضُوحًا وبشكلٍ أكثر عمقًا، هو أنني لا أريدُ أن أموت ».
…
تكتب لويز بخيالٍ مفتوحٍ ملآن بالغِنى والاحتشاد والتنوُّع والمعرفة المرتبطة بالإرث الإنسانيِّ ، ودون تحفظٍ لا داع ولا طائل من ورائه ، ابنة الذات والمشهدية المفتُوحة على ما هو إنساني بالدرجة الأولى.
عاشت حياتها بالأحلام ، حيث لا يكون الإنسان إنسانا بغيرها :
( ما الشاعر بلا أحلام ؟ )
وهي التي أمضت حياتها مخدوعةً في الحب ، ” إذ لم يكُن قلبي صلبًا كسهمك ” يا إيروس ” إله الحب والجنس ” ، لكنَّ الشاعرة التي انتظرته طويلا ، ولمَّا جاء ، لم يكن قلبها مهيَّئًا لاستقبال سهمه الصلب .
شاعرة مشدودة ” إلي المحذوف ، إلي ما لا يُقال، إلي الإيحاء الذي لا ينطق، وإلي الصمت المتعمَّد البليغ. ويحدث غالباً أن أحلم بكتابة قصيدة صامتة، تماما كما يحدث حين أحلم بمشاهدة ما لا يُرى : قوّة الخرائب هذه التي تفوق قوّة العمران كلّه).
مرتبط
إقرأ أيضاً
عَودة في الانتظار*ميساء البشيتيخاص ( ثقافات )أثقَلت عليَّ دموعك المنهمرة في ليل الأمس .. تلقفتها بقلب واهن…
-
-