(ثقافات)
-
عمر عبد الرحمن نمر
أنهيت للتو قراءة رواية “تحرير” للكاتبة “حمدة مساعيد ” وتقع الرواية في 285 صفحة، وتتضمن عشرة فصول، وهي من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية 2021
يستهل الأستاذ عزت أبو الرب تعريفه بالرواية فيقول: ” مرت عشرون سنة على تجربة الكاتبة الشابة حمدة خلف مساعيد في روايتها”تحرير”، بفصولها العشرة، وصفحاتها المئتيْنِ والخمس والثمانين قبل أن ترى النورَ على يدِ وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2021″… وهنا أتساءل: لو قدّر للكاتبة إعادة ما كتبت، هل ستبقي النص على حاله؟ أم تغير في الشخوص، والزمان، والأمكنة، و… و…؟ التساؤل الآخر: من الطبيعي أن تطور الكاتبة تجربتها خلال عشرين سنة، وهذا حتماً سيطور إمكانات النص الموضوعية، ومعطياته السردية، وآلياته… وعند الخروج من هذه التساؤلات وعدم التورط في مفاهيم زمن الكتابة، والزمن التاريخي، وزمن الكاتب، وزمن القراءة، وأزمنة داخلية أخرى في النص… نجد أنفسنا نقرأ عن أحداث عاصرناها، ودارت أحداثها، أقدر ولست جازماً في انتفاضة الشعب الفلسطيني الثانية وما بعدها، من سنة 2000 وما بعد ذلك… وهنا تكمن قدرات الكاتبة في اختيار سارد ينظر في الأحداث كما ينظر إليها المتلقي، ويدع الشخوص المشاركة في صياغة الأحداث تتحدث عن ذاتها (أنا أتحدث) وتعبر عن تمظهراتها الحياتية في بوتقة فلسطينية نضالية بامتياز… السارد يدير الشخوص، ويرينا إياها بثباتها حيناً وبتطورها أحياناً أخرى، وهو إن لم يكن منحازاً في العلن، فهو منحاز لقضيته الكبرى (فلسطين ) في الخفاء…
وقد استطاع السارد أن يجمع خيوط النص الممتدة بيده، ويسير بها من محطة حياتية إلى أخرى… ومن موقف إلى آخر، وهنا ظهر ضمير الغائب (هو/هي) تجلى ذلك في التشكيلات الفنية والموضوعية وحتى التاريخية التي تسربلت بها الشخصية المحورية ” تحرير ” ومن خلال هذه التشكيلات رأينا الأبطال الآخرين، يشرقّون ويغرّبون في الفضاء الروائي، وهم يحملون رسالة واحدة (فلسطين) همّا واحداّ، وإن بدا برؤى منوعة، وهذا نابع من اختلاف الخلفيات البيئية، والثقافية، والتربوية، التي تنتمي لها هذه الشخصيات، علاوة على التجارب النضالية لكل منها. ورغم هذه الاختلافات، فقد تحدثت الشخصيات وعبرت عن نفسها وتحاورت مع بعضها بعضاً، بلغة واحدة لا اختلاف فيها، لغة تقترب من الفصيحة، لكنها لا تحتاج إلى معجم، وتبتعد عن العامية، رغم ملامستها للشارع الفلسطيني… وتظهر معطيات السرد، السارد جزئي المعرفة، يعرف عن الشخصيات أشياء تكشفها بتفاعلها معه، وتختفي عنه أشياء… وهذا يدلل على إن الشخصيات كانت تتطور فكراً ورؤيةً وممارسةً بشكل تدريجي… فتحرير صاحبة العمل الطوعي، ودارسة الصحافة والإعلام في بداية الرواية غيرها تحرير حاملة السلاح… والشهيدة… وحتى إيهاب اللامبالي في بداية النص… تتطور رؤيته وممارسته في النهاية… كذلك سمير وسعيد وشادي… وفي الأحوال كلها هل تقنعنا هذه الشخصيات لتمثل نفسها، بشكل فردي؟ أم إنه يمكنها أن تتركب لتكون نماذج اجتماعية، تتعايش مع بعضها بعضاً في المصالحة والتناقض… فأكرم يمثل المناضلين المعتقلين، الذين استشهدوا دفاعاً عن الأرض، وتحرير نموذج المرأة الفلسطينية التي تشارك الرجل في الميدان، وتستشهد أيضاً… وإيهاب الطالب الذي انتظر مستقبلاً باهراً، لكن الاحتلال منعه من تحقيق هدفه… أما الحج أمين فمثل طبقة البرجوازية التي تتكىء في أعمالها على الشركاء الاستعماريين… فادي مثل شريحة الجواسيس التي كانت تلاحق المناضلين وتبتزهم وتشي بهم وتوقعهم في حبالها… أما شادي فيبحث عن هوية زرقاء بزواجه من سولينا، هوية تفتح أمامه بوابات الداخل الفلسطيني… وغيرهم… وغيرهم… نعم، إنهم نماذج عرفناهم ونعرفهم… ويتفاعلون بسلبيتهم المدمرة، وإيجابيتهم البانية المعمرة للأرض… ولعمري، هذه هي قدرات الرواية التي اخترقت وعينا، وحركت فينا شهية القراءة، أتت بهذه الشخوص المعروفة، وسلمتها قيادة الفضاء الروائي، وسلطة السرد، وصرنا نحن المتلقين نسمع ونصغي، بشوق وجذب لها… علاوة على أحداث النص التي يدركها جيلنا تماماً… أحداث القتل والشهادة، وهدم البيوت، وتدمير المزارع، واعتقال الشباب، وعذابات المعتقلين، وإضراباتهم، ومنع التجول، والحواجز، والحوارات بين المحتل بمعنييه المتضادين… والتظاهرات ضد المحتل، ومنع المواطن من السفر، وإغلاق الجامعات… و… و… وغيرها… حوادث نعرفها لكن جلبها وجبلها وإعادة ترتيبها في سياقاتها الحياتية وأثرها على الناس… بأسلوب بسيط… هذا هو التجاوز، فكأننا أمام نحات أو رسام أخذ مواده من عناصر الطبيعة، وشكلها بطريقة ساحرة لافتة… ولدت الدهشة عند المتلقي، وعززت من قدرته على تأمل آفاق النص البعيدة… والبعيدة جداً… كما نبع هذا التجاوز، من الخروج من الإنشائية التقريرية، إلى التأملية التصويرية، التي تصوغ السيناريوهات وتولد الدراما، فعندما تصل الأم المعتقل لزيارة ابنها، وتصوير معاناتها، تتأزم الحالة أكثر وتكبر المعاناة، عندما تمنع من الزيارة… وعندما يوقف الجنود تحرير على الحاجز العسكري، أنت تسمع المشادة بينها وبينهم، وتراهم وهم يركلونها، وتعجب من صمودها… كذلك لك أن تتخيل المصادمات المسلحة بين الاستشهاديين والمحتلين… حيث ترى الرصاص والقنابل أضاءت السماء… وتسمع أزيز الرصاص، وفرقعة القنابل… وتشتم الغاز المسيل للدموع… إنها صورة قد تعجز الكاميرا عن تصويرها استطاعت الساردة أن تضعها أمامنا شريطاً درامياً… وتبقى الرواية مرسومة بين خطين متوازيين، هما: الحب والحرب، فتحرير مشت بين الخطين، وحملت الرايتين، وأكرم حذا حذوها، وسعيد… وسمير… وهذا البناء الفني يحسب لصالح معمارية النص، والرسالة التي يحملها هذا المعمار بين متناقضي الحب والحرب… المعادلين الموضوعيين للحياة والفناء…
عود على بدء…
نقف على عتبة النص (العنوان) ونتأمل: هل كان العنوان دالاً على المحتوى… أم موحياً به؟ هل جاء ملخصاً مكثفاً للمعنى العام للرواية؟ أم كان متشظياً… ببساطة تألف العنوان من لفظة واحدة ” تحرير ” التي هي جزء من جملة اسمية حذف مبتدؤها، أو حذف خبرها… وتحرير هي بطلة النص الرئيسة، وتشي بالصراع ضد المحتل، والنضال لكنسه عن الأرض،وبناء الدولة الفلسطينية… ولا يكون بعد التحرير إلا العمل والبناء… ولا نحمل المعنى أكثر مما يحتمل، إذا قلنا إن التحرير يمكن أن يصدق في عتق الأرواح، وفك قيود التعبير، وإطلاق حرية التفكير… وهذا المعنى أشمل من الاقتصار على تحرير الأرض… وفي الحالات كلها فإن العنوان جاء واضحاً صريحاً… وحيثما وجد العنوان على الغلاف، نجد امرأة واثقة النظرات، تنظر في حصان أبيض بالكامل إلا من جنبات يديه ورجليه وذيله… وقد غطى رأسه سيف بلون أسود وبني… ولا يخفى على أحد دلالة الصورة على الحث والقوة… وعلى طاولة بنية وضع نصف كأس مملوء… ربما وشى ذلك بجزئية تحقيق الأهداف التي تسعى تحرير لتحقيقها… وفي أسفل اليسار، كانت كلمة رواية تدلل على الجنس الأدبي بين دفتي الكتاب… في الصفحة الأولى هناك عنوان فرعي يلخص المضمون ” رواية من واقع النضال الفلسطيني “تلا ذلك صفحة البيانات ثم الإهداء.
وتبدأ الرواية بالمكان، مكان الجدة في الأغوار، وقد أولت النصوص الأمكنة أهمية خاصة، حتى أضحت تسطع قوة وبطولة… ويظهر فيها البهاء والجمال… إذ برز المكان أيضا كما برزت الشخصيات تحمل الحب في يد والحرب في الأخرى… فالأغوار فيها مزارع الخير… وفيها خطوط الدفاع الأولى… وقباطية فيها الخيرات والشهداء ينتظرون التحرير على مثلثها، وجنين القسام ومرج ابن عامر المزروع قمحا وشمسا وضياء… يروى بدم الأحرار… ويعبد القسام عروس وأم رؤوم تربي شهداءها… ونابلس جبل النار… وطوباس بلد الأحرار… نعم، إنه المكان المقاتل الجميل… تذرعه الشخوص… بعلاقة جدلية بينها وبين المكان… فيتولد الحدث، وتلك رؤوس ثلاث ارتكز عليها البناء الدرامي. تنطلق الحافلة من الجفتلك باتجاه طوباس وقباطية وجنين، وتلتقي تحرير في الحافلة بأم محمد وابنها إيهاب اللذين كانا في زيارة أكرم المعتقل… وهنا تنبت زهرة الحب الأولى… تقف الحافلة في كراجات جنين، ويعبد بلد أم محمد منع فيها التجول… فتتحد العائلتان في بيت واحد… وتطور علاقة ايهاب بتحرير… وهكذا على مدار العمل الروائي بأكمله… شخصية تتفاعل في بوتقة مكانها… فيظهر الفعل… بل يتطور الفعل… ويشتق منه أفعال أخرى… وبالرغم من بروز المكان بهذه الصورة اللافتة… إلا أنها ظهرت بعموميتها دون أدنى تفصيل لبيان معالم صورة المكان… فقد ظهرت جنين، مدينة مرج ابن عامر، ظهرت بشجرها ووردها وجمالها… وظهرت فيها الاشتباكات والاعتقالات وسقط الشهداء، ولم يعرف المتلقي أين حدث هذا في جنين؟ في أي شارع؟ قرب أي سوق؟ في أي حارة؟ ولم يظهر المكان المفصل إلا في موطنين اثنين: كراج الباصات (لحظة وصول حافلة زوار المعتقلين إلى جنين) والشارع الشرقي (لحظة حدوث الاشتباك المسلح بين الفدائيين والشباب)… لم يظهر غير ذلك… ولم يظهر تحديد لأي مكان في طوباس، ويعبد، وجنين… وأرى أن رسم الخريطة المكانية المرتبطة بالشخوص والأحداث وعرضها أمام المتلقي، تعزز فيه المشاركة الوجدانية، وتحيله إلى أحد عناصر النص الأساسية…
مضامين…
إذا ركنا الأمور الفنية جانباً، وهي التي يتركب منها الشكل، وأجلنا النظر بمضامين النص، ورصدناها – بالرغم من تشابك الشكل مع المضمون، لتكوين لحمة العمل الروائي… في هذه اللحظة يمكننا طرح السؤال: ماذا قدم هذا العمل؟ هل أتى بجديد؟ أم أنه طوّر القديم؟ مع يقيننا الأكيد أن الأساس الذي انطلق منه العمل، هو الأساس النضالي، وتحديداً ركز على دور المرأة في مرحلة احتلال الأرض، وسرقة مقدرات الشعب، ومجابهة الشعب لهذا المحتل… ويتعالق مع هذا المضمون الرئيس مجموعة من المضامين الفرعية، التي تتولد من خلاله حيناً، وتتطور مع تطور مساراته حيناً آخر، وعرض العمل هذه المضامين الفرعية بصورها الاجتماعية الإشكالية، وجاءت مكملة للسرد الروائي، محاورة المتلقي، ومحاولة جره والانحياز الإيجابي إليها، عن طريق خلخلة قناعاته أولاً، وبناء أخرى، وهنا يمكننا القول إن الرواية تسعى إلى التغيير، وتكريس أسس اجتماعية ومفاهيم بلورها الوضع الثوري، حتى أصبحت ضمن منظومته القيمية… وحتى لا يكون كلامنا إنشائياً، نأتي بأمثلة:
-
أهمية تعليم المرأة، وإشراكها في العمل جنباً إلى جنب مع الرجل، فتحرير درست، وعملت متطوعة، وباحثة، وضمدت جراح المناضلين، ثم حملت السلاح، واستشهدت… وكذلك نرى أدوار الشخصيات الأنثوية الأخرى، فأم السعيد ترملت، وأعالت أطفالها، ودرستهم… وأم محمد ربت أيضاً، وضحت بأبنائها في سبيل الوطن… وكذلك بقية الشخصيات الأنثوية…
-
مسألة الزواج: وقد قدمت الرواية أكثر من صورة للزواج، منها:
-
زواج أبناء العمومة، ابنة العم لابن عمها، و (ابن العم بنزل ابنة عمه عن الفرس، فهو الأولى بها.
-
زواج الشغار (زواج البدل) عرضه عم تحرير، يتزوج أخو تحرير ابنة عمه، بشرط أن تتزوج تحرير ابن عمها… واحدة مقابل الأخرى…
-
الزواج من رجل مسن لكنه غني، مع إمكانية تعدد الزوجات أيضاً، وهنا تظهر المرأة بضاعة من بضائع الرجل…
-
زواج المرأة من سلفها بعد موت زوجها… وهذه العادة موجودة في المجتمع، خصوصاً إذا ترك الزوج المتوفى أطفالاً، فيعتقد في هذه الحالة أن زواج عمهم لأرملة أخيه تمكنه من تربية أولاد أخيه… (زواج تحرير من إيهاب بعد استشهاد أكرم)، وهو زواج حبر على ورق لم تقتنع به تحرير… مع أنه جاء في وصية أكرم.
-
الزواج بين نصفي البرتقالة، يتزوج الشاب من الضفة الغربية أو غزة من فتاة تسكن الداخل الفلسطيني، ليس حباً فيها، ولا رغبة في تكوين أسرة، ولكن كل همّه أن يحصل على الهوية (الإسرائيلية) التي تفتح له عوالم الرزق والرفاه على حد تقديره… (زواج شادي من سولينا)…
-
زواج الجريح… حيث ترفض كثير من الفتيات الزواج منه… (الجريح بسام تركته خطيبته)
أجزم أن رواية ” تحرير ” قد تفوقت على روايات كثيرة نبتت في الواقع الفلسطيني، فقد استكملت الرواية أدواتها… واتخذت من الواقع بوتقة للتفاعل، هذا الواقع الذي نعيشه يومياً، رأيناه واقعاً فنياً ساحراً، شدنا السرد فتفاعلنا معه، وعشنا أحداث الرواية بزمانها وأمكنتها المتعددة… واتخذنا مواقع لنا بين شخوصها… نعم لقد استطاعت الرواية بقوة سردها وعمق تصويرها، وصدق تعبيرها من اختراق وعينا وإدهاشنا… وأرى أنها تصلح أن تكون مسلسلاً يعرض أمام المشاهدين… ففيه الواقع برؤية فنية ساحرة… إلا أنني أتحفظ على بعض النتاجات التي أتت بمحض الصدفة، في نهاية الرواية، وكأن الساردة استعجلت النهاية، فأتت في صفحات قليلة بأخبار شكلت للمتلقي مفاجأة، ولكنها لم تكن ناضجة بما فيه الكفاية… ومن هذه الصدف:
-
زوج تحرير الأمير أبو العز، كان قائد تحرير، ولم تعرف ذلك إلا عندما قرأت وصيته بعد استشهاده.
-
أعلمنا السرد أن إيهاب ليس الأخ الأصغر لأكرم… بل هو ابن عمه، استشهد أبوه وهو طفل، وتزوجت أمه في الداخل الفلسطيني، ولم تعد تتعرف عليه أو تتصل به، وربته أم محمد (أم أكرم).
-
سولينا زوجة شادي أخو تحرير، هي أخت لإيهاب من أمه.
-
أخو سولينا كان يخدم في جيش الاحتلال، وقتلته مجموعة أكرم في الاشتباك الذي استشهد فيه أكرم ورائد وسعيد…