أ. د. رشيد العناني
من الصعب تصور مصر بدون نجيب محفوظ الذي رحل قبل أيام عن عمر يناهز الخامسة والتسعين. برحيله تفقد مصر أعظم رموزها الحية، ولا يبقى لها اليوم ما تفتخر به سوى أهرام الجيزة وأبو الهول. صاحب نجيب محفوظ مصر على امتداد القرن العشرين ورآها تدخل القرن الحادي والعشرين إذ يستعد للمغادرة.
شاهد في عمره الذي امتد من 1911 إلى 2006 مصر تعيش تحت الاحتلال البريطاني حتى 1956، وتمر بحربين عالميتين دارتا جزئيا على أرضها، وتعاني من ثورات وانقلابات وتقلبات رأتها تتحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، ومن اقتصاد رأسمالي، شبه إقطاعي إلى اقتصاد تحت سيطرة الدولة، ومن ديمقراطية، مهما كانت معيبة، فيما قبل 1952 إلى حكم الفرد من زمن عبد الناصر فصاعدا. خلال حياته زاد سكان مصر خمس مرات، وأنشئت إسرائيل ودخلت مصر في أربع حروب ضدها حتى وقع السادات معها اتفاقية السلام المثيرة للجدل سنة 1979. في حياته أيضا رأت مصر تحولا تدريجيا وإن كان مطردا عن القيم الليبرالية شبه العلمانية التي عاشها في شبابه الأول وسنوات نضجه إلى مجتمع متطرف متعصب، عادت نساؤه إلى الحجاب الذي كن قد خلعنه في بداية القرن، مجتمع يحيا على قيم ترجع إلى عصر ما قبل النهضة (الرينسانس) حيث يُحظر الفكر الحر ويجوز العنف ضد من يجرؤ على مسائلة المقدّس، ذلك العنف الذي كان محفوظ نفسه من ضحاياه حين تعرض للاغتيال في شيخوخته عام 1994 بسبب روايته “أولاد حارتنا”. حين سلسلت هذه الرواية لأول مرة في جريدة الأهرام سنة 1959 أثارت بعض الحفائظ الدينية ما أدى إلى منع نشرها في كتاب داخل مصر آنئذ. وبعد 35 عاما رأينا محفوظ بين الحياة والموت أمام داره مغروزا في عنقه سكين لنفس السبب: ما أشد ما تطرف المجتمع وارتد عن النهوض مابين التاريخين!
من الصعب اليوم تخيل مصر بدون نجيب محفوظ، لكن محفوظ نفسه كان في سنيه المتأخرة يجد مصر التي خلفها وراءه مقطوعة الصلة بمصر التي عاش فيها سنوات التكوين وأنتج أعماله المبكرة والوسطي. إن أعماله المكتوبة في الثمانينات والتسعينات تنبض بحنين موجع للأمكنة والأزمنة والبشر الذين لم يعودوا موجودين. ثمة لجوء محموم لألاعيب الذاكرة التي طالما رأى فيها محفوظ خليطا من “النعمة” و”النقمة”. في تلك الأعمال يصبح فعل الاستعادة في الذاكرة ملاذا من الحاضر الكريه، مسرحا يشيّد الكاتب عليه من جديد جمال الأمكنة التي طواها التطوير العمراني القبيح القائم على المنفعة وحدها، أو يستعيد الهدوء الذي قضى عليه التكدس البشري، وقبل كل شيء يسترجع صور الشباب والأوجه الحبيبة التي غابت.
تكشف أعمال محفوظ المتأخرة عن شيخ يعاني الوحدة تحت وطأة السنين على الرغم من شهرته التي طبقت الآفاق وكثرة المتحلقين حوله من الكتاب والمريدين. إن مصر التي لم تتوقف عن الاحتفاء بنجيب محفوظ منذ أحرز لها مجدا عالميا لم يحرزه لها في العقود الأخيرة قادتها السياسيون في ممارساتهم غير الأدبية، مصر هذه كانت قد أصبحت غريبة على محفوظ، غربة تنضح بها أعماله المتأخرة.
يخلف محفوظ وراءه مصرا أحبها كثيرا وأغدقت هي عليه في المقابل حبها بلا حساب حتى أضحت تراه في سنواته الأخيرة تجسيدا لضميرها الأزلي. إلا أنه يتركها وفي حلقه غصة لأن كل ما حلم به لها وعمل مع جيله من دون كلال حتى يقرّب من يوم تحققه، أحلام الحداثة والحرية والتسامح والرخاء، كان كله هشيما منثورا يوم رحيله.