إن غنّى شجريان ثانيةً.. فسوف أصعد الخشبة، وأمسح التراب من أمام قدميه

  • مريم حيدري

شكل واضح المعالم تماما، أتذكر الأيام الأولى التي سمعتُه فيها. في الثانية عشرة، العمر الذي كان يتكوّن لدي الذوق والرؤية بالنسبة لكلّ شيء؛ الموسيقى، القراءة، الدين، التصوف، الله، العالم، إلخ. كنت في البيت دائمة البحث عن مكان للوحدة، للبعد، للخلوة، فأفوز في النهاية بساعات لي وحدي. أذهب إلى الـ”سي دي”ات المتواجدة منه في البيت والآتية من أخي الذي كان يحبه بدوره. وكانت لي أشعار حافظ وسعدي الشيرازيين والرومي والعطار بصوته، والشغف الطفولي الذي كنت أراه كبيراً جداً.

في المدرسة كان يثير استغراب الصديقات حبّي لهذا النوع من الموسيقى. وفي البيت، كأمور أخرى، تقبّلوا أني أحبّه وحسب، وتركوني. أشياء كثيرة تغيرت لدي منذ تلك السنوات حتى اليوم، ولكنّ الحب لصوته باق، كما الانبهار الدائم بالنصوص الصوفية، وكما الاستعداد لسماع “أم كلثوم” في أيّ وقت. وكان تعرفي إلى صوتها لحظة وجدٍ أخرى أتت بُعيد ذلك ومن خلال أخٍ آخر! سمعتُ في ما بعد كثيراً وكثيراً، وأحببتُ كمّاً من الأصوات، إيرانية وعربية وأجنبية. وخلال حياتي في إيران، من الأهواز حتى انتقالي إلى طهران، ثمّ السفر الدائم إلى هنا وهناك، اكتشفتُ مغريات طبيعية وإنسانية وثقافية وفنية كثيرة، ولكن، إن سألوني اليوم ما هو الشيء الذي تحبينه أكثر في إيران، لن أردّ: “تلك الأشجار السامقة” أو “الأزقة” في طهران أو الأهواز أو حتى الجلوس لساعات بالقرب من مرقد “الخيام” في مدينتي المحبّبة “نيشابور”،  بل هو “شجريان”.

مرّ 3 أيام على ميلاده الثامن والسبعین وهو مازال غير قادر على الغناء بسبب المرض منذ ثلاث سنوات، وأنا كلما فكرت بذلك، وكلما تخيلت أنه قد لا يغني ثانية شعرت بأن “الريح تحتي”!، و”على قلق” عند مشاهدة كلّ صورة له تظهر على فيسبوك أو انستغرام، أو أي فضاء افتراضي آخر. المطرب لا يموت! نعم. ولكنني بشغف طفوليّ أريد له أن يبقى، كهالة من الرُّشد ومن الجنون حول حياتي وحول الحياة، رغم أن عودته إلى الخشبة والغناء، يبقى أملاً أو حلماً.

حیاته

ولد محمد رضا شجريان عام 1940 في مدينة مشهد الإيرانية. وكما يَذكر هو عن طفولته، قد بدأ الغناء منذ الخامسة من عمره في خلوته الطفولية. في الثامنة أخذ بتعلم تلاوة القرآن الكريم لدى أبيه، وبدأ في التاسعة بتلاوة القرآن في المحافل الرسمية. وفي عام 1952 بُثّ صوته لأول مرة عن إذاعة محافظة “خُراسان”. التحق شجريان عام 1957 بالمعهد التمهيدي في مدينة مشهَد، وهناك تعرّف إلى مدرّس موسيقي. ومتابعته الجادّة للغناء في طور “آواز Avaz” وهو ما يشبه الموال في الغناء العربي أدّى إلى الغناء في هذا النمط دون آلة موسيقية وأيضاً قراءة القرآن لإذاعة خُراسان.

بعد عام أخذ بالتعليم في مدرسة ابتدائية هناك، كما أنه تعرف إلى آلة السنتور، ما شجعه على تعلّم النوطات والعزف على السنتور، وبداية صناعة هذه الآلة والبحث من أجل تحسين صوتها.

تزوج عام 1961 وله من هذا الزواج ثلاث بنات وابن هو “هُمايون” (مواليد 1975) والذي سلك طريق أبيه وتعاون معه منذ السبعينيات في عدة ألبومات سواء في الغناء أو في العزف على “الدّف”، وهو اليوم من أشهر المطربين في إيران. وكان زواجه الثاني عام 1992، وله ابن أيضاً من زوجته الثانية.

انتقل شجريان إلى طهران عام 1967، وواصل العمل في الإذاعة الإيرانية، إلى جانب الاستمرار في تعلم الغناء والخطّ الفارسي الذي واصل تعلمه وممارسته على مدى سنوات طويلة، وتميّز به.

ولم يكن شجريان في بداية عمله في الإذاعة والغناء يستخدم اسمه الأصلي، بل اسما فنيا (سِيافَش بيدكاني) وثم “سيافَش شجريان”، احتراما لمكانة أبيه الدينية، واستمرّ الأمر هذا إلى عام 1971. استمرّت مسيرة شجريان الموسيقية بتعرفه إلى أساتذة الموسيقى الإيرانية والتعاون معهم إلى أن أسس عام 1973 مركز صيانة ونشر الموسيقى برفقة شخصيات موسيقية بارزة من مثل “جلال ذوالفنون” و”حسين علي زاده” و”محمد رضا لطفي”، ومنذ 1975 بدأت حفلات له خارج إيران.

أريد له أن يبقى، كهالة من الرُّشد ومن الجنون حول حياتي وحول الحياة، رغم أن عودته إلى الخشبة والغناء

وقد حاز عام 1978 على المقام الأول في إيران في مسابقات تلاوة القرآن الكريم. عام 1979 قرأ شجريان “ربّنا”، وهي عبارة عن أربع آيات قرآنية تبدأ بـ”ربّنا”، وكان قد قرأها في مقام “السيكاه”، فأصبحت هذه القراءة التي قد تلاها ارتجالا لأول مرة ومن أجل تعليم تلاميذ له، جزءا من الثقافة الرمضانية في إيران، فكان الجميع في إيران يستمع إليها قبل الإفطار وأذان المغرب في شهر رمضان، مسبقة بأبيات من “مثنوي” جلال الدين الرومي من غنائه أيضا. ورغم أنه بسبب خلافات له مع الإذاعة والتلفزيون في إيران طلب عدم بثّ صوته من المحطات الإذاعية والتلفزيونية، إلا أن “ربنا” كانت استثناء، فاستمرّ بثها حتى ثلاثين عاما إلى أن طالب عام 2009 لخلافات سياسية بإيقاف بثّها هي أيضا.

لم يكن شجريان بنجم جانح للأفول، فهو لمع منذ بدايته، وطوال أكثر من أربعين عاما من العمل الموسيقي بقي حتى اليوم هو الاسم الأول في الموسيقى التقليدية الإيرانية، و”الأستاذ الأعظم” كما لقّبوه في إيران، و”ملك الطرب الإيراني”؛ واستمرّ نشاط مطربنا وحفلاته داخل الحدود الإيرانية وخارجها وتواصل إصدار ألبوماته في السنوات اللاحقة، وبالتعاون مع أفضل الملحنين والعازفين الإيرانيين من مثل “بَرويز مِشكاتيان” (والذي كان صهره أيضاً)، و”محمد رضا لطفي” و “حسين علي زاده” و”كَيهان كَلهُر”. وقد مُنح عام 1999 جائزة اليونسكو الشرفية (جائزة بيكاسو)، وترشّح مرتين لجائزة “غرامي”، كما أن الإذاعة العامة الوطنية  التي تبثّ من الولايات المتحدة (NPR) ذكرته عام 2010 كواحد من أفضل الأصوات الخمسين في العالم.

في عام 2015 نُقل شجريان إلى المستشفى، وقد أخبرت بعض المواقع الإخبارية أنه قد ابتلي بالسرطان، ثمّ ظهوره على مواقع التواصل الاجتماعي في “نوروز” العام نفسه من أجل تهنئة جمهوره بالعيد فاجأهم جميعا، فقد أطلّ بوجه متغيّر بسبب المرض.

سُئل ذات مرة ابنه (هُمايون): “هل تحبّ أن تعود إلى الخشبة ثانية مع أبيك؟”. فردّ: “إن استطاع هو وشاء، فسوف أصعد الخشبة، وأمسح التراب من أمام قدميه”.

 

  • عن رصيف 22 
  • سيبتمبر 2018

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *