(ثقافات)
*موسى رحوم عباس
في هذه المدينة الكبيرة كنتُ نقطة سوداء تصورها الأقمار الاصطناعية في كل مكان، تنزلق كدودة صغيرة على وجه الإسفلت الناعم جدا، والنظيف جدا، لك الحق في الطعام والشراب والشتائم الثقيلة والانتحار أيضا، تتجنبك النساء، ويقفزن للرصيف الآخر، فأنت وحش شرقي مهووس بالجنس والخيانة، المتعة الوحيدة المتاحة هي ذلك الشاي الأسود الثقيل الذي أحتسيه على مهل، وأنا أحدق في الفراغ الذي يتمطى بين شرفتي والغابة المجاورة، لا أدري لم يستمر الضوء شديدا حتى منتصف الليل في هذه البلاد حتى كأن الشمس لا تغيب!
قالت لي جارتي المتقاعدة(أليس) أنَّ الحل الوحيد لمثل حالتي أن يكون لي كلب، يؤنس وحشتي، ويبدد وحشة العزلة عني، لكن على أن يعاد تأهيلي لمرافقة الكلاب، ومعرفة ماتحبه، وما تكرهه، وأوقات طعامها، ووقت إخراجها لقضاء حاجتها… وقد تبرعتْ بوقتها مجانا لكل ذلك.
صرتُ و(روكي ) كلبي الذي شاركني غرفتي صديقين، كان كثير النباح وإزعاج الجيران، لكنه هدأ عندما ألغيت مشاهدة الأخبار في التلفزيون رغم إدماني القديم عليها، تعلمتُ استعمال السير الجلدي الذي أطوق به عنقه حين نخرج للتنزه يوميا، أمرُّ به في الشارع الضيق الذي يفصل بيتي عن البحيرة ، ونعبر الطريق إلى الغابة المجاورة لها، ولأنني لجهلي بطبائع الكلاب كنتُ أرخي له الحبل فصار يتقدمني في المسير، شعرت أنه يعرف المخارج والمداخل أكثر مني، فتبعته مطمئنا، ثم صرت أتمتع بالمناظر الجميلة والزهور الغريبة مستسلما لنزواته تاركا أمري للكلب!
النساء اللواتي يشاركنني مسيرتي اليومية ونزهتي على شاطئ البحيرة بدأن يبتسمن لي وربما للكلب، كلما اقترب ( روكي) من كلابهن وخاصة الإناث، وبدأ يكثر من الشم والملاطفة هازا ذيله بطريقة تظهر جذله وتعلقه بإحداهن، وصار يدور حولها، شعرت بالحرج، لكن كلبي شد السير الجلدي بقوة، وتابع طريقه مع كلبة ناعمة الشعر مدللة المظهر، وقد سحبني خلفه حتى بدا الأمر كأنه كان يقودني وليس العكس!
هذا الصباح دخل في صراع مع كلب آخر حول عشيقته المدللة، وسحب السير الجلدي بقوة حتى وجدتني وسط حرب الكلاب هذه، وقد علا غبار المعركة هامتي، حتى بدوت كمن يهارش الكلاب ممزق الثياب معفر الوجه، وتطور الأمر لاحقا لمعركة بين صاحب الكلب انتهت بهزيمتي، بينما انتصر كلبي، وفاز بقلب محبوبته، أعتقد أنها اعتبرته بطلا! بينما ابتعد الخاسردون أن ينظر إلى غريمه، بعد هذه الواقعة لم يعد يستشيرني في الخروج بل يكتفي بسحبي بقوة نحو الباب محاولا فتحه؛ فأضطر لمجاراته، مكتفيا بمتابعته دون تبرم أو احتجاج.
لم يكتف بذلك، بل حقق نصره علي بالضربة القاضية، هذه المرة لم يدخل في الدروب الزراعية المؤدية للغابة، بل اكتفى بمحاذاة الطريق الضيقة الممتدة من شاطئ البحيرة إلى مبنى البلدية، دون أن يلتفت لي، بل كان يستحثني بشد السير الجلدي الذي يطوق عنقه، فأستجيب له بخطوات واسعة، وعرقي يتصبب رغم الثلج الذي يغطي كل شيء، توقف فجأة بينما كنتُ أنظر إلى ساعتي؛ لأتأكد من موعد أدويتي، ويبدو أنني أطلت النظر وأنا أحاول ضبط نظارتي فوق أرنبة أنفي جيدا، كانت صدمتي كبيرة عندما رأيت روكي يرفع رجله الخلفية باتجاه قاعدة تمثال أنيق من الرخام الأسود اللامع، وقد سال بوله منها جدولا أصفرنفاذ الرائحة، لم يتسن لي أن أرفع رأسي عاليا؛ لأتعرف على صاحب التمثال، ذلك الفارس الذي يمتطى صهوة جواده وقد رفع قائمتيه الأماميتين مطوحا بهما في الهواء عاليا، لأنني كنت وكلبي محشورين في سيارة الشرطة بتهمة تحقير بطل وطني، تركت السير الجلدي فلا معنى للإمساك به، طالما أنه لن يقود شيئا، ولن يثني كلبا عن إهانة الرموز!
حدثتُ بكل هذه التفاصيل ذلك الرجل الذي يشبهني، لعل لديه حلا لذلك السير الجلدي الذي جرَّ عليَّ كلَّ هذه الويلات، وانتظرتُ مشورته، لكنني فوجئتُ في اليوم التالي أن صحف الصباح تحمل في صدر صفحاتها الأولى، قصة وقَّعها كاتبٌ اسمه ( م. ر. عباس) وعنونها بالرجل الذي يقوده كلب!!
-
أديب سوري مقيم بالسويد