بنيديكت لوتوليي : مقدمة أدونيادة أدونيس(1)

(ثقافات)

                       

 بنيديكت لوتوليي : مقدمة أدونيادة أدونيس(1)

 

   ترجمة:  سعيد بوخليط

ترنّ أدونيادة على منوال تلك الكلمات الغريبة، الساحرة والجذابة، المضيئة والمبتسمة، التي تكشف لنا بنوع من الغموض عن حقيقة ما :أجواء أندلسية، أو ربما رقصا إسبانيا،ملحمة تنتمي إلى البحر الأبيض المتوسط،فضاء منسيّا تقريبا أو متخيلا، موضِع هناك خصب،فنّا شمسيا،احتفالات باهرة،ملامح امرأة.

هنا،ستتجلى لنا بلا شك،بأن أدونيادة كلمة فرنسية كُتبت بالعربية،مشتقة من الاسم الأسطوري لأدونيس، مؤلِّف هذه المجموعة الشعرية.تذكرني أساسا أدونيادة أدونيس، بنصوص من الأدب الأوروبي مثل الإلياذة و لاهنرياد (فولتير)،بحيث تتقاطع معها على مستوى البنية المعجمية للعنوان،وكذا البعد الملحمي. ليس فقط على مستوى الشكل : قصيدة طويلة تتألف من واحد وعشرين نشيدا،لكن أيضا من خلال استحضار هوميروس وفولتير مع بعض الأناشيد،وبالتأكيد عبر تعريف القصيدة نفسها المقترح من طرف هنري ميشونيك والذي أتبناه بدوري : ”كل قصيدة بمثابة مغامر ترتقي إلى أن تكون صوتا”(2).

تبلورت أدونيادة ضمن حركة حياة منافي عديدة رسمت المستحيل أفقا لها.هكذا، ليست الكتابة منفصلة عن سبيل للسير نحو المستحيل تبعا لظلال تداعب خطى الشاعر وقد اكتستها أشعة ضياء مما يضفي عليها مظهر البريء والواثق.هذه القصيدة غنائية ملحمية بامتياز أكثر من كونها ملحمة غنائية. هدوء تبصر الشاعر حيال الاسوداد الذي يحيط به لايؤثر قط على السعادة العميقة لمن يستسلم للإبداع- أردت القول تناولْ وباغتْ- خلال كل لحظة من لحظات الضياء.يحتفل الشاعر هنا،بالهوية المبدعة وربطها بالمنفى :”هاجرْ كي تنبعث ثانية”،يرشدنا أبو تمام القرن العشرين.

نُفي علي أحمد سعيد، وفق طريقتين :من جهة، فقد ترك خلفه بلده الأصلي سوريا،ومن جهة أخرى،بأن اختار لنفسه اسما وثنيا،غريبا عن الإسلام.أيضا،مثلت قصيدته منفى ثالثا :بين طيات ذاكرة حياته نفسها،بل وتناوله لهويته،سيتخلص الشاعر من ذاته في إطار نوع من الحيرة المخلصة التي تسائل باستمرار الولاء للنماذج، بما فيها تلك المتأتية من رغبة في الشعر،ونزوعها نحو التعبير عن القصد الأول :”الهوية الخلاّقة،منفى”يشير كبداهة.طريقة لانهائية كي يكتشف ذاته ضمن سياق التجاوز،والذي يفرض بحسب أدونيس، تصور الماضي  بناء على عدم اكتماله،ك :” خلاء مبدع”(3).

تحتفي أدونيادة بزواج الأسطورة والوصية الشعرية، الكوني والخاص،ثم المتخيل الميتافيزيقي،الذي يتوخى مثلما يقول إيف بونيفو: ”التفكير بوجود مستوى آخر للحقيقة”(4)،وكذا بداهة أشياء يتأملها الشاعر.

يشير أدونيس عند نهاية النص،إلى تجاوز الوعد لهذا الزواج،وقد وضعه انفتاح جديد موضع ارتياب:

هكذا ربما

 تتخلص قصيدتي من صلاحيات الزمان والمكان،

ثم تغامر اقتفاء لمتعة المستحيل.

أدونيادة، كلمة/عتبة،تنفتح حتما على الماضي الرائع لاحتفالات جماعية ذات تسميات متعددة- أدونيس، أدونياد، أدونيان- التي يحتفل بها على شرف أدونيس في بيبلوس (جبيل)، أثينا أو أيضا الإسكندرية.يشدو له الشعراء،على إيقاع  نواح المزامير.يتشكل موكب صاخب،نتيجة التئام النائحات،بائعات الهوى وكذا الكهنة.يحتفل الجميع بذكرى شغف أدونيس،موته وكذا انبعاثه.

بالنسبة للحضارة السورية الفينيقية،فقد ولدت الأسطورة من الشعيرة الشمسية لظهور آلهة الشعب في آسيا القديمة،بحيث ربطت بين أدونيس ثم الشمس وكذا النار الأرضية،أصل الحياة على الأرض،مصدر أولي لدورة الفصول التي تنظم مواسم الحصاد.

يجسد أدونيس الإله الطيب،المبتسم،تصبح الأرض خصبة نتيجة قوته على الإنبات، ويوقظ خلال كل ربيع،القوى الأرضية التي تغذي البشر.بيد أنه،يعكس أيضا الإله المخيف إبان الفصول الجافة،ثم يستسلم  لبرودة فصل الشتاء.

تقاس قوة الإله الشمسي أدونيس-تموز،وقد انطمست أكثر مع السياق الإغريقية،بعدد الشعوب التي تعشقه،ثم حظي بقداسة خاصة،في بعض المدن مثل بيبلوس أو أَفْقَا(لبنان). شاعت الأسطورة مع مرور الزمان وتضاعفت الأسماء،والتي تدل في أغلب الأحيان،على النور أو الفجر المميز لهذه الأسطورة البدائية.

كثيرة هي آلهة المعابد لدى حضارات متجاورة، أقرب عهدا،ارتبطت باسمه وأسطورته، تجعلك أحيانا تظن بأن أدونيس ليس سوى ديونيسوس، مثلما ذهب إلى ذلك فلوطارخس.

بين صفحات أدونيادة، يستثمر الشاعر هذا الالتباس الأسطوري لكنه يشكل تآلفات جديدة، مستحضرا صلاتها وكذا نَسَبِها الخلاق .أدونيس، بألف وجه، يعكس”إلها متعددا”، يقترب من :”ديونيسوس صديق بروميثيوس”.

خلال القرن الخامس قبل ميلاد المسيح. اعتبر الشاعر بانياسيس أول إغريقي يوثق لأسطورة أدونيس/ تموز،التي تحولت وتطورت غاية وصولها إلى أوفيد . Ovide تؤكد روايته، بأنَّ أدونيس الجميل، ابن أميرة آشورية،تسمى ميرها أو سميرنا، أُغرم بأفروديت، والتي كشفت له عن سر الحب المتأجج بين تلك الأميرة الآشورية وأبيها.حب زنا المحارم المقترف ذات ليلة بحيث لم يتمكن الأب الثمل من التعرف على هوية ابنته.عندما استيقظت، بادرت الأميرة ميرها أو سميرنا نحو الهروب، للنجاة من غضب أبيها المدمر وهي تتوسل الآلهة كي تحولها إلى كائن لامرئي.استجيب لطلبها فورا وتحولت إلى شجرة تحمل اسمها غاية اليوم، وأمكنها بعد مرور تسعة أشهر أن تثمر فاكهة نتيجة علاقتها بأبيها،تتمثل في مولود جميل اسمه أدونيس ،انبثق من هذه الشجرة.التقطته أفروديت وأودعته إلى بروسيربين التي افتتنت بجمال الطفل،ورفضت التخلي عنه.

تدخل زيوس قصد إيجاده حلا لنزاعهما،فقرر بأن يظل أدونيس خلال أربعة أشهر صحبة هذا الطرف،ثم أربعة أشهر أخرى لدى الطرف الثاني،بينما يبقى الاختيار متروكا له بالنسبة لأربعة أشهر الأخيرة.فكانت أفروديت.

هذه الأسطورة،بسبب تعدد الروايات المتضاربة،ثم بعيدا عن مفهوم حديث ينصب على الموضوع،وأيضا جراء خلل هوية تبحث عن”منتوج هوية ذاتية تطابق نفس الشيء”(5) .وضع يستدعي قراءة للهوية (الخاصة) من خلال قوتها على الإنبات،تلك التي أبان عنها أدونيس،حينما اختار بالنسبة للأشهر الأربعة الأخيرة من السنة،لحظة الإصغاء لرغبته، الأنثى التي أخصبها وجعلها متفردة.أدونيس،الذي يقال عنه بأنه المعشوق المفضل للإلهة أفروديت.

بدوره، يقر الشاعر في أدونيادة، بهذا الإصغاء الحر مع فكرة : ”تآخي فطرية الموهبة الشعرية وكذا حِبر الطبيعة”.لذلك، بغية الخروج من :”عالم لا يقودكَ نحو ذاتكَ/ ولا وجهة الآخر/ اللهم سوى الإحجام،والتراجع”،يصيغ الشاعر إقرارا مفاده :”لاتقل قط : على منوال”. لأن ماء الإبداع،ماء الحقيقة /لايعرف طريقا للنماذج”.

يلزم قراءة أدونيادة – العنوان كالقصيدة- انطلاقا من الاحتفاظ داخل الذهن على البعد التقويمي والشمسي لأسطورة أدونيس،وصية رمزية وكونية يمنحها الشاعر مكانة،ذات أهمية ضمن مفهومه للنص ذاته. تتألف أناشيد هذا العمل من بعض مشاهد الشارع،العديد من الديكورات، مكونات منظر طبيعي، تأملات شاردة داخلية، أفكار عابرة، حوارات غير مألوفة لا تتوقف عن استحضار بزوغ فجر بألوان الشفق،هذه”اللحظة المريبة”العزيزة جدا على جوليان غراك، تمثل لدى أدونيس  مايلي:”شمسه سحر تصل بين أبناء الرغبات مثلما تنسج جلابيب للأرض”.

أسطورة أدونيس بدائية :”إنها الأسطورة الأكثر قدما و راهنية”،تمكن بحسب شارل فيلي Vellay  :”من العثور ثانية وسط الشرور،على تلك الدروب الكبرى التي اجتازتها الإنسانية منذ مرتفعات آسيا العليا وصولا إلى الأجناس المعاصرة”(6). تمثل هذه الدروب بالتأكيد إحداثيات مماثلة للمسار الذي يجتازه الضوء انطلاقا من النجوم غاية العين التي تبصرها،عبور ماينصهر ضمن مفعول الظلمة والخواء.

بهذا المعنى تقدم أدونيادة نفسها كمغامرة :”شاعر/ يخوض حربا ضد شرور السماء”.يقصد بكلمة”سماء”كلمة جوهرية بالنسبة لعالم دوغماطيقي وإيديولوجي منغلق حول ذاته، يختزل إلى مرآة للقُبَّرات تعكس صورة تشعر بالاستياء من أرض قاتمة ومدمَّرة، ثم تطرح للبيع جنة سماوية مفترضة كليا،وتطمس في المقابل كل أفق كوني وشعري للسماء.

رفض جورج باطاي تسخير اللغة التي تغذي الكذب والتضليل لصالح عبودية الفكر.كلمة مغْتَصَبة، متخمة ومحَاصرة بالخطابات السياسية-الدينية،الحروب، ثم الغزوات من كل صنف :” السماء انسداد لا تشي سوى برعبها”.أيضا، من خلال تيمات معينة وكذا تواتر محفزات(الحب، الماء، النهر، الناي، الاحتفالات…)مرتبطة بانقشاع العتمة،”شاعرة اللانهائي”،فقد أسست هذه القصيدة الملحمية الطويلة قصيدة شمسية قادرة على توجيهنا وسط غابة مضطربة بالمعاني والرموز.

حينما يزور الشاعر العالم ،يستسلم لمباغتة الضياء، سواء مع الصور أو الكلمات، ثم لكل ماسينبثق  جراء ترابطهما أو تصادمهما.مع قصيدة لاتخفي قرابتها بالقصيدة الكلاسيكية، قصيدة شفوية،بالتالي يتعلق الأمر بحسن الإصغاء.هكذا،يتشكل في العمق المشروع الشعري لأدونيادة :يرهف  الشاعر سمعه إلى آثارها، يحاورها ولاترعبه قط أصواتها بل وأحيانا نراه :”مجبرا على معاينة الشرور التي كشف عنها النظر كي يتحسس الضوء من خلال ذلك”.

هل بوسع ذلك الأثر فقط الانتصار على هؤلاء وأولئك من لايتمثلونه؟لأنه حقا رغم العتمة والظلامية الخبيثة،اختار الشاعر رؤية الضياء انطلاقا من منفاه وهناك،ويخلق لذاته هوية مغايرة،ويكتسي جلدا جديدا.خلال هذه الحقبة حيث :”الجميع مريض برغباته وتأويلاته”،ذوات تائهة وسط خراب أراض تحتضر،لذلك يبدو ملحّا وضروريا بالنسبة للشاعر،العثور ثانية على تواطؤ مضيء وفورية إبداعية مع العالم. يبدو أكثر قوة تطلعه الصادق نحو الوضوح، الحقيقة، والنار المبدعة،وقد اقتربت نهاية الشاعر الفيزيقية ثم تبدو أكثر فأكثر راجحة وحقيقية. نهاية/بداية مغامرة،هكذا استسلم أدونيس خلف مصير رائع :”ستسافر من الشرق إلى الغرب/وستكون حرا”.ويقدم ذاته :”مكتسيا الضياء كي يقرأ الموت في خطواتها”.

سأحاكي غروب الشمس وأضع خاتمة لأزمنتي :

لاأمل أو احتفال،بالنسبة إلي،

سوى تحويل الكلمات عن احتفالاتها ووعودها.

هكذا تتجلى قوة الوصية الشعرية لأدونيس :خطاب خاضع لميثاق الضياء غاية تلاشيه،وكذا أثره:”لاتُقال الحقيقة بمعنى ثان من خلال تجردها الواضح إلا عبر الصوت الشعري”يؤكد الشاعر.

على ذات منوال مجموعته الشعرية”الكتاب”(قصائد مترجمة لدى سوي من لدن حورية عبد الواحد،1995-2015 )،بحيث يمثل العنوان،طريقة لقراءة التاريخ،سيجسد عنوان أدونيادة وجهة نظر مختلفة لقراءة الهوية.يقول أوكثافيو باث:”يكشف الشاعر عن الإنسان عبر خَلْقه”(7).لكن كيف يُخلق الإنسان حقيقة؟أليس من الضروري تخيّل هذا المابعدي خلف ستار الكذب والتضليل؟يثبت أدونيس قوة استلهام القصيدة،ويجعلها الحيز المميز للرؤيا.

منذ النشيد الأول،تساءل حول سلطة القصيدة بخصوص :”محو المسافة بين متاهة مخطط الحقيقة ثم أفق تحقيق الأسطورة”.ما الذي تفعله القصيدة حينما تنجز حقا تقاربا بين الأسطورة والحقيقة،الخيال والإيحاء،الصورة والكلمة؟كيف تصبح إذن ذاتية الشاعر ضمن مادة القصيدة نفسها؟تخلق الصورة والكلمة قصيدة،حسب التعريف العلمي للمادة،أي كثافة ضوئية.يتغذى أحدهما من الثاني ويظهران مثلما هما.بالتالي،يعتبر الشاعر بالنسبة لتك المادة: ”الشاهد المتحرك والجامد”.

تحدث مقطع شعري بديع عن الصلة المتداخلة بين الإيحاء-الإبداع.

“أرتميس/حِضن مثل كلمة ”أنا” لاتوجد سوى بين طيات المادة”.

 نتيجة التماثل بين أرتميس و”الأنا” قدر الصلة الجامعة بين أرتميس والحِضن، تبرز القصيدة جسد الآلهة أرتميس كلما تجلت”الأنا”شعريا من خلال فن صياغة هذا المقطع الشعري.

أيضا،حظي توضيب صفحات هذا العمل بالأهمية على مستوى طريقة صقل الكلمات والصورِ،ثم ضمها ضمن بوتقة صورة غير عادية ومدهشة.تجسد كذلك أرتميس،الإلهة التي قتلت أدونيس بواسطة خنزير بري،تلك الأسطورة التي تكشف الشاعر حيال ذاته.

توحي أدونيادة بماتبقى بعد تدوين مادية الصور البسيطة،والكلمات والأشياء.مادية أدونيس الشعرية شفافة.إنها ألق بداهة عدم استطاعة القول الشعري تجاوزه المماثل.كي نقول ذلك، بمعنى ثان، أدونيادة ثرية ب :”فجواتها المبدعة” التي تستدعي محاولة شعرية أخرى. فهي تنتمي إلى قصيدة :”تبثُّ صيرورة في الشعر تنتقل بنا من الخديعة إلى الشفافية”(8)،  إذا استعرنا هنا صياغة في غاية الدقة لصاحبها جان ميشيل مولبوا حين حديثه عن قصيدة إيف بونيفو. مع ذلك،في خضم”عالم لايتوقف على أن يكون عند بدايته”،يلهم معه الحلم الأسطوري”حقيقة القول”(إيف بونيفو)(9)،ثم تستمد الكتابة حيويتها بفضل قوته على الإنبات،سيدرك الشاعر جيدا بأن الحركة شرط للقصيدة نفسها،إنها حقيقتها:”يكمن سر الكتابة في السعي”،بدون الارتجاج الذي يحدثه الشاعر،وتحقق الخطوة الأولى،لايمكن أن تولد القصيدة.لايتوقف الشاعر عن السير،بحيث يكتب مثلما يمشي.هذا يعني بأن تحقق القصيدة(تجليها الصوتي والكتابي)يمثل قبل كل شيء إيتيقا :سير وسعي.

في أدونيادة، نستعيد مع وضع الشاعر-الذي يقول باعتزاز :”هكذا أتقدم : لقد تعقَّل رأسي، ويظل جسدي طفلا”- تسكّع بودلير،”رجل/ طفل”.يتجول في المدن الكبرى شرقا وغربا ويرصدها بعين ناقدة ومتحفظة،مفسحا المجال لهذه المدينة كي تتبدد داخله تدريجيا غاية تكاثفها إلى”شارع- شاعر”،كلمتين متجانستين في اللغة العربية.هكذا، لايفصل أدونيس موهبة الشعر الفطرية،وهي مرتجلة وعفوية مثل سير المتسكع، عن الالتجاء إلى مهارات أسلوبية توجبها معرفة وتجربة القصيدة.ينساب العنصران بين شرايين دم قصيدته ويأخذان توازنهما بالسير عبر اختيار الموقف،ثم الخطوة وكذا الاستمالة.

تتأسس إتيقا القصيدة على سبر أغوار الذات والعالم،انطلاقا من كونها سبيلا لكي”نحيا شعريا”(10).حسب تعبير هنري ميشونيك، ثم نعيش تحولا بخصوص العلاقة مع العالم.كتابة قصيدة، يعني أن تصل حضورها بلحظة مبدعة،لحظة فجر حديث.لكن،مهما توخينا:لقد ولدت هذه القصيدة جراء حالة متواضعة للغاية :”حينما أكتب قصائد،فإنها أناملي من تفكر”،مثلما أخبرني أدونيس في إحدى اللقاءات.

حتى وإن أنجز الشاعر التجربة من خلال الأساطير التي نعتها إيف بونيفو ب”إحساس بوجود استعدناه ثانية”(11)،سيمثل الجسد في المقام الأول شاهدا لها ومعبِّرا عنها:”الأساطير مجروحة/أنا لست سوى الدم/المنبعث منها”.مقطع شعري ثلاثي آخر يضعه الشاعر في موقع بارز من أدونيادة.كيف العثور ثانية على هذا الإحساس بشكل أفضل سوى بالجرح؟سيكون بالتأكيد غير مناسب،البحث عن جرح شخصي للشاعر عبر واحد وعشرين نشيدا طوته صفحات أدونيادة.أساسا لأن قضيتنا غير منصبة على قصيدة الحميمي،وكذلك مثلما يقترح تَوَّا المقطع التوجيهي الثالث :”إنه الواحد المتعدد/آدم جرح في عروقه”.الجرح، بنفس عنوان الهوية، ينبغي قراءته هنا مثل تشعب للوجود،عبر المجاز الجنيالوجي للشجرة :”أمسكْ بالجرح،آه أيها الشاعر،ولقّبْه شجرة”.

اللغة، من خلال قدرتها على إعادة تعيين الأشياء،ومن ثمة خلق علاقات جديدة واندفاعات،تمنح على الفور صيغة جديدة للحياة والجرح.

اذهبْ، أنت، ياجرح في شباب الجسد.

اذهبْ إلى  شريان الحياة واخْبِرنا أين،ثم مصدر وكيف

 ينبض قلب الحقيقة.

بالتأكيد،يمكن قراءة هذه الوضعية حول إعادة امتلاك سلطة الإبداع،بمثابة رفض لخطاب سياسي-ديني،وكقصيدة ملتزمة، بل وثورة أو ادعاء غير مناسب حول مضاهاة قوة معينة والتدخل في شأنها.لكن،يبدو لي أكثر صوابا قراءة هذه القصيدة باعتبارها قصيدة للتحرر،ثم انطلاقا من أشكال للحياة وكذا الفكر الوثني،ومتخيَّل أسطوري ورمزي على نطاق أوسع.الشجرة،هي والدة أدونيس يذكرنا الشاعر.أما،أفروديت فقد تأتت من تفاح المجانين وأوزيريس من نبات أقاقيا.نصادف ثانية هذا الانتساب للآلهة إلى الطبيعة في انحدار الأفراد من الطبيعة،وبالاستطراد،خلق علاقة تماثل بين الآلهة والبشر.تسميتها ”شجرة”،بغض النظر عن أيِّ جرح وجهل أو عمى،يعني إعادة وصلها بالمعرفة والمنبع،ونعيد لها جانبها الفتي والحيوي،أن نقارب بغتة نزوعها المنقاد نحو التحول بالقصيدة قدر تحولها باللغة.وحدها هذه الحرية التي نعثر عليها بالانتقال،وقابلية الحركة بين طيات اللغة تفتح القصيدة على بعد أكثر رحابة وعمومية وكونية.أدونيادة عمل لإصغاء الصوت والموضوع،تمنحه الأبجدية جسدا وكذا كائنا يتلفظه.

يمثل المشروع الشعري لأدونيس تحديا :طريقة أخرى لقراءة الهوية،لاسيما تلك التي تخلق الموضوع داخل الصوت.تتفق إذن الهوية المبدعة مع عمل اللغة ذاتها،نستعيد معها بعض معطيات الكلاسيكية الجديدة لأبي تمام،ليس من خلال معجم يتشبه بالقديم لكن مقتضى الرؤيا(معرفته بالتراث الشعري العربي).مستلهما بعمق إنتاج الكلاسيكيين،فقد أصغى أدونيس بشكل خاص إلى مقتضب بعض المقاطع الشعرية،المتباعدة على الصفحة بعلامات نجيمات،ثم وميض الفكرة وكذا رصد الصورة.أشكال مثيرة جدا عن قصيدة شعرية مزجها أدونيس بصيغة نثرية أكثر حداثة،تتداعى عبر فضاءات تحفر المقطع،وتسلط الضوء على الإيقاع،والحركة،سياق جعلها ارتجاجا بالمعنى الحرفي للكلمة.إنها لغة اللحظة،مهووسة بالتفاصيل كما لو اقتضى الأمر إعادة كتابتها بشكل مستمر من أجل تقريب حقيقة الكلام :”ترنيمة الاستمرار،ونشيد الانطلاق”.يتعلق الأمر حقا بالاحتفال بحركة الهوية،ذاتية الفرد وسط الحشد،الذات وسط جوقة أصوات مجهولة،الواحد/المتعدد.تمتد الغنائية المثيرة لهذه القصيدة الطويلة بين مسالك أناشيد عدة، لاتشكل فصولا لكنها بالأحرى محطات يبدي إبانها الشاعر عن شهادة حول فترة تاريخية،مكان ما،شخص أو وجه رمزي.أبانت هذه الكتابة عن صياغة موسيقية للجمل مميزة جدا،تنبعث من :”صدى كوكبي يتردد مع الخطوات وبين كلمات”الشاعر.ثم نخوض غمار ذلك أو نمتنع.

لكن حتى وإن انغمست أناشيد أدونيادة في الفكر/ الصورة أو الصمت،يصبح إصغاؤنا عائما أكثر وعميقا للغاية، يعود بنا إلى حالات فكرية ،مألوفة جدا لدينا ومعهودة كثيرا،حينئذ سندرك حدسيا إلى أي حد تعتبر :”القصيدة مستقبل التنوير”.

      *هوامش :
مصدر المقالة :
1-Benedicte Letellier :Adoniada ;edition Seuil ; Mars 2021.PP7-14.
2-Henri Meschonic :manifeste pour un parti du rythme ;verdier 2001.P :298.
3-زمن الشعر، دار الساقي ،ص 146 .
4-Yves Bonnefoy : L âge d or de la littérature secondaire(2002) ;l imaginaire metaphysique(2006) ;p 147.
5-Jean Maulpoix :identité et figuration ;le poète perplexe ;corti 2002.p ;209.
6-Charles Vellay :Le culte et les fêtes d Adonis-Thammouz dans l orient antique ;Ernest le creux ;éditeur p :15.
7-Octavio Paz : L  Arc et la lyre.Gallimard 1965.p :205.
8- Jean-Michel  Maulpoix, «La patience de la voix», Adieux au poème, Paris, José Corti, 2005, p. 243.
9- Yves Bonnefoy, La Vérité de parole et autres essais, Paris, Mercure de France, 1992.
10- Henri Meschonnic, Vivre poème, Éditions Dumerchez, 2006.
11- Yves Bonnefoy, «L’âge d’or de la littérature secondaire », op. cit., p. 159.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *