في تناسخ النصوص: من أبي تمّام إلى أدونيس

*منصف الوهايبي

هل من حقّ الشاعر أو الكاتب أن يتستّر على مصادر نصّه أو بعضها؟ بل أهو ملزم بأن يكشف للقارئ عنها؟ كانت هذه بعض الأسئلة التي أثرتها في رسالة جامعيّة لي عن تجربة أدونيس، أشرف عليها أستاذنا الراحل توفيق بكار، وناقشتها منذ ثلاثين سنة، وقد نالني بسببها ما نالني من أدونيس، في رسالة طويلة قد أنشرها ذات يوم. وممّا جاء فيها: «تندرج هذه الأطروحة في إطار «النقد» الأكاديمي الجامعي. وهو ما أسمّيه بنقد «المطاردة»: «الناقد» صيّاد يطارد «المنقود» بغاية «قتله»؛ وهو يقوم على الاتهام أساسا» باريس 23/4/1989. وأثمرت هذه الأطروحة كتاب الباحث والكاتب العراقي كاظم جهاد «أدونيس منتحلا»، وقد خصّني فيه بفصل وسمه بـ»كشوفات ».
لا أحبّ في هذا المقال أن أعود إلى بحثي، ولا إلى ما حفّ به، وبيني وبينه حجب من الزمان، وربّما المكان، وإنّما إلى هذه القضيّة الشائكة «تناسخ النصوص»، في ثقافة مثل ثقافة العرب برحت مداراتها المألوفة منذ الثلث الأوّل من القرن الماضي أو قبله بقليل، وانخرطت بجرأة حينا، وبتردّد وارتباك حينا آخر؛ في الوافد عليها من آداب الأمم الغربيّة. لأعد إلى السؤال الذي افتتحت به، ولأبادر بالقول إنّ الشعراء كما كان يقول الفرزدق «أسرق من الصاغة». وفي التجارب الشعريّة الكبرى أو الاستثنائيّة، تتزاحم النصوص وتتعاقد وتتدافع وتتجاذب، ويكون لبعضها سلطان؛ فـ»يستقلّ» بنفسه ويكتسب خصوصيّته، أو يجعله يقوم مقام خلفيّة له. وليست الصعوبة في الاهتداء إلى أثر السابق فحسب، فهذه قد يذلّلها الحس الشعري المدرّب والثقافة الواسعة، إنّما الصعوبة في الكشف عما يشتمل عليه النص المتناسخ من مذخور المعاني ومخزون اللطائف والأسرار.
يتّخذ حلول نصّ في نصّ هيئات مختلفة قد يكون أيسرها النقل أو التقليد والمحاكاة. وفي هذه الحال يتستّر الناقل أو المقلّد وراء الآخر (الغائب) أو يتكلّم بلسانه أو يتقمّص شخصيّته؛ ويتيّسر للقارئ أن يتميّز خصائص النصّ الأسلوبيّة، وأن ينفذ إلى النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وينتقل من ثمة إلى جَنِيسِه؛ دون أن يهتدي بالضرورة إلى صاحبه. وكثير من القصائد القديمة متّهمة الأصل مجهولة النسب، أو هي تُنسب إلى هذا الشاعر أو ذاك، وكثير من النصوص الصوفيّة أيضا، يمكن أن تنسب إلى شيخ هذه الطريقة أو تلك .
وقد يتّخذ الحلول هيئة أكثر خفاء، كما هو الشأن عند أبي تمّام أو أدونيس وغيرهما. وقد يحسّها القارئ إحساسا غامضا. وقد يصدق إحساسه، لكنّ الذاكرة تخذله، فلا تهتدي إلى النصوص الخفيّة ولا إلى مؤلّفيها. وأقتصر لضيق المجال، على أمثلة قليلة. من ذلك قول أبي تمّام في الخمرة:
صعبتْ وراضَ الماءُ سيّءَ خَلقها
فتعلّمتْ مـن حسن خلْق الماءِ
وضعيفةٌ فإذا أصابتْ قــــدرةً
قتلــتْ كذلك قدرةُ الضّــــــــعفاءِ
فهذه الاستعارات اللطيفة تقع في الفجوات ما بيت القديم والمحدث، وتتردّد في جنباتها أصداء من هذا ومن ذاك، تسمها وتعلّم لها علاماتها. وقد حمل القدماء البيت الأوّل على بيت أبي نواس:
ألا دارِها بالماء حتى تلينَها
فلن تُكرمَ الصّهباءَ حتّى تهينَها
وحملوا البيت الثاني على بيت جرير في الغزل، تارة، من قصيدة مأثورة في هجاء الأخطل، قدّم لها بالنسيب (ويروى «إنسانا» مكان «أركانا»):
يصرعنَ ذا اللّبّ حتّى لا حراك بهِ
وهنّ أضعفُ خلْق الله أركانَا
وعلى بيت عمارة بن عقيل في الغزل، طورا :
ضعائفُ يقتلن الرّجال بلا دمٍ
فيا عجبا للقاتلات الضّعائفِ
وقالوا إنّ الخمر على شدّتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثر منها قتلت، وإنّ الشاعر ألمّ بقول هذين في النّساء فصيّره في الخمرة. وهذه قراءة تكاد لا ترى في أيّ بيت من هذه الأبيات المتناسخة، ميزته التي يتميّز بها أو سمته التي يتّسم بها؛ وإن كنّا لا نعدم فيها إشارات خاطفة إلى «المختلف» فيها، أو هذا «التناسخ النّصّي». إنّما هي قراءة «خطّية» تكاد تنحصر في إنتاج المعنى؛ أو هي قراءة «عاكسة» تردّ محدثا على محدث تارة (بيت أبي تمّام/ بيت أبي نواس وعلى قديم طورا (بيت أبي تمّام/ بيت جرير) وكأنّها تردّ فرعا على أصل وآخر على أوّل؛ وتجعل من الصّورة مسطّحا عاكسا يقع عليه ما يقع من شعر الآخرين، وقد غيّر الشّاعر وجهته ونقله من غرض إلى آخر. من ذلك أيضا قول أبي تمّام في وصف الحِلم (العقل واللبّ والصفح عند المقدرة):
رقيق حواشي الحلم لو أنّ حِلمه
بكفّيكَ ما ماريتَ في أنّه برْدُ
فقد تنبّه ابن المستوفي الأربلي إلى أنّه منقول من أبيات لأحد الأعراب:
رقيق حواشي الحِلم حين
تثوره يريك الهوينى والأمور تطيرُ
وذكر أنّه من أبيات ثلاثة في كتاب «الخطّ والقلم» لابن قتيبة.
يدير الخطاب إذن أشكالا شتّى من التّورية والإيهام والمشاكلة والتّجريد والتّلميح والإشارة. وهي أشكال يعبُر منها المتكلّم إلى دليل لغويّ آخر، إمّا لاجتناب التّصريح أو للإخفاء والمواربة، وإمّا لقول شيء لا يمكن قوله بطريقة أخرى. والتناسخ في الحال الأولى مقصود، أملى على الذّات أن تخفي وتواري وتحجب. ومن الطبيعيّ أن يخفي شاعر مثل أبي تمّام مصادره الشّعريّة، خاصّة ما لم يكن منها معروفا متداولا، بما لا يمسك عليه؛ كأن يأتي على سبيل الإيهام أو ما يسمّيه بلاغيّو العرب «التّوجيه»، بكلام يحتمل معنيين متضادّين: رقّة الحِلم من جهة، وصفاقة البرد ومتانته من جهة أخرى. وفي حيّزها صمت ما أو «مسكوت عنه». وهو أنمّ على الأخذ أو النّقل، من العبارة الأصليّة المنقولة حرفيّا. والجهد في إخفاء الأثر ومحوه أو إسكات الأصل وإفحامه، جهد باطل عقيم، لأنّ الصورة التي تنشأ متنكّرة متقنّعة يمكن أن تظهر أكثر ممّا تخفي.
نقول من الطّبيعيّ أن يخفي الشّاعر مصادره، استئناسا بما نعرفه من فخره، ومن مباهاته بشعره، واحتفائه في غير موضع بأبكار قصائده ومعانيه. وعليه لا نتوقّع منه، في سياق فخريّ كهذا، أن ينوّه بمصادره أو يدلّ عليها؛ على نحو ما يفعل أدونيس وغيره.
فقول أدونيس: «وأنت افهمني، أيّها الضائع، أيّتها الشجرة المنكوسة يا شبيهي».
في «مفرد بصيغة الجمع» خطاب يزاوج بين صورتين استجلبهما الشاعر من سياقين مختلفين: صورة القارئ ـ الشبي « البودليرية (نسبة إلى بودلير)، وصورة «الانسان ـ الشجرة المنكوسة» الأفلاطونية.
وقوله: «هكذا عرفت الأنثى نفسها، عرف الذكر
يجتمعان بشهوة اللحم والعظم لإيداع الماء في بيته
يندفع الماء ـــ يكون له
سمع يمتلئ بتعويجات الصوت
أظافر تَهدي إلى مواضع الحكّ
رئة مروحة لحرارة القلب…»
صورة من صور التناسخ الشعري الفلسفي. يقول أفلاطون في « تيماوس» إنّ الآلهة ختمت على الروح بجسد فانٍ، ثم أودعتْ هذا الجسد روحا من نوع آخر هي النفس الفانية بغرائزها وشهواتها وعواطفها وميولها، ووضعت الروح في الرأس والنفس في الصدر، وفصلت بينهما ببرزخ الرقبة. ولأن الجزء من النفس الفانية أفضل من الآخر فقد سكنت الآلهة الأفضل بين العنق والعضلة التي تفصل التجويف الصدري والبطن، قريبا من الرأس، حتى يتسنّى لها أن تسمع الحكمة وتكبح الشهوات والنوازع الجامحة المتمردة على العقل. إنّ القلب وهو مستودع الأوردة ومنبع الدم فقائم كحارس خاصّ أو رقيب ينقل إلى الأعضاء أوامر العقل وإيعازاته؛ وفوقه غرزت الآلهة الرئة مروحة تنعشه وتهدّئُ من دقاتّه.
والحقّ أنّ أدونيس حاول في مقاطع من قصيدة «تكوين» أن ينقل صورة الجسد الأفلاطونيّة من سياق الفلسفة إلى سياق الشعر، ومن لغة المفاهيم إلى لغة الإشارات، لكنّ الصورة تأبى أن تنسلخ عن سياقها الأوّل، فتقف القصيدة حائرة مراوغة بين مساحة الفلسفة ومساحة الشعر، على الرغم من الجهد الواضح الذي بذله الشاعر في خرق النص الأوّل؛ ثم في رتقه بالتشبيه والاستعارة والإشارات واللمحات الموجزة المقتضبة، ومنع النص المتولّد أو المتناسخ، من الانسياح والتشتت في فضاء الآخر وثقافته.
في هذا النوع من تناسخ النصوص، تنطوي اللغة على نفسها، وتتحوّل من أداة للمعرفة إلى موضوع للمعرفة، وينشأ ضرب من الكتابة «الهجينة» بالمعنى النبيل للكلمة.
وعلى هذا الأساس تقوم الصلة بين النصوص المتناسخة، فتّتسع آفاق القراءة وتترامى، ويحمل القارئ حملا على تبيّن السابق وتمييز رواسبه في اللاحق، وعلى تبيّن اللاحق وتميّز إضافاته في السابق.

___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *